الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصرفية، ما بين جديدة ومدعّمة لأحكام معروفة (138).
فى البلاغة والإعجاز:
- فى القراءات لغات مختلفة كتحقيق الهمز وتخفيفه، والفتح والإمالة، وضم الهاء وكسرها فى نحو (عليهم)، وصلة الميم بواو فى نحو (إليهم)، وصلة الهاء بياء فى نحو (فيه)، إلى غير ذلك.
وهذه القراءات من أفصح لغات العرب، ولا يجوز الخروج عنها. وفى هذا نهوض بمستواهم فى اللغة، وتأنيس لهم، وتنشيط يدركه من يدركه، وترقية للتفكير، وسبب لزيادة التدبر.
وهى أمور من أغراض الأدباء بمكان- والقرآن وقراءاته المثل الأعلى فى البيان.
- وفى القراءات أساليب متنوعة، فمن غيبة فى قراءة إلى خطاب فى أخرى فى نفس الموضع، ومن تذكير إلى تأنيث، ومن إفراد إلى جمع، ومن، ومن
…
وهذا منهج أدبى تستريح إليه الحاسة البيانية، ويدعو إلى زيادة التأمل، ويشتمل على المعانى البلاغية (139) وما أكثرها فى القراءات.
- (وفى القراءات معان مختلفة كثيرة، غير متناقضة، وذلك حين تفيد القراءة معنى غير ما تفيده القراءة الأخرى فى نفس الموضع، مع إيجاز اللفظ، إذ تكون كل قراءة بمنزلة آية، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان فى ذلك من التطويل. وذلك من نهاية البلاغة، ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم)(140).
ونقتصر على قليل من النماذج الموضحة لبعض ما سبق فنقول:
- قوله تعالى: طه (طه: 1)(قرئ بفتح الطاء فتحا خالصا، وألف خالصة بعدها، وكذلك الهاء. وقرئ بإمالة فتحة الطاء إلى جهة الكسرة، وألفها إلى جهة الياء، وكذلك الهاء)(141). والقراءة بالإمالة كأنها نص فى كون الكلمتين (طا)، و (ها) اسمين لحرفين من حروف الهجاء، ولا يتأتى فيها أن يكون الأصل (طأها) أمرا من وطئ بمعنى:
دس عليها، أى على الأرض بقدميك (142).
وفى التركيز على كونهما اسمين لحرفين اهتمام بالإشارة إلى إعجاز القرآن من جهة التنبيه بسرد الحروف التى فى أوائل السور من مثل ن (القلم: 1)، حم (غافر: 1) على
أن القرآن مؤلف من حروف لغتكم ومع ذلك عجزتم عن الإتيان بمثله، فهو- إذن- من عند الله تعالى، ودليل على صحة النبوة والرسالة (143). فأفادت هذه القراءة أنه ينبغى الاعتناء بقضية الإعجاز ودليله.
(138) انظر السابق 802 - 812.
(139)
انظر السابق 782 - 786 مثلا.
(140)
انظر النشر 1/ 52، والتحرير والتنوير لابن عاشور 1/ 83 الدار التونسية للنشر 1984 م تونس- وغيرها.
(141)
انظر إتحاف فضلاء البشر 302.
(142)
انظر مثلا تفسير القرطبى 11/ 175 - 176.
(143)
انظر مثل روح المعانى للآلوسى فى أوائل تفسير سورة البقرة.
والقراءة بالفتح تحتمل الإشارة إلى دليل الإعجاز، وهو أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التى نسرد عليكم أسماء بعضها، وهى حروفكم وهو يتحداكم أن تأتوا منها بمثله، وأنتم الفصحاء، ومع ذلك عجزتم ولجأتم إلى السيوف والدماء بدلا من مقارعة الحجة بمثلها لو كنتم تملكونها. هذا معنى.
وتحتمل أنها تخفيف (طأها) بإبدال الهمزة ألفا، فتفيد معنى آخر، وهو الحكم بوضع الرّجل المرفوعة على الأرض، وترك ما يبلغ حد المشقة الداعية إلى المراوحة بين الرّجلين (144) من طول القيام فى صلاة الليل (145).
فلم تقتصر الفائدة على كون الفتح والإمالة من لغات القراءات ذات النهوض بالمستوى اللغوى- إلى آخر ما سبق- بل جاءت الثمرة، تلو الثمرة.
وهذا مع جملة ما يندرج تحت عنوان (أثر القراءات) أخذناه عن سلفنا الذين قالوا- بسببه: (إن القراءات من وجوه الإعجاز، وكماله، ومحاسنه)(146).
- وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (العنكبوت: 57) قرئ بالخطاب والغيبة (147). والخطاب للمؤمنين، وهو وعد لهم بحسن الجزاء، والغيبة يحتمل فيها أن تكون الواو للكافرين المعادين للمؤمنين، ويكون الكلام وعيدا لهم، وأن تكون الواو لكل نفس، ويكون الكلام وعدا للمؤمنين ووعيدا لغيرهم (148). وهذا من تعدد الأساليب، وتعدد المعانى، ومن فنون البلاغة العالية.
- وقوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (يونس: 78) قرئ (وتكون) بالتاء، وبالياء (149). والقائلون قوم فرعون، والمراد من المثنى موسى وهارون- عليهما السلام (150).
والقراءة بتاء المؤنث لأن (الكبرياء) مؤنث- وإن كان تأنيثه مجازيا. هذا هو الأصل المتعارف فى لغة العرب (151). ثم إن اللغة صدى لما فى النفس وتصوير لشعورها، والمؤنث فى المخلوقات ضعيف عادة بالقياس إلى المذكر، فالقراءة الأولى تشعر بأن القوم فى بعض أوقاتهم هوّنوا من شأن الكبرياء تزهيدا لموسى وأخيه فى ثمرة لا تستحق عناء محاولتهما المستحيل وهو ترك ما وجدوا عليه آباءهم، وعناء العداوة التى تتأجج بسبب تلك المحاولة. وهذا على ما يتصورون من أن غرضهما هو الحصول على الكبرياء فى الأرض. والقراءة بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقى فضلا عن أنه مفصول عن الفعل بقوله (لكما)(152). وتذكير الفعل مع المؤنث المجازى يكون للتعظيم والتفخيم (153).
(144) راوح بين رجليه: قام على كل منهما مرة. انظر المعجم الوسيط مادة (روح) وذلك لتسترح الرجل المرفوعة، ثم ينزلها ويرفع.
(145)
انظر تفسير القرطبى السابق.
(146)
انظر رسالة (القراءات
…
) ص 785 بهوامشها.
(147)
انظر النشر 2/ 343.
(148)
انظر التحرير والتنوير 21/ 22 - 23، ورسالة (القراءات
…
) ص 765.
(149)
انظر إتحاف فضلاء البشر 253.
(150)
انظر روح المعانى 11/ 165.
(151)
انظر باب الفاعل فى مثل حاشية الصبان على الأشمونى.
(152)
انظر روح المعانى السابق.
(153)
انظر شرح عقود الجمان للمرشدى 1/ 116 ط 2/ 1955 م الحلبى.
فتشعر هذه القراءة بأن القوم فى بعض أوقاتهم استعظموا الكسب الذى يحصل عليه موسى وأخوه- وهو الكبرياء فى الأرض على ما توهموا أنه غرضهما- لو نجحا فى صرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. فأفادت القراءتان معنيين، واستوفتا حالتى القوم اللتين اعتبرت كل حالة منهما القوم فى بعض الأوقات. ويجوز وجه آخر، وهو أن تكون قراءة التأنيث مفيدة لحالة فريق من القوم استصغر ثمرة الدعوة، وقراءة التذكير مفيدة لحالة فريق آخر منهم استعظمها- على الوجه المذكور فى الاستصغار والاستعظام.
وهذه المعانى، وهذا الاستيفاء للأحوال، والأوقات، والجماعات من البلاغة بمكان.
- وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ الأنعام:
115) (قرئ كلمة ربك) بالإفراد، و (كلمات ربك) بالجمع (154). (فالانفراد على إرادة الجنس)(155)، وهو معنى يقصده المتكلم.
(والجمع لتنوع الكلمات الربانية أمرا، ونهيا، ووعدا، ووعيدا)(156). وهو معنى آخر من مقاصد الكلام. وكل هذا يعدّ من التوسعات البيانية، ومن التخفيف النفسى حيث لا حبس على وجه واحد. وليس ممّا تختلف فيه لهجات العرب. وقوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ بالجمع وجها واحدا فاتفق معه الجمع فى القراءة الثانية، إذ الجمعان بمعنى واحد.
والإفراد فى القراءة الأولى ينوب عن الجمع؛ لأنه اسم جنس. وكل قراءة على انفرادها جاءت على أسلوب فصيح، واجتماعهما على موضع واحد أمر يمتاز به القرآن الكريم فى إيجازه وبلاغته الفائقة (157).
- وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (النساء: 94) قرئ (السلم) بدون ألف بعد اللام، وقرئ (السلام) بالألف (158). (وفسّر من ألقى السلم بأنه من استسلم فأظهر الانقياد لما دعى إليه من الإسلام. وفسر من ألقى السلام بأنه من أظهر تحية الإسلام، وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول فى الإسلام)(159).
إلى غير ذلك من قراءات كثيرة ذات معان شريفة وفيرة.
وبهذا قدمنا صورة- وإن كانت مصغرة جدا- لأثر القراءات فى بلاغة القرآن، وإعجازه. ولم يظهر أثرها فى علم البلاغة لوجهين: أحدهما: الاكتفاء بعلم إعجاز القرآن (160)، والآخر: أن علم البلاغة يقدم قواعد يستثمرها من يستطيع فيأتى بالكلام
(154) انظر النشر 2/ 262.
(155)
انظر الفتوحات الإلهية (الجمل على الجلالين) 2/ 81.
(156)
انظر السابق.
(157)
انظر رسالة (القراءات
…
) ص 456.
(158)
انظر النشر 2/ 251.
(159)
انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 247 ط باكستان بدون تاريخ.
(160)
وكتبه كثيرة، وأشهرها «إعجاز القرآن» للباقلانى، طبع مرارا، وحقق.