الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نقل الحافظ أن هناك روايات عن الصحابة تكشف عن أن منهم من كانت معه هاتان الآيتان، منها عن خزيمة بن ثابت، وعثمان، وأبى بن كعب- رضى الله عنهم (9).
فأبو خزيمة لم ينفرد بتلقيهما، بل تلقاهما الكثير. وقد ذهب إلى ذلك أيضا أبو حيان.
وأرى: أن نفى زيد بن ثابت لوجود الآيتين كان نفيا لوجودهما من كل وجه. ولكن من المعقول أن يكون زيد بن ثابت قد اقتصر فى بحثه على أهل المدينة، ولا يعقل أنه ذهب لكل الأماكن لتقصى ذلك، والصحابة فى المدينة كانوا قليلين. ونحن لا نوافق شيخنا غزلان فى افتراض ذهول الأكثرين مع اشتراطه فى أول الكلام أن يكون النقلة من حيث العدد ممن تحيل العادة عليهم النسيان.
وخلاصة القول: أن هاتين الآيتين توفر لهما من شروط النقل ما توفر لسائر آى القرآن. ولقد حققت الكتابة غايتها المقصودة.
والظاهر أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمة الجمع وحده، بل عاونه غيره كأبى بكر وعمر وأبى كما تفيده الروايات المتعددة كما ذكر الحافظ فى «الفتح» . ولقد تم الجمع فى العهد البكرى على أمثل ما يكون فى الاحتياط والعناية اللائقين بجلال القرآن.
ولقد عرف الصحابة لأبى بكر الصديق فضله حتى قال فيه علىّ: «أعظم الناس فى المصاحف أجرا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله» .
ومن أعظم فوائد الجمع فوق ما هو مقصود من حكمته الرئيسية الداعية إليه، اتصال السند الكتابى بالأخذ عن الصحف التى كتبت بين يدى النبىّ صلى الله عليه وسلم كاتصال السند المتواتر فى الرواية والتلقى على الشيوخ.
(ج) الجمع العثمانى للقرآن:
إذا كان الجمع الكتابى فى الصحف للقرآن قد تمّ فى العصر البكرى ليكون مرجعا للحفاظ عند إرادة العودة إليه، فقد كان الجمع العثمانى لغرض وداع آخر هو: تجريد
جميع المصاحف والصحف مما ليس بقرآن كالدعوات المأثورة، والتفسير، وما نسخت تلاوته، وحاشا أن يلبسوا على من بعدهم، ولكن ذلك كان بغرض حفظ القرآن وذلك بعد تفرق الصحابة الذين تلقيت القراءات على أيديهم فى الأمصار، وربما فسر صحابى لفظا غريبا أو معنى وألحقه تلامذته على مصاحفهم فوجدت فى المصاحف أشياء مذكورة ودعوات مثل دعاء الحفد والخلع، حتى استفحل الأمر، واتسع الخرق؛ فرأى الخليفة الراشد عثمان تدارك هذا الأمر، وجمع الناس على مصحف واحد جرده من كل هذه المصاحف، ونفى عنه كل ما ليس بقرآن، فى مصحف واحد يجرده من عين المصاحف البكرية التى لم يكن فيها إلا القرآن فحسب، على ما أخرج البخارى رضي الله عنه فى جمع القرآن
(9) انظر: فتح البارى: (ح 9 ص 11 - 12).
هذا هو الباعث على جمع عثمان للمصاحف فى مصحف واحد، وليس كما قال بعضهم: من أن السبب فى الاختلاف كانت الأحرف السبعة. وقد فندنا هذه الدعوى فى مبحث الأحرف السبعة. ولا نريد أن نعيد استدلالا، ولكن لو كانت الأحرف قد أخذ عثمان بحرف واحد منها فكيف وصلت القراءات إلينا بالتواتر. ودعوى أن هذا كله حرف قريش مكابرة. ولو كان كذلك لجمعهم على حرف واحد بدون اختلاف فى أدائه، وإلا لكان بقاء القراءات مانعا من الوصول لدرء الخلاف على زعمهم، والمصحف العثمانى كالمصحف البكرى فى جمعه للأحرف السبعة.
فخبرنى بربك إذا كان من القراءات التى تركها عثمان ما قد يختلف معناه اختلافا بينا عن القراءة الأخرى، إلى حد يصل إلى عدم جواز اجتماع المعنيين أحيانا فى شىء واحد؛ لكونهما نفيا وإثباتا مثلا، وإنما تتفق القراءتان إذ ذاك من وجه آخر لا يقتضى التضاد، وذلك كقراءة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (10) بكسر اللام الأولى من (لتزول) وفتح الثانية على أن «إن» نافية نفت إزالة مكرهم للجبال، وقرئت بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى على أن «إن» مخففة من الثقيلة واللام الأولى المفتوحة هى الفارقة بين «إن» النافية و «إن» المخففة المهملة. والمعنى على هذه القراءة:«إن مكرهم يزيل الجبال» .
والقراءتان سبعيتان متواترتان بلا شبهة ومعناهما لا يمكن أن يجتمع فى شىء واحد كما ترى. وإن اتفقا من وجه آخر لا يقتضى التضاد، بل تكون معه الآية على غاية من الاستقامة والسداد، فيراد من الجبال على
(10) سورة إبراهيم 46.
قراءة النفى أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، ويراد منها على قراءة الإثبات الجبال الحقيقية- والمسألة مبسوطة فى كتب التفسير وفى «النشر» لابن الجزرى.
نقول: إذا كان من القراءات ما قد يختلف فأيهما كان أدعى للخلاف على النحو الذى زعموا، وأيهما كان أرفع له؟. أهو اختلاف المعنى البالغ هذا الحد. أم هو مجرد اختلاف الألفاظ المترادفة المتفقة المعنى تماما على ما زعموا فى المراد من الأحرف؟ أفيقع الخلاف بسبب تعدد تلك الألفاظ المترادفة ليرفعه عثمان بإبقاء واحد فقط من تلك الألفاظ؟ أم يقع بسبب مثل هذا الاختلاف البالغ فى المعنى ويكون أجدر بدرجات أن يرفع لأجله عثمان إحدى القراءتين؟. فإذا أبقى عثمان رضي الله عنه هاتين القراءتين جميعا- مع أن الأمر فيهما هو على الاختيار لأى منهما- فما ذاك إلا لكونه لا يستجيز، بل لا يجرؤ هو ولا غيره حتى لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على حذف شىء مما أنزله الله ولم يأذن برفعه. وهكذا كان رضى الأصحاب أيضا، إذن- معالجة عثمان للخلاف هو على النحو الذى وصفنا من هذا الخلاف، ودفعه- أعنى تجريد عثمان للمصحف- من كل ما ليس بقرآن، وإحراق كل ما يشتمل مع القرآن على غيره من الصحف أو المصاحف، أخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» بسند صحيح- كما قال الحافظ- من طريق سويد ابن غفلة قال:«قال علىّ: لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا، فو الله ما فعل الذى فعل فى المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون فى هذه القراءة، فقد بلغنى أن بعضهم يقول: إن قراءتى خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت» .
وهكذا تم لعثمان ما أراد من هذا الجمع بمرضاة من الصحابة.
مشكلة عرضت فى هذا الجمع شبيهة بأختها فى الجمع البكرى والحل هو نفس الحل:
أخرج البخارى فى سورة الأحزاب من كتاب التفسير عن زيد بن ثابت أنه قال: «لما نسخنا المصحف فى المصاحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصارى الذى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. قال الحافظ فى «الفتح» :
«هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، لكن فيه إشكال، لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده والقرآن إنما يثبت
بالتواتر، والذى يظهر فى الجواب أن الذى أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره، و «يدل على هذا قوله فى حديث جمع القرآن: فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب».
كم مصحفا نسخ عثمان من الصحف البكرية؟ اختلف الناس فى عدد المصاحف التى نسخها عثمان من الصحف، وأقل ما قيل فى العدد: أربعة، وأكثر ما قيل تسعة، والظاهر الذى يتفق مع طبيعة الأمور هو وفرة العدد ولا سيما مع قول أنس بن مالك فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى هذا الجمع:
«وأرسل إلى كل أفق بمصحف» ، فإنه صريح فى أن المصاحف كانت بعدد الأقطار التى انتشر فيها الإسلام، وإنما كان هذا متفقا مع طبيعة الأمور لأن الغرض هو القضاء على خلاف المختلفين وجمع الكل على مصحف واحد، ولا يتحقق هذا على الوجه الصحيح إلا بأن يرسل إلى كل أفق بمصحف كما قال أنس رضي الله عنه.
أين ذهبت الصحف البكرية؟ تبين من حديث زيد بن ثابت فى الجمع البكرى أن الصحف التى جمع فيها القرآن ظلت عند أبى بكر حتى مات، ثم عند عمر حتى مات، ثم عند حفصة. كما تبين من حديث أنس فى الجمع العثمانى أنهم لما نسخوا الصحف فى المصاحف ردها عثمان إلى حفصة. فبقيت عند حفصة طول حياتها دون أن تبالى- رضى الله عنها- بطلب مروان بن الحكم- الذى ولى المدينة بعد وفاة علىّ من قبل معاوية بعد أن آل الأمر إليه- المتكرر لتلك الصحف، فلما ماتت أرسل إلى أخيها عبد الله ابن عمر بالعزيمة أن يرسل إليه بالصحف ففعل، فشققها مروان ثم غسلها بعد ذلك، أو حرقها، أو فعل الأمرين على ما تفيده الروايات التى ذكر الحافظ فى «الفتح» فى هذا المقام.
والله أعلم.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة