الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذى نزل بحكم ما على سبب خاص لا خلاف فى تعميم حكمه على كل الحالات التى يتناولها، من أفراد السبب وغيرها، لكن الخلاف فى كيفية استفادة الحكم بالنسبة لأفراد غير السبب (55): فالجمهور يرى أن استفادة الحكم فيها بطريق النص كما فى أفراد السبب، أما غيرهم فيرون أن الحكم فى صورة غير السبب يكون بطريق القياس وليس بالنص، بمعنى أنهم لا يقولون بامتناع ثبوت الحكم فى غير صورة السبب مما هو من نوعه بل يقولون بتعديته إليه بطريق القياس، أما أدلتهم فهى كما يلى:
أولا: أدلة الجمهور:
(أ) أن المعوّل فى الاحتجاج على لفظ الشارع وحده- أى النص القرآنى- لا على السؤال أو السبب الذى نزلت الآيات فى شأنه؛ لهذا نرى أن اللفظ القرآنى فى بعض الأحوال قد يعدل بالجواب عن سنن السؤال وذلك لحكمة وفائدة فى مجال التوجيه والتربية، كأن يرد السؤال عن شىء بذاته، فيوجه الجواب السائل إلى شىء آخر هو أولى بالاهتمام وهو الذى كان من المفروض أن تتحرّى معرفته، وذلك كما فى قول الله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ البقرة/ 215.
فالسؤال فى الآية قد توخى معرفة ما ينبغى أن ينفق، والجواب توخى الإعلام بالجهات التى ينبغى أن توجه إليها النفقة لأنه أنسب فى هذا الموضع.
(ب) أن اللفظ القرآنى عام فيجب بقاؤه على عمومه، لأن الأصل فى الألفاظ حملها على معانيها الأصلية المتبادرة، ولا يجوز صرف اللفظ عن معناه الذى وضع له إلا لقرينة تمنع بقاءه على هذا الأصل، وكون اللفظ القرآنى قد نزل على سبب خاص، فذلك ليس قرينة على التخصيص، لأنه لا مانع أن يكون السبب الخاص وسيلة لبيان حكمه، وحكم كل ما هو على شاكلته، بل إن العدول- فى ذاته- عن ربط الحكم بالخاص إلى ربطه بالعام دليل على قصد العموم.
(ج) أن الصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- ومن بعدهم قد تمسكوا- فيما نزل على أسباب خاصة- بما أفادته ألفاظ القرآن النازل من العموم، واحتجوا بذلك على وقائع لم تكن أسبابا لنزول الآيات، بل شابهتها، وذلك من غير حاجة إلى دليل آخر كالقياس ونحوه.
فنراهم قد استدلوا على حكم الظهار، وما
(55) لأن الجميع متفقون على أن استفادة الحكم بالنسبة لأفراد السبب بطريق النص.
ينبغى أن يفعله من يظاهر من زوجته- عند العود- من الإتيان بالكفارة: من تحرير الرقبة، أو الصيام، أو الإطعام، وأن ذلك لكل مظاهر. أقول: استدلوا على ذلك بعموم ما ورد فى قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ المجادلة/ 3، 4. مع أن السبب فى نزول هذه الآيات هو فعل أوس بن الصامت رضي الله عنه، لما ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة كما سيأتى بيانه فى موضع قادم إن شاء الله تعالى.
والصحابة- رضوان الله تعالى عليهم- من العرب الخلّص، الذين يعرفون بسليقتهم ما تفيده الألفاظ العربية، ولو كان ورود العام على سبب خاص يستلزم قصره عليه- فيما عهدوه من لغتهم- لما ذهبوا إلى هذا التعميم ولوقفوا عند مقتضى التخصيص، ولكن ذلك لم ينقل عنهم.
بل أصرح من هذا: أنه قد ورد عنهم ما ينص على هذا التعميم، قال ابن جرير الطبرى رحمه الله تعالى: «حدثنى محمد بن أبى معشر، قال: أخبرنى أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيدا المقبرى يذاكر محمد بن كعب، فقال: إن فى بعض الكتب: إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، لبسوا منسوك الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى:
أعلى يجترئون، وبى يغترون؟ وعزتى لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب: هذا فى كتاب الله جل ثناؤه، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال:
قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ البقرة/ 204، 205 فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل فى الرجل ثم تكون عامة بعد» (56).
وشبيه بذلك ما صرح فيه عقب نزول بعض الآيات باعتبار عموم لفظه، على الرغم من خصوص سببه كما جاء فى الحديث التالى:
عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ
(56) جامع البيان عن تأويل آى القرآن: لمحمد بن جرير الطبرى: دار الفكر بيروت، 1408 هـ 1988، (2/ 323).