الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8) سنن الخلق
الله- سبحانه وتعالى هو الخالق البارئ المصور، إنه خالق كل شىء بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)(1).
لقد أكرمنا الله- سبحانه- ونحن نستعرض فى القرآن الكريم الآيات التى تحمل سنن الخلق وهى كثيرة وخصيبة وهادية ومرشدة وكافية وشافية ومقنعة ومعجزة، ووقفنا أمامها كما ينبغى للعبد أن يقف أمام كلمات خالقه، خالق الكون بكل ما فيه، وتحيرنا بأى الآيات نبدأ هذه الشريحة من آيات سنن الخلق، فإذا بنا ونحن نقرأ سورة الأنعام وما حفلت به من سنن الخلق تقع أعيننا على الآيتين سالفتى الذكر وفيهما تتكرر عبارة خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ففي الآية الأولى يقول جل وعز: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وفى الآية الثانية يقول عز وجل: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فاستخرنا الله وجعلنا الآيتين استهلالا للحديث عن سنن الخلق.
وإنه بسبب وفرة آيات سنن الخلق وثرائها فى نطاق القداسة الربانية رأينا أن نتناول ما يتيسر تناوله منها فى نطاقين: نطاق الآيات التى يمكن أن نطلق عليها الآيات الكونية، والجانب الآخر هو نطاق الإنسان وما يتصل به باعتبار أن الله- سبحانه- كرمه بين خلقه واستخلفه فى أرضه، وسخر له كل شىء.
سنن الله فى الآيات الكونية:
إن كلّ الآيات الكونية متضمنة «خلق السموات والأرض» إذ منهما يتشكل الكون الذى عرف الإنسان منه النزر اليسير، وغاب عنه الكثير الوفير، وبمضى الأزمنة يكتشف الإنسان ما يتيسر له اكتشافه بالعقل الذى وهبه الله إياه والعلم الذى فرض الله عليه طلبه.
والذى يلاحظه قارئ آيات الكتاب العزيز:
أن الآيات الكونية بعد أن يذكر فيها خلق السموات والأرض، يجدها مليئة بعد
(1) الأنعام الآيتان 101، 102.
ذلك بالعديد المتباين من سنن الله خلقا وإبداعا.
يقول الله جل شأنه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (2).
بعد استهلال الآية بذكر الله للسماوات والأرض، نجد فيضا من نعم الله التى أنعم بها على خلقه من نزول الغيث وإخراج الثمرات وتسخير الفلك للإنسان تجرى به فى البحار، بل وسخر لهم الشمس والقمر دائبين، وسخر الليل والنهار فلكل منهما شأن ثم أجابهم الله إلى كل ما سألوه من نعمه التى يعجزون عن إحصائها.
وعلى النسق نفسه من ذكر سنن الله فى خلقه، وإسباغ نعمه عليهم يقول الله عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)(3).
إن هذه الآية من سورة البقرة، تحمل من الألفاظ والمسميات كثيرا مما تحمله الآيات السابقة من سورة إبراهيم، ومن ثم يذهب الظن بل اليقين عند بعض من لا يعرفون العربية وبخاصة من المستشرقين، أن فى القرآن الكريم ما يطلقون عليه ظاهرة التكرار، وقد وقع فى الخطأ نفسه بعض أبناء المسلمين ممن درسوا على تلك الطائفة من المستشرقين، وغاب عنهم أن اللفظ الذى تكرر فى آيات سورة إبراهيم وآية البقرة، يؤدى وظيفة تختلف من حيث الهدف والمنهج عن تلك الوظيفة التى أدتها هناك، فالماء فى الآيات الأولى نزل على أرض خصبة فأخرج من الثمرات رزقا، والماء فى الآية الأخرى نزل على أرض ميتة فأحياها لتكون صالحة للغرس والإثمار، والفلك فى الآية الأولى مسخرة بأمر الله لنفع الناس، والفلك فى الآية الثانية تجرى أيضا بما ينفع الناس.
ولكن الهدف من ذكرها هنا كونها آية لبرهان على قدرة الله عند القوم الذين يعقلون، وكذلك الشأن فيما يتعلق بذكر الليل والنهار، فإن ذكرهما فى الآيات من سورة إبراهيم نعمة سخرها الله للناس على النحو الذى بيناه هناك، وأما ذكرهما فى آية البقرة فإنما
(2) سورة إبراهيم الآيات 32 - 34.
(3)
سورة البقرة الآية 64.
جاء على سبيل الإقناع إذ الهدف من ذكرهما هو أن كلا من الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر بصورة دائمة لا تتبدل ولا تتوقف، ومثل ذلك كثير فى آيات الكتاب العزيز التى لا يفقهها إلا من توفرت لديه أدوات فهم اللغة العربية، فضلا عن أن ثمة شروطا كثيرة حددها علماء الأمة ينبغى توفرها عند من يعرض لتفسير القرآن الكريم.
نعود مرة أخرى إلى المنهج الذى سرنا عليه فى ارتباط ذكر خلق السموات والأرض فى آيات كتاب الله الكونية لتتمثل بقول الله عز وجل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)(4).
وإن وقفة التدبر هنا موقعها معجزة خلق الكون، ممثلا فى السموات والأرض فى ستة أيام، ثم الاستواء على العرش، وفى تتابع الليل والنهار بصورة أكثر تفصيلا، وهى كون الليل والنهار يغشى أحدهما الآخر حثيثا؛ أى أن الليل يغطى على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعا حتى يدركه. (5)
وإذا كان الكون كله من إبداع الخالق الأعظم، فمن المقطوع به أن الشمس والقمر والنجوم مسخرة جميعا بأمر الله، والآية جميعها موقوفة على الجزء السماوى من سنن الله الكونية؛ إعجازا وإدراكا لجميع البشر، ومن ثم كان ختامها متسقا مع مدلولاتها وذلك بقول الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ومعجزة الخلق فى ستة أيام يراها القرطبى أنها مثيلة لأيام الدنيا ويقول: «لو أراد لخلقها فى لحظة، ولكنه سبحانه أراد أن يعلّم العباد التثبّت فى الأمور» (6).
وفى آية أخرى يقول- جل وعزّ- لتأكيد فترة الخلق فى ستة أيام: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)(7).
وموقع التدبر هنا أن عرش الله كان على الماء، ويرى الزمخشرى أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض (8)، فإذا عدنا إلى الماء موضع التدبر وجدنا فى الآية توبيخا لكفار مكة لأنهم ينكرون البعث والنشور.
ومن الآيات الكونية المترعة بالسنن الإلهية- بدون ذكر خلق السموات والأرض- قول الله عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
(4) الأعراف الآية 54.
(5)
صفوة التفاسير المجلد الأول صفحة 450 الطبعة الرابعة.
(6)
تفسير القرطبى المجلد السابع صفحة 217.
(7)
سورة هود الآية 7.
(8)
الكشاف المجلد الثانى صفحة 380.
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)(9).
تضم هذه الآية أربعة عناصر تمثل سننا إلهية، وهى موضوع اهتمام الخلق جميعا، إنها الليل والنهار والشمس والقمر، وليس عجبا أن كل اثنين من هذه المعالم الأربعة مرتبط بقرين له، فالليل والقمر مرتبط أحدهما بالآخر، وكذلك النهار والشمس مرتبط كلاهما بالآخر، وهى جميعا تمثل سننا إلهية ذكرت كل واحدة منها فى القرآن الكريم عشرات المرات.
وفيما يتعلق بذكر الليل والنهار، فإن ثمة نوعا من التكافؤ حادث بينهما إذ لا غنى للعيش بدونهما، وإذا كانت آية الأعراف تضمنت قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً حسبما مرّ بنا قبل قليل، فإن الأمر يختلف هنا، إذ يقول المولى عز وجل:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ، وليس ذلك من قبيل التضاد، وإنما هو من قبيل الموازنة والمساواة بين قيمة كل من الليل والنهار.
وأما ذكر الشمس والقمر مقترنين أحدهما بالآخر، فتلك من سنن الله الخالدة الباقية إلى أن تقوم الساعة، ويتجلى ذلك فى قوله عز وجل: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39).
وإذا كان بعض المفسرين لم يصل اجتهاده إلى المعنى القرآنى، فإن المفسرين المحدثين قد وفقوا إلى المراد من الآية؛ وهو أن الشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة فى موضعها ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة فى مكانها، وإنما هى تجرى فى اتجاه واحد فى الفضاء الكونى الهائل، ولا بأس بهذا التفسير، وإنما نحن
نوضح أنها فى سيرها محكومة بالمجرة التى تضم ملايين الشموس الأخرى، ولعل شمسنا التى أطلعنا الله عليها، والتى جعلها مصدرا من مصادر حياتنا هى- على ضخامتها الهائلة- من أصغر شموس المجرة التى تحتويها وتعرف بمجرة سكة اللبان، وهذه المجرة التى لا تعرف بدايتها من نهايتها، هى واحدة من ملايين المجرات التى يضمها الكون الذى خلقه الله جلت قدرته بغير حدود.
هذا وإن الشمس فى جريانها تتحرك بقدرة السميع العليم. ولا يفوتنا فى هذا المقام الذى جرى فيه توصيف الشمس، أنها مسخرة هى والقمر لعوامل أرادها لهما الخلاق
(9) سورة يس الآيات 38 - 40.
العظيم وذلك فى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (10).
ولعل من خير ما جاء به المفسرون من قدامى ومحدثين فى هذا المقام، هو ما قال به أخونا فى الله الشيخ محمد على الصابونى برغم إيجازه الشديد:«أن الله- سبحانه وتعالى ذلل الشمس لمصالح العباد، كل يسير بقدرته- تعالى- إلى زمن معين هو زمن فناء الأرض» (11).
على أن أحدث ما كتب فى شأن سنة الله فى تسخير الشمس والقمر، وأقربه إلى المراد القرآنى هو ما سطره أخونا فى الله الدكتور زغلول النجار بقوله: «من معانى تسخير كل من الشمس والقمر ضبط حركة كل منهما لما فيه صلاح الكون واستقامة الحياة على وجه الأرض، ومن معانى أن كلا منهما يجرى إلى أجل مسمى أن الكون ليس بأزلى ولا بأبدى، بل كانت له فى الأصل بداية تحاول العلوم المكتسبة تحديدها، وكل ما له بداية لا بدّ وأن تكون له فى يوم من الأيام نهاية، لها من الشواهد الحسية فى كل من الشمس والقمر ما يؤكد على حتميتها، والحقائق القاطعة بتسخير الشمس عديدة جدا منها:
(1)
الاتزان الشديد بين تجاذب مكونات الشمس وتمددها
…
وقد بقيت الشمس مستمرة فى الوجود تحت هذا التوازن العجيب على مدى عشرة بلايين من السنين على أقل تقدير وإلى أن يرث الله- تعالى- الكون ومن فيه، ولولا هذا التوازن الدقيق لانفجرت الشمس كقنبلة نووية عملاقة أو لانهارت على ذاتها تحت ضغط جاذبيتها خاصة وأنها مجرد كرة ضخمة من الغازات.
(2)
تسخير طاقة الشمس من أجل ضبط حركة الحياة على الأرض، ذلك أن الشمس تطلق من مختلف صور الطاقة ما يقدّر بحوالى خمسمائة ألف مليون مليون مليون (ثلاث مرات) حصان فى كل ثانية من ثوانى عمرها، ويصل إلى الأرض من هذا الكمّ الهائل من الطاقة حوالى الواحد فى الألف، وبدون هذه الطاقة الشمسية تستحيل الحياة على كوكبنا؛ لأن كلا من النبات والحيوان والإنسان يعتمد فى وجوده بعد إرادة الله الخالق- سبحانه وتعالى على قدر الطاقة الذى يصله من أشعة الشمس، كذلك وإن كل الظواهر الفطرية التى تحدث على الأرض وما حولها تعتمد على الطاقة القادمة إلينا من الشمس، فتصريف الرياح وإرسال السحاب وإنزال المطر وبقية دورة الماء حول
(10) سورة الرعد الآية الثانية.
(11)
صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة 73.
الأرض، وما يصاحب ذلك من تسوية وتمهيد لسطح الأرض، وشق الفجاج والسبل فيها وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها، وخزن الماء تحت سطح الأرض، وتكوين التربة والصخور الرسوبية، وحركات الأمواج فى البحار والمحيطات، وعمليات المد والجزر، وغير ذلك من عمليات وظواهر، تحركها طاقة الشمس بإرادة الله.
(3)
تكوين نطق الحماية المختلفة للأرض بفعل طاقة الشمس، ذلك أن إرادة الله شاءت أن يحمى الحياة على سطح الأرض بعدد من نطق الحماية التى لعبت أشعة الشمس- ولا تزال- الدور الأول فى تكوينها بعد إرادة الله، منها النطاق المغناطيسى للأرض وأحزمة الإشعاع ونطاق الأوزون، وهذه النطق تتعاون فى حماية الأرض من كل من الأشعة فوق البنفسجية والكونية، ومن الجسيمات الكونية الدقيقة والكبيرة التى منها النيازك والشهب، ولو لم تكن هذه النطق موجودة لاستحالت الحياة على الأرض، وإن وجود هذه النطق صورة من صور التسخير التى لم تكن معروفة فى زمن الوحى بالقرآن الكريم، ولا بعد قرون متطاولة من تنزيله حتى نهايات القرن العشرين الميلادى.
(4)
تحديد الزمن، إذ أنه يتحدد كل من الليل والنهار ويوم الأرض وشهورها وفصولها وسنيها بدورة الأرض حول محورها، وبسبحها فى مدارها حول الشمس، وبذلك يستطيع الإنسان إدراك الزمن وتحديد الأوقات والتاريخ للأحداث، فبدورة الأرض حول محورها أمام الشمس يتبادل الليل والنهار ويتحدد يوم الأرض.
وبسبح الأرض فى مدارها حول الشمس بمحور مائل على الأفق تتحدد الفصول المناخية من الربيع والصيف والخريف والشتاء، كما تتحدد سنة الأرض التى يتقاسمها اثنا عشر شهرا شمسيا تحددها بروج السماء الاثنا عشر المتتابعة» (12).
هذا بيان بتفسير سنة الله فى تسخير الشمس، ثم نعود إلى سورة يس مرة أخرى وننعم النظر فى قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
يقول ابن كثير فى تفسير هذه الظاهرة الكونية الإلهية: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ؛ أى جعلناه يسير سيرا آخر- غير سير الشمس- يستدل به على معنى الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار كما قال عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ويمضى
(12) بحث عنوانه «وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى» جريدة الأهرام اليومية المصرية صفحة 12 بتاريخ 30 سبتمبر 2002.
المفسر فى حديثه عن كل من الشمس والقمر إلى أن يقول: أما القمر فقدره منازل يطلع فى أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ثم يزداد نورا فى الليلة الثانية ويرتفع منزله، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل نوره فى الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع فى النقص إلى آخر الشهر حتى يصير «كالعرجون
القديم». قال ابن عباس: هو أصل العذق، وقال مجاهد:
العرجون القديم أى: العذق اليابس. يعنى أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى (13).
ويجيء تفسير الجلالين- بالرغم من منهجه إيجازا فيزيد الظاهرة تفصيلا فيقول:
قدرناه من حيث سيره منازل ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، وليلة إن كان تسعة وعشرين يوما، حتى عاد فى آخر منزله «كالعرجون القديم» ، تعود الشماريخ جمع شمراخ وهو عيدان عنقود النخيل الذى عليه الرطب إذا عتق فإنه يرق ويتقوس ويصغر (14). ويقول مثل ذلك صاحب صفوة التفاسير (15).
ثم يعرض الأستاذ الدكتور زغلول النجار لتفسير هذه الآية فى ضوء التقدم الكبير فى علم الفلك فى السنوات الأخيرة، فيتحدث عن منازل القمر فى علم الفلك حديثا مسهبا ويزيد الأمر وضوحا فى إيضاح الإعجاز العلمى فى الآية الكريمة فيقول: «نظرا للارتباط الشديد بين مراحل أشكال القمر المتتالية من الهلال الوليد إلى التربيع الأول إلى الأحدب الأول إلى البدر، ثم إلى الأحدب الثانى ثم الهلال الثانى ثم المحاق إلى الهلال الجديد فى الشهر القمرى الجديد وبين منازل القمر الثمانية والعشرين وهى مواقعه اليومية المتتالية فى السماء بالنسبة إلى نجوم تبدو مواقعها قريبة ظاهريا، فإن التعبير بمنازل القمر يمكن إطلاقه على مراحل القمر المتتالية وعلى منازله المتواقعة مع تلك المراحل- أى مواقعه المتتالية فى السماء- باعتبار المنازل- جمع منزل- وهو المنهل والدار. وإن تقدير هذه المنازل القمرية فيه من الدلالة على طلاقة القدرة الإلهية ما فيه لأهميته فى معرفة الزمن وتقديره وحسابه باليوم والأسبوع والشهر والسنة، وفى التأريخ للعبادات والأحداث والمعاملات والحقوق، ولما فيه من تأكيد على ضبط سرعة القمر ضبطا دقيقا؛ من أجل الحيلولة دون ارتطامه بالأرض فيفنيها وتفنيه، أو انفلاته من عقال جاذبيتها فينتهى إلى نهاية لا يعلمها إلا الله وفى الوقت نفسه الارتباط الدقيق بين سرعة دوران كل منهما حول محوره، فإذا زادت
(13) انظر تفسير ابن كثير المجلد 3 صفحة 549، 550.
(14)
تفسير الجلالين المجلد الثانى.
(15)
المجلد الثالث صفحة 15.
إحداهما قلّت الأخرى بنفس المعدل. ويمضى الأستاذ العالم الدكتور زغلول النجار قائلا:
ولما كانت سرعة دوران الأرض فى تناقص مستمر بمعدل جزء من الثانية فى كل قرن من الزمن، فإن سرعة دوران القمر فى تزايد مستمر بنفس المعدل تقريبا، مما يؤدى إلى تباعد القمر عن الأرض بمقدار ثلاثة سنتيمترات فى كل سنة، وهذا التباعد سوف يخرج القمر فى يوم من الأيام من إسار جاذبية الأرض ليدخله فى نطاق جاذبية الشمس فتبتلعه تحقيقا للنبوءة القرآنية التى يقول فيها الحق تبارك وتعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. (16) ومن هنا كانت هذه الإشارة القرآنية المعجزة إلى وصف مراحل القمر المتتالية فى كل شهر، والتى يقول فيها ربنا سبحانه وتعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. ويمضى الأستاذ الدكتور زغلول قائلا: ويضاف إلى هذه المعجزات القرآنية التى لا تنتهى أبدا، وصف المرحلة الأخيرة من مراحل الدورة الشهرية للقمر؛ بالعرجون القديم: وهو العنقود من الرطب (العذق) إذا يبس وانحنى واصفر لونه، وهو عند يبوسه على النخلة ينحنى تجاهها، فكذلك الهلال الثانى ينحنى بطرفيه تجاه الأرض، بينما الهلال الوليد ينحنى بهما بعيدا عنها فما أروع هذا التشبيه القرآنى.
ويختم الدكتور زغلول بقوله: هذه الحقائق عن القمر لم يدركها العلم الكسبى إلا بعد مجاهدة استغرقت آلاف العلماء وعشرات القرون، وورودها فى آية واحدة من كتاب الله الذى أنزل على نبى أمىّ وفى أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، ومن قبل ألف وأربعمائة سنة، مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذى أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وتعهد بحفظه حفظا كاملا. (17)
وقوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ «يس: 40» هو سنة إلهية عظمى من سنن الله فى خلقه، ذلك أن الشمس والقمر إذا اجتمعا محا ضياء الشمس نور القمر، لأن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، والحال نفسها تحدث إذا سبق الليل النهار، ولكن نتيجة ذلك تكون مضادة لنتيجة اجتماع الشمس والقمر، إذ الحال فى سبق الليل النهار أن تكون الأوقات ليلا وحينئذ يختل نظام الحياة على الأرض؛ لأن إرادة الله جعلت طبيعة الحال على كوكب الأرض ينقسم اليوم فيها إلى ليل ونهار، ولليل
(16) القيامة الآيات 7 - 9.
(17)
جريدة الأهرام المصرية، مقال بعنوان «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم» الصفحة الثانية عشرة بتاريخ 2 سبتمبر 2002 م.