الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخص من الأنواع لا مطابقة لها. وقد عده الإمام السيوطى فى كيفيات الوحى- وكذا الحافظ فى «الفتح» عدّه فى فنون الوحى الذى يأتى بحامل، وذكرا أنه يحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين (أى الصلصلة وتمثل الملك رجلا). ولا يخفى أن التعبير بالاحتمال ونحوه لا يحصل النفث فيهما، بل يحتمل أن يكون فى حالة ثالثة مغايرة للحالتين.
وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن للوحى حالات مغايرة لها، وهى: إما من صفة الوحى، كمجيئه كدويّ النحل، والنفث فى الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحى كمجيئه فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسى بين السماء والأرض، وقد سدّ الأفق. (52)
الوحى القرآنى:
أما عن (الوحى القرآنى) بخصوصه، فإن له خصائص فى نوعيته وكيفية تلقيه والحالة التى يتنزل بها على النبى صلى الله عليه وسلم.
فالخصيصة الأولى: أن جميع القرآن قد تلقاه النبى صلى الله عليه وسلم فى اليقظة، ولم يكن شىء منه فى المنام- على وجه الاستقلال- على القول الراجح والمعتمد لدى أساطين علماء التنزيل.
ولئن ذهب قوم إلى أن بعض الوحى القرآنى كان مناميا احتجاجا بما رواه مسلم عن سيدنا أنس أنه قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟
فقال: أنزل علىّ آنفا سورة، فقرأ:«بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)» .
فإن هذا مردود عليه: بما نقله الإمام السيوطى (53) عن الإمام الرافعى فى «أماليه» إذ قال: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت فى تلك الإغفاءة، وقالوا: من الوحى ما كان يأتيه فى النوم؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى.
قال: وهذا (أى أن رؤيا الأنبياء وحى) صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل فى اليقظة، وكأنه خطر له فى النوم سورة الكوثر المنزلة فى اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذى نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسّرها لهم.
ثم قال: وورد فى بعض الروايات أنه أغمى عليه، وقد يحمل ذلك على الحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحى، ويقال لها برحاء الوحى. انتهى.
(ثم عقّب الإمام السيوطى بقوله): قلت:
الذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه، وهو الذى كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه،
(52) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 15، ط/ الهيئة المصرية.
(53)
،
والتأويل الأخير أصح من الأول؛ لأن قوله:
«أنزل علىّ آنفا» . يدفع كونها نزلت قبل ذلك.
بل نقول: نزلت تلك الحالة، وليس الإغفاءة إغفاءة نوم، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا (53). وكذلك قال الإمام السيوطى عند ذكر الوحى المنامى:(وليس فى القرآن من هذا النوع شىء فيما أعلم)(54).
ومن ثم: يترجح أن القرآن الكريم قد نزل كله على النبى صلى الله عليه وسلم فى حالة اليقظة ولم يكن شىء من الوحى القرآنى مناما.
والخصيصة الثانية: أن القرآن الكريم كله من قبيل ما اصطلح عليه علماء التنزيل ب (الوحى الجلى)، فكما أنه لم يقع شىء من الوحى القرآنى مناما كذلك لم يكن شىء منه من قبيل الإلقاء الإلهامى الذى يقذف فى القلب، مع أنه يكون على وجه من العلم الضرورى الذى لا يداخله الشك أو الاشتباه، ولكن الحق- تعالى- جعله من قبيل التكليم الظاهر؛ للمبالغة فى توثيقه على أكمل وجه وأوضحه (55).
ولسنا- من هذا المنطلق- مع قول من زعم أن الوحى القرآنى لم يكن شىء منه من قبيل التكليم الشفاهى من الحق- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم كفاحا من غير حجاب ولا واسطة ملك، فقد ذكر الإمام السيوطى أن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا ليلة المعراج، كما عدّ من هذا النوع أيضا: بعض سورة (الضحى)، وأَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؛ واستدل بحديث ابن مسعود- الذى أوردناه فى الصورة الثامنة للوحى، وبما أخرجه ابن أبى حاتم من حديث عدى بن ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
كما نقل عن الهذلى أنه قال فى «الكامل» :
«نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين» (57)!!
وقد قدّمنا أن هذا النوع هو أشرف أنواع الوحى، فلا غرو أن يكون للوحى القرآنى منه حظ معلوم.
بيد أن فريقا من العلماء قد قرر- بعد التسليم بهذا الوحى القرآنى الشفاهى لما مر من الأدلة- أنه يجوز أن يكون جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآيات التى أوحى بها مشافهة مرة أخرى على سبيل التأكيد والتقرير، فتكون مما تكرر نزوله، ومن ثم تتقرر:
(54) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 65 - 66، 129، ط/ المشهد الحسينى.
(55)
انظر (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 57، ط/ الحلبى.
(56)
،
(57)
انظر الإتقان للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 67، 129.
الخصيصة الثالثة للوحى القرآنى:
وهى أن الله تعالى قد وكل به جميعه أمين الوحى جبريل- عليه السلام خاصة دون ملك سواه، لقوله تعالى شأنه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (58).
فالروح الأمين هو سيدنا جبريل- عليه السلام بإجماع المفسرين، وقد سماه الله تعالى روحا لأنه جسم لطيف روحانى خلق من الرّوح، أو لأنه روح كله لا كالناس الذين فى أبدانهم روح، أو لأنه لمجيئه بالوحى والدين بمثابة الروح الذى تثبت معه الحياة (59).
وقد نعت بالأمين: لأنه الحفيظ المؤتمن على وحى الله، ومبلغه لأنبيائه.
كذلك سماه الله تعالى (روح القدس) فى قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا (60).
وذلك لأنه الروح المطهرة من أدناس البشرية، فالقدس: هو الطهر والنقاء، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقد نقل عن النحاس أن القدس: هو الله تعالى، والمعنى: أن جبريل روح الله تعالى- والإضافة للملكية- لأنه كان بتكوين الله تعالى له من غير ولادة (61)، وفى كل هاتيك المعانى كان لجبريل مزيد اختصاص بها من بين سائر الملائكة، إذ هو منهم كالرسول صلى الله عليه وسلم من أفراد أمته، ولذلك اختاره الله- سبحانه- لأشرف المهام، فوكله بالكتب والوحى إلى الأنبياء، وبالنصر عند الحروب، وبالمهلكات إذا أراد أن يهلك قوما، وقد أخرج ابن أبى حاتم عن عطاء:«أول ما يحاسب جبريل؛ لأنه كان أمين الله على رسله» (62).
* وإذا ما تساءلنا عن كيفية تلقى الأمين جبريل- عليه السلام وحى القرآن من الله تعالى، وهل تلقاه مباشرة أو بواسطة؟ فإننا نجد للعلماء أقوالا أربعة فى هذا الصدد:
أولها: أن جبريل- عليه السلام قد تلقف التنزيل من الله تعالى تلقفا روحانيا، قال بذلك العلامة الطيبى، والقطب الرازى فى حواشيه على «الكشاف» ، حيث قال:
(والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا .... )(63).
وثانيها: أن جبريل- عليه السلام قد أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به على النبى صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المعنى الثانى لإنزال الكتب على الرسل، حيث قال الطيبى:(لعل نزول القرآن على الملك: أن يتلقفه تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبى صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه)(64).
(58) سورة الشعراء: الآيات 193 - 195.
(59)
انظر (مفاتيح الغيب) 24/ 166، و (روح البيان) 6/ 306 وتفسير الشوكانى 3/ 194.
(60)
سورة النحل: الآية 102.
(61)
انظر (تفسير الشوكانى) 3/ 194.
(62)
انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 130.
(63)
،
(64)
نفس المصدر 1/ 125 - 126 و (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 40، ط/ الحلبى.
وثالثها: ما نقل عن الماوردى من أن الحفظة نجّمت القرآن على جبريل فى عشرين ليلة، وأن جبريل نجّمه على النبى صلى الله عليه وسلم فى عشرين سنة (65).
ورابعها: أن جبريل- عليه السلام قد أخذ القرآن عن الله تعالى سماعا، فقد قال البيهقى فى معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: (يريد والله أعلم: إنا أسمعنا الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع
…
) (66).
وقد رجح الحافظ السيوطى هذا القول الأخير بقوله: (ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من الله تعالى: ما أخرجه الطبرانى- من حديث النواس بن سمعان مرفوعا- «إذا تكلم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجّدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهى به على الملائكة، فكلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهى به حيث أمر» (67).
ولا شك أن هذا القول أحرى بالقبول، لقوة دليله من جهة، ولاقتضائه عدم الوساطة بين الله تعالى وبين جبريل فى التلقى من جهة أخرى، والتحرّز به من دعوى إنزال معناه دون لفظه بما تقضى إليه من موهمات من جهة ثالثة.
* فلقد رصد الإمام السيوطى لعلماء التنزيل فى بيان ما نزل به جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم من الوحى القرآنى ثلاثة أقوال؛ نثبتها بمزيد تبيان وتحليل على النحو التالى:
القول الأول: أنه نزل بلفظ القرآن ومعناه، حيث إنه من المرجح أن جبريل قد تلقف القرآن سماعا من الله تعالى، وتكليما نفسيا بالصفة القديمة مع إلهامه بالألفاظ الدالة على المعانى القائمة بذاته تعالى، كما هو محصل تقريرى الأصفهانى- فى مقدمة تفسيره- والقطب الرازى.
أو أن جبريل- عليه السلام قد حفظ القرآن- بلفظه ومعناه- من اللوح المحفوظ، الذى أوجد الله تعالى فيه الكلمات والحروف الدالة على معنى القرآن القائم بذات الله تبارك وتعالى، فنزل به لفظا ومعنى على النبى صلى الله عليه وسلم (68).
والقول الثانى: أن جبريل- عليه السلام قد ألقى إليه المعنى فقط، وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك على النبى صلوات الله وسلامه عليه. ولم يثبت لأصحاب هذا الزعم الفاسد دليل عليه!!
والقول الثالث: أن جبريل قد نزل على النبى صلى الله عليه وسلم بالمعانى خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعانى وعبر عنها بلغة العرب!!
(65) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 40 - 41.
(66)
انظر الإتقان للإمام السيوطى 1/ 126.
(67)
،
(68)
نفس المصدر 1/ 125 - 127.
وقد استدل الذاهبون إلى هذا الرأى المتهافت بظاهر قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ (69). حيث إن تخصيص النزول بالقلب- على أن المراد به العضو المخصوص- موجه بأن المعانى الروحية تنزل على الروح ثم تنتقل به إلى القلب، لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ، فينتقش بها لوح المتخيلة.
بيد أن هذا خلاف القول الصحيح عند المفسرين والمحدثين، الذين وجّهوا لتخصيص القلب بالنزول: بأنه المدرك والمكلف دون سائر الجسد، وهو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز.
وقد يقال: إنه لما كان له صلى الله عليه وسلم جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه صلى الله عليه وسلم المعبر عنها بالقلب، حيث قال الراغب: إنها أحد إطلاقاته؛ لأنها المتصفة بالصفات الملكية التى يفيض بها من الروح الأمين. وقد أشار إلى ذلك تعبير القرآن ب (على قلبك) دون (عليك).
وكذلك وجّه تخصيص الإنزال بالقلب؛ بأنه إشارة إلى كمال تعلقه صلى الله عليه وسلم وفهمه ذلك المنزل، حيث لم تعتبر واسطة فى وصوله إلى القلب الذى هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث (70).
ومن ثم يترجح القول الحق: وهو أن القرآن الكريم بلفظه ومعناه من عند الله تعالى لا مدخل لجبريل ولا لغيره فى ألفاظه، فالله- سبحانه- هو الذى أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتّفهّم، كما نبرز نحن كلامنا اللفظى- ولله المثل الأعلى- على وفق كلامنا النفسى لأجل التفهيم والتفهم، ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه فى نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته، وإننا لنؤازر العلامة الزرقانى فى حكمه على زعم أن ألفاظ القرآن من عند جبريل أو النبى صلى الله عليه وسلم بقوله:(وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين فى كتبهم؛ وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (71).
وللإمام الجوينى تقرير فى قضية الوحى القرآنى يؤكد فيه صدوره عن الله لفظا ومعنى؛ يقول فيه: (كلام الله المنزل قسمان:
قسم قال لجبريل: قل للنبى الذى أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا .... ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبى، وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة؛ كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان:
(69) سورة الشعراء: الآية 194.
(70)
انظر (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى 24/ 166 - 167، ط/ دار الفكر ببيروت، وروح المعانى للآلوسى 19/ 120 - 121، ط/ المنيرية.
(71)
سورة التوبة: الآية 6، وانظر (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 42، ط/ الحلبى.
يقول لك الملك: اجتهد فى الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملك:
لا تتهاون فى خدمتى، ولا تترك الجند تتفرق، وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير فى أداء الرسالة.
وقسم آخر: قال الله لجبريل: اقرأ على النبى هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا) (72).
وقد عقب على ذلك الإمام الحجة السيوطى شارحا وموضحا وموجها ومدللا فقال: (قلت: القرآن هو القسم الثانى، والقسم الأول: هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز بالقراءة (أى فى القرآن) بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى. والسر فى ذلك: أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتى بلفظ يقوم مقامه، وإن تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتى بدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين، قسم يروونه بلفظ الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف. فتأمل) (73).
ولست أرى ما ارتآه العلامة الزرقانى فى نقده لكلام الإمام الجوينى المتقدم من أنه لا يوجد أمامنا دليل على أن جبريل كان يتصرف فى الألفاظ الموحاة إليه فى غير القرآن، كيف وقد قال الإمام السيوطى عقب تعقيبه السابق مباشرة:(وقد رأيت عن السلف ما يعضد كلام الجوينى، وأخرج ابن أبى حاتم من طريق عقيل عن الزهرى، أنه سأل عن الوحى فقال: الوحى ما يوحى الله إلى نبى من الأنبياء، فيثبته فى قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدّث به الناس حديثا، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه)(74).
ومن ثم نقف على حقيقة الوحى القرآنى ونستيقن نزوله بلفظه ومعناه وبما حفل به من العظمة وقوة التأثير وجلال التنزيل، وتبارك منزّله- جل وعلا- إذ يقول: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (75). قال بعض المفسرين فى تفسيرها: (لو كانت الجبال مقام الإنسان فى الخطاب (أى القرآنى) لتدكدكت الجبال وتزررت، وانفلقت الصخور
(72)،
(73)
،
(74)
انظر (الإتقان) للإمام السيوطى 1/ 127 - 128، ط/ المنيرية.
(75)
سورة الحشر: الآية 21.
الصّمّ، وانهدمت الشامخات العاليات فى سطوات أنواره ووجوم سنا أقداره)!! (76).
ولعلنا نتصور حالة العالم قبل الوحى الشرعى ومدى احتياجه إليه، ولا سيما فى بداية النصف الثانى من القرن السادس الميلادى حيث كان العالم مترديا فى حضيض
الظلمة والضياع، واستبدت به أسباب الفساد من كل جانب، وعصفت به رياح الشرك والكفران، فتداعى بناؤه العقدى والخلقى، وسادته جاهلية عمياء، وصار يترقب الهدم الذى يعقبه البناء، إذ عمه الفساد فى كل الأرجاء كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (77)، لقد فسر الإمام قتادة رضي الله عنه الفساد فى الآية الكريمة: بالضلالة والظلم (78)، وهذا تفسير محكم، لأن الضلالة تعنى فساد القوة النظرية، لفقدان نور الوحى الإلهى، والظلم:
يعنى فساد القوة العملية والجانب السلوكى، لفقدان استرشادهما بالإشعاع المعرفى اليقينى الذى يضيء القوة النظرية، فصلاح القوتين إذن متوقف على الوحى الذى هو هدى الله لعباده.
* من ثم: كان العالم قبل البعثة المحمدية متعطشا مستشرفا للوحى الذى يتوقف عليه رشده وصلاحه، أو بالأحرى: روحه ونوره، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (79).
فالتعبير عن الوحى القرآنى- فى الآية الكريمة- بالروح يشير إلى أن العالم قبل هذا الوحى كان جثة هامدة بلا روح، وكذا التعبير عن هذا الوحى بأنه نور يشير إلى الظلمة الحالكة التى كان يرزح العالم فيها فى الجاهلية، ثم يشير قوله تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا من الضلال الذى كان سائدا قبل الوحى المحمدى فى شتى الجوانب العقدية والسلوكية.
* وتتجسد حالة العالم قبل الوحى إليه جليا فى افتقاد مصدر الهداية فيما لا سبيل للعقل الوصول إليه من الجانب الغيبى فى أمور العقيدة، وأعلاها معرفة الله تعالى وصفاته القدسية وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز فى حقه تعالى.
كما تتجسد تلك الحاجة- فى توقف إدراك ما وراء الطبيعة من عالم ما بعد الموت من البرزخ والبعث والحساب والجزاء- على الأدلة السمعية التى تأتى بطريق الوحى.
وكذلك الهداية التشريعية التى تنظم
(76) انظر (البحر المديد) للإمام ابن عجيبة 6/ 119، ط/ الهيئة العامة للكتاب.
(77)
سورة الروم: الآية 41.
(78)
انظر (أعظم المرسلين صلى الله عليه وسلم من المولد إلى المبعث) للدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدى ج 1 ص 43، ط/ دار غريب للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1997 م.
(79)
سورة الشورى: الآية 52.
العلاقة مع الله- تعالى- بالعبادات ومع الخلق بالمعاملات، ومع النفس بتزكيتها بالأخلاق الصالحة واقتلاع الأخلاق السيئة، كل ذلك عجزت عنه عقول البشر، لأن حقائق الأشياء وسبل إصلاحها لا يحيط بها- على الحقيقة- إلا موجدها، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ (80)
إن منطق العقل والتجربة يقضى بالرجوع- فى صيانة كل صنعة وإصلاحها- إلى صانعها لتظل فى وضعها الأمثل، وقد أودع الخالق- جل وعلا- منهج إصلاح الخليقة فى دستوره العظيم (القرآن المجيد) الذى هو مصدر الهداية والكمال الأعلى، وقد صرح بذلك- سبحانه- فى قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (81).
ولقد اتفقت كلمة ذوى العقول الصحيحة على أن العقل والعلم البشرى لا يغنيان إطلاقا عن هداية الرسل بما أوحاه الله إليهم، مهما ارتقت مدارك الحكماء والمفكرين فى معارفهم العقلية، فإن حكمتهم وآراءهم وعلومهم إنما هى آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول (82)!! وهى عرضة للخطأ والتخطئة والخلاف فيها على أية حال. وأحكامها نسبية، فإلام التحاكم إذا عند الاختلاف الذى هو من سنن الأحكام الاجتهادية؟
هنا تتجسد ضرورة الوحى والبيان النبوى لحسم النزاع والخلاف، كما نطق التنزيل فى قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (83).
وإذا تحصل لنا من جملة ما سبق: أن صلاح البشر بالدين مبنى على الإيمان بالغيب والوقوف فيه عند خبر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولا يمكن إصلاحهم بالعلوم المادية الكسبية وحدها، فإنه يقع فى دائرة اليقين أنه لا سبيل إلى إنقاذ البشرية فى هذا العصر إلا بإثبات الوحى المحمدى الموحد لإنسانيتهم، المزكى لأنفسهم واتباع هديه الذى هو مناط السعادتين الدنيوية والأخروية (84)، وهو المخرج الوحيد لكل ما تعانيه الإنسانية من شقاء وظلم وعناء وجموح واستبداد، وقد أوضح التنزيل منهج الهداية والنجاة بقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (85).
*****
(80) سورة الملك: الآية 14.
(81)
سورة الإسراء: الآية 9.
(82)
انظر: (الوحى المحمدى) لمحمد رشيد رضا ص 14، ط الزهراء 1408 هـ.
(83)
سورة النحل: الآية 64.
(84)
انظر (الوحى المحمدى) لمحمد رشيد رضا ص 12 - 17 بتصرف.
(85)
سورة المائدة: الآيتان 15 - 16.