الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عموم اللفظ وخصوص السبب
عنى بتحقيق هذه المسألة كثير من العلماء، ومن أشدهم عناية بذلك الأصوليون والمفسرون، أما الأولون فلأن بحثهم فى مجالهم يقوم على الاستدلال بألفاظ القرآن الكريم على الأحكام الشرعية، وأما الآخرون فلأن البحث فى ذلك يساعدهم على فهم المعنى المراد من الآيات القرآنية.
واستقراء ما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب فى ضوء مطابقة ألفاظ النازل لأفراد السبب من حيث التعميم أو التخصيص ينكشف عن أربع صور عقلية، لأن اللفظ النازل إما عام وإما خاص، والسبب الذى نزل عليه اللفظ إما عام وإما خاص كذلك، فتنتج هذه الصور التى نذكرها فيما يلى:
أولا: قد يكون سبب النزول عاما، واللفظ الذى نزل عاما كذلك، ولا إشكال فى هذه الصورة، لأن الحكم الوارد فى الآية عام، وهو ثابت لكل أفراد السبب العام بطريق النص، وهذا محل اتفاق بين العلماء نظرا للتطابق بين اللفظ والسبب.
مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تبارك وتعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة/ 220.
فعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال:
«لما أنزل الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- الإسراء/ 34 - وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية- النساء/ 10 - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم» (48).
ثانيا: قد يكون سبب النزول خاصا واللفظ الذى نزل فى شأنه خاصا كذلك، وهذا مثل سابقه لا إشكال فيه كذلك، لأن الحكم الخاص الوارد فى الآية ثابت للفرد الخاص الذى نزل فى شأنه، وذلك للتطبيق
(48) هذا الحديث أخرجه أبو داود فى سننه: ك: الوصايا، ب: مخالطة اليتيم، حديث/ 2871.
بينهما فى جهة الخصوص ولا خلاف بين العلماء فى ذلك.
مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ إلى آخر سورة المسد.
فقد أخرج البخارى (49) عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبى صلى الله عليه وسلم الصفا، فجعل ينادى: يا بنى فهر، يا بنى عدى- لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقىّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ.
ثالثا: قد يكون السبب عاما واللفظ خاصا: «وتلك صورة فرضية غير واقعة فى القرآن، لأنها تتنافى وبلاغته، لعدم وفاء اللفظ للسبب، إذ السبب بمنزلة السؤال، واللفظ المنزل بمنزلة الجواب، وقصور الجواب عن مطلوب السؤال مخل بالبلاغة» (50).
رابعا: قد يكون سبب النزول خاصا، واللفظ الذى نزل فى شأنه عاما، وهذه الصورة هى موضع خلاف العلماء، وقد تكررت هذه الصورة فى القرآن الكريم فى أكثر من سورة.
واختلاف العلماء فى شأن هذه الصورة يدور حول ما يعتبر عندهم، ويعتد به من الأمرين:
هل تكون العبرة بعموم اللفظ؟ وعندئذ يكون اللفظ العام باقيا على عمومه، فيتناول أفراد السبب الخاص وكل ما يكون مشابها له من أفراد غيره، أو تكون العبرة بخصوص السبب؟ فلا يكون اللفظ باقيا على عمومه بل يكون مقصورا على أفراد السبب الخاص، ولا يدخل ما سوى ذلك فى الحكم إلا بدليل آخر غير النص.
ولنذكر أولا مثالا تتضح فيه صورة هذا الخلاف، ثم نذكر ما قاله العلماء فى هذا الصدد مقرونا بالأدلة، ثم نبين أى القولين أولى بالاعتبار.
ففي الصحيح: عن ابن عباس- رضى الله عنهما: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبى صلى الله عليه وسلم بشريك بن السحماء، فقال رسول الله
(49) فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ حديث/ 4770.
(50)
انظر: اللآلئ الحسان فى علوم القرآن: أ. د./ موسى شاهين، مطبعة دار التأليف 1388 هـ ص:165.
صلّى الله عليه وسلم: «البينة وإلا حدّ فى ظهرك» . قال:
فقال هلال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته، أيلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«البينة وإلا فحد فى ظهرك» قال: فقال هلال: والذى بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله فى أمرى ما يبرئ ظهرى من الحد، فنزل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فقرأ حتى بلغ: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ النور/ من الآية: 6 - 9 قال: فانصرف النبى صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية فشهد، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالوا لها: إنها موجبة فقال ابن عباس: فتلكأت ونكست حتى ظننا أنها سترجع، فقالت: لا أفضح قومى سائر اليوم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين (51) سابغ الأليتين (52) خدلج الساقين (53) فهو لشريك بن السحماء» . فجاءت به كذلك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:
«لولا ما مضى من كتاب الله عز وجل لكان لنا ولها شأن» (54).
فالحديث كما هو واضح يصرح بأن سبب النزول هنا خاص، وهو قذف هلال بن أمية زوجته بشريك بن السحماء، والآيات المذكورة نزلت بحكم اللعان بلفظ عام، لأنها مبدوءة بقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية، واسم الموصول من صيغ العموم وموضوع خلاف العلماء هنا هو:
هل لفظ الآية العام يتناول بنصه كل قاذف لزوجته من غير شهود يشهدون معه؟ ولا حاجة مع هذا النص إلى أدلة أخرى من اجتهاد أو قياس فى تعميم هذا الحكم على غير هلال بن أمية، أى أن العبرة بعموم اللفظ فى الآيات، لا بخصوص السبب النازلة عليه، أو أن لفظ الآيات العام قاصر فى حكمه على سببه الخاص، وهو قذف هلال بن أمية امرأته، وأما من عداه ممن يفعل فعله فلا ينطبق عليه الحكم من خلال لفظ الآيات، وإنما ينطبق عليه بدليل آخر هو القياس، والعبرة عندئذ تكون بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؟ رأيان للعلماء: ذهب إلى الأول منهما جمهور العلماء، وذهب إلى الثانى فريق منهم.
وقبل أن نستعرض أدلة كل فريق ينبغى التأكيد على أن الجميع متفقون على تعميم أحكام الآيات التى نزلت بألفاظ العموم، وإن كان سببها خاصا، ما دامت قد خلت عن قرينة تمنع من هذا التعميم، بمعنى أن اللفظ العام
(51) أكحل العينين: هو الذى يعلو جفن عينيه سواد مثل الكحل.
(52)
سابغ الأليتين: الأليتين تثنية الألية بفتح الهمزة، وسكون اللام هى: العجيزة أو ما ركب من شحم أو لحم: أى تام الأليتين وعظيمهما.
(53)
خدلج الساقين: بخاء ودال مهملة ولام مشددة مفتوحة: أى عظيم الساقين.
(54)
هذا الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، ب: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ حديث/ 4747 وأبو داود فى سننه: ك: الطلاق، باب فى اللعان، حديث/ 2254 والترمذى فى سننه: ك: التفسير، ب: ومن سورة النور، حديث/ 3179 واللفظ هنا للترمذى.