الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الأمر الإلهى للناس بالسير فى الأرض ليؤمنوا منّة كبرى، لأن الذين يسيرون فى الأرض فينظرون حكمة الله فى خلقه وعظم آياته فى الكون يسارعون إلى الإيمان، والذين يفعلون ذلك ثم لا يؤمنون لا يكون لهم على الله حجة فى كفرهم، فقد رأوا مفاتيح الإيمان وبدائع صنع الله وظلوا على نكرانهم، وإن من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل طلب العلم فريضة على المسلمين دون سائر الأمم السابقة، والعلم عند المسلمين لا تكتمل أسبابه إلا بالرحلة أو السير فى الأرض بلغة القرآن الكريم، وإن كبار علماء المسلمين لم تكتمل لهم أسباب النبوغ العلمى- سواء أكان علما دينيا أو علما دنيويا- وكلاهما مطلوب- إلا بالرحلة، وإن حديث العلم والعلماء فى الإسلام وما قاموا
به من رحلات وأسفار وسير فى الأرض سوف يكون له مكانة فى هذا البحث بمشيئة الله بعد قليل.
منحة إلهية مقرونة بمعجزات ربانية:
إن معجزات الخالق- سبحانه وتعالى كلها منن على خلقه، منها ما تفضل ربنا علينا مقرونا بمعجزة، ومنها ما جاء فضلا منه ورزقا وكرما منه ولطفا.
فمن المعجزات المقرونة بمننه سبحانه وتعالى قوله جل وعز: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (17).
أما المعجزة فهى أن السماوات والأرض كانتا جسما واحدا ضخما متماسكا ففصل الله بقدرته بينهما، وجعل السماوات مستقلة والأرض كذلك، وتدخل معجزة «الرتق والفتق» فى سلك معجزات الخلق الأولى، وبمعجزة الفتق يسّر الله الأرض للناس وأنعم عليها بالماء الذى لا حياة فيها إلا به، وبغير الماء لا تكون حياة، وإتماما لمننه على الأرض وساكنيها ثبت أركان الأرض، وثبت كيانها بالجبال الضخمة التى جاء المصطلح القرآنى فسماها «رواسى» ؛ لأنها تجعل الأرض فى ثبات واتزان، وجعل فى هذه الجبال سبلا وفجاجا يسلكها الناس فى تحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم، وذلك فضل الله يلمسه كل من عاش أو زار أقطارا فى الأرض جبلية.
ومن المعجزات المقرونة بالمنن الإلهية أيضا قول الله عز وجل: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18).
(17) سورة الأنبياء: الآيتان 30 - 31.
(18)
سورة النحل: الآيات 15 - 18.
الله- سبحانه- يذكّر الناس بالرواسى التى ألقاها فى الأرض، للسبب الذى سلف ذكره فى الآية السابقة، وكذلك السبل التى شقها فيها تيسيرا على الناس، ثم يضيف المولى- سبحانه- منة خلق الأنهار التى يرتوى منها البشر والحيوان والنبات، وخلق النجوم التى يهتدون بها فى سفرهم ليلا برا وبحرا.
ثم يوبخ المولى- سبحانه- الذين لم يؤمنوا به فى كل من الآيتين، ففي معجزة «الرتق والفتق» تكون مؤاخذة الله للكفار فى صيغة السخرية بهم وبعقولهم، وفى الآية التى نحن بصددها تكون السخرية أيضا فى صيغة الاستفهام الاستنكارى فى قوله عز وجل:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ثم تكون الإضافة القرآنية الشريفة تقريعا للكافرين وتذكيرا للمؤمنين فى قوله جل وعز:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
صدق ربى جلت قدرته فمن الذى يستطيع إحصاء نعمه وأفضاله ومننه وعطاياه.
وفى المقام نفسه يلفت المولى- سبحانه- عباده عن معجزة خلق السماوات، وما ميزها به من نجوم وكواكب جعلها زينة لها، ومعجزة خلق الأرض وتثبيتها بالجبال الرواسى وما منّ به من خلالها على الناس من الغيث يتنزل من السماء، فأنبت فيها كل ما تشتهيه الأنفس من حدائق ونخيل، وبعث الحياة فى الأرض الميتة، وتلك من المعجزات الكبرى، ويجعل ذلك مثالا للبعث الذى كذب به الكافرون، هذا فضلا عن بلاغة الإعجاز فى وصف مننه سبحانه على تعدد أنواعها تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وفى ذلك كله يقول جل من قائل: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (19).
ويتمثل الإعجاز القرآنى المعبر عن المنن الإلهية فضلا عن خلق الأرض وإنبات الثمر والزرع فى جنات وأعناب وزرع ونخيل، أنها جميعا تسقى من ماء واحد مع أنها تختلف طعما وتتفاوت حسن مذاق، وهى قدرة لا يستطيع إنجازها إلا الله القادر الخلاق العظيم، لقد أنعم الله على خلقه بتلك المنن لتكون آيات للعاقلين على أن الله هو- وحده- الخلاق العظيم. يقول جلت قدرته فى كتابه
(19) سورة ق: الآيات 6 - 11.
العزيز: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (20).
ويزيد المولى من الإنعام بمننه الكثيرة بالتذكير ببعض ما ورد فى آيات سابقات وبالجديد منها ما يمثل عبرا للعباد مثل عبرة الأنعام فى إخراج لبنها من بين فرث ودم، ومثل معجزة النحل التى أوحى فيها إلى تلك الحشرة البديعة السخية بالعطاء أن تتخذ بيوتها فى الجبال والشجر الكثيف، وأن تسلك سبيل ربها فى جمع طعامها من كل الثمرات والأزهار، وإن سبيل خالقها فى ذلك لا يكون إلا الطعام الطاهر النظيف الذى ينتهى بإخراج شراب مختلف ألوانه من بطونها فيه شفاء للناس، إنه النعمة الكبرى المتمثلة فى العسل المختلف الألوان والنكهة والتى تسهم فى شفاء الأجسام وإبراء السقام. يقول جل شأنه: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21).
إن الله- سبحانه- لطيف بعباده يغمرهم بفضله وينعم عليهم بمننه، ولا يحب لهم إلا الطيب من الطعام، وينأى بهم عن الأطعمة المحرمة لأنها من دس الشيطان ووسوسته، إن الشيطان لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
يقول جلت قدرته وتباركت أسماؤه ودامت نعمه ومننه: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (22).
ومن المنن الكبرى التى أنعم الله بها على الإنسان تلك الأنعام التى نتخذ من جلودها بيوتا، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا، يقول الله- عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ
(20) سورة الرعد: الآيتان 3، 4.
(21)
سورة النحل: الآيات 65 - 69.
(22)
سورة البقرة: الآيات 168، 169.
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (23).
ومن آيات الله العظمى، ومننه الكبرى:
الرواسى؛ التى هى الجبال التى تشكّل ميزانا للأرض فى حركتها وثباتها؛ فضلا عما تضمه هذه الجبال من نعم يتأمل العابد أمرها، وذلك فى قول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)(24).
إلى هذه النعم الكبرى التى احتوتها الآيتان سالفتى الذكر الدواب والأنعام التى خلقها المولى ورزقها، وجعل منها رزقا لعباده فى مختلف بقاع الأرض، وتصديقا لهذا القول فإن الله- سبحانه وتعالى يقول فى سورة هود وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)(25).
وقد يعرف الإنسان مكان الدواب التى ينتفع بها ويتملكها، ولكن ثمة دواب أخرى لا يعلم مستقرها ومستودعها إلا الله، فتلك المخلوقات التى تعيش فى باطن الأرض وبين الأحجار، وبعضها لا يعيش إلا داخل الحجر نفسه، وتلك آية من آيات الله التى لا يقدر عليها إلا الخالق الأعظم الذى خلق كل شىء، ورزق كل شىء.
ومنن الله- سبحانه وتعالى فى الأرض لا حدود لها، ففيها ألقى الرواسى، وفيها أنبت كل شىء مما يحتاجه العباد فى معاشهم؛ بل إن الله- سبحانه وتعالى أرسل الرياح لتعمل عملها بين السحاب الذى ينزله الله من السماء ماء لسقيا خلقه من إنسان، وحيوان، ونبات؛ بل إنه- سبحانه، يخزن بعضا من هذا الماء فى جوف الأرض لكى يتفجر من بين الأحجار ماء عذبا ذلالا يجرى فيصنع أنهارا يستقى منها الإنسان والحيوان والنبات، ويتمثل ذلك فى قول الله- عز وجل:
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
(23) سورة النحل: الآيات 80 - 82.
(24)
سورة فاطر: الآيتان 27، 28.
(25)
سورة هود: الآية 6.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23)(26).
وفى فضل الجبال التى تعد معلما خالدا من معالم الأرض، يقول الله- سبحانه وتعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)(27).
ولا يغيب عن فطنة القارئ لكتاب الله، الربط بين الجبال والمياه، لأن الجبال يتفجر منها المياه العذبة كما أوضحنا فى الآيات السابقة.
وفى تسخير الخالق الأعظم ومننه التى منّ بها على عباده؛ خلقه البحار والمحيطات التى تجرى فيها الفلك كالأعلام، وأنه من فضله يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، رأفة منه بخلقه، ورحمة منه لعباده، وفى ذلك يقول- جل وعز:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)(28).
وإن الأرض على الرغم من مساحتها الواسعة التى يتخذ الناس منها معاشا، وسكنا، ومستقرا، يغلب عليها فى ساحاتها الواسعة عنصر الماء، بحيث أن هذا الماء يغطى نحو ثلاثة أرباع الأرض، وإن النعم التى تزخر بها البحار لمما يستعصى على الإنسان حتى اليوم إحصاؤه والتعرف عليه، وقد أخبرنا الله- سبحانه وتعالى ببعضه، وذلك فى قوله- عز وجل:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)(29).
والماء الذى فى البحار أكثره مالح وأقله عذب، وفى ذلك يقول- جل وعلا:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)(30).
وهكذا كل من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج يسوق المولى من كل منهما لخلقه، يأكلون أنواع الأسماك والأطعمة الأخرى؛ فضلا عن الحلى التى تستخرج من كل من البحرين، وبخاصة اللؤلؤ الذى يعيش فى الماء العذب مثلما يعيش فى الماء الملح.
(26) سورة الحجر: 19 - 23.
(27)
سورة المرسلات: 25 - 28.
(28)
سورة الحج: 65.
(29)
سورة النحل: 14.
(30)
سورة فاطر: 12.
ومن المنن الكبرى التى ضمنها الله- سبحانه وتعالى كتابه العزيز قوله- سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)(31).
وتلك الحقيقة من آيات الله العظمى، ومننه الكبرى بحيث يتدفق الماء العذب الفرات، ويموج الملح الأجاج، ويخلق بينهما فاصلا قد لا يكون من الأرض، بل كثيرا ما يكون من الماء نفسه، وهذه الحقيقة تتبدى بوضوح عند مصبات الأنهار الكبرى، مثل نهر الأمازون فى أمريكا الجنوبية، الذى يندفع الماء العذب بين أحضان الماء المالح لمسافة تمتد لنحو ثلاثمائة كيلومتر فى قلب المحيط، يستطيع الإنسان فى أى موقع من هذه المسافة الطويلة أن يشرب ماء عذبا سائغا، دون أن يختلط به قطرة واحدة من الماء المالح، وكنا نحن قبل ثلاثة عقود من الزمان نرى ذلك فى نهر النيل أيام فيضانه الذى كان يستطيع صائدو الأسماك أن يشربوا مياه عذبة داخل البحر الأبيض المتوسط لعديد من الكيلومترات داخل البحر المالح الذى يغذوه الماء العذب، ويشكل برزخا وحجرا محجورا.
بل إن هذا الأمر- أمر الماء العذب الفرات والملح الأجاج- لا يقتصر عليهما مرج البحرين- العذب والمالح- وإنما يحدث ذلك بين البحار الملحة، ويتضح ذلك فى قول الله تعالى فى سورة الرحمن:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)(32).
وهذه الحقيقة تتضح فى لقاء البحر الأحمر ببحر العرب الذى هو جزء من المحيط الهندى، ذلك أن مياه البحر الأحمر أشد ملوحة، وأكثر حرارة من تلك التى فى بحر العرب، فلا يمتزج ماؤهما عند اللقاء، وإنما يجلف ماء البحر الأحمر- لطبيعته السالف ذكرها- إلى أسفل مياه بحر العرب، كما قرر العلماء المختصون بعلوم البحار.
والظاهرة نفسها تتكرر عند لقاء مياه البحر الأبيض المتوسط عند خليج جبل طارق بمياه المحيط الأطلنطى الكبير.
على أن هذه الحقيقة الكبرى تتمثل بشكل ظاهر للعيان عند رأس الرجاء الصالح فى جنوب إفريقيا حيث تلتقى مياه المحيط الأطلنطى بمياه المحيط الهندى فتشكل حاجزا مائيا ضخما ممتدا جنوبا إلى مرمى البصر، ولقد قام بمحاولة مشاهدة هذه الظاهرة الفذة كاتب هذه السطور، حينما زار مدينة الكاب ممثلا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ
(31) سورة الفرقان: 53.
(32)
سورة الرحمن: 19 - 21.