الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكناية
تدور مادة كنى فى اللغة حول معانى الخفاء والستر والتغطية وعدم التصريح (1).
أما فى اصطلاح البلاغيين فهى:
«لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه الأصلى» (2).
وهذا كلام الخطيب فى الإيضاح مع تصرف يسير بالزيادة أضفناه بقصد التوضيح.
وقبل الخطيب تباينت عبارة أهل العلم فى تعريف الكناية تباينا واسعا.
والكناية من الأساليب البديلة، مثل المجاز، يعدل إليها عن اللفظ الأصلى لنكتة بلاغية، تجعل التعبير بها أولى أو أوجب من التعبير باللفظ الذى وضع فى أصل اللغة للدلالة عن المعنى.
والبلاغيون قسموا الكناية بحسب المعنى الذى تدل عليه ثلاثة أقسام:
* كناية عن موصوف لم يصرح به فى الكلام.
* كناية عن صفة لم يصرح بها فى الكلام.
* كناية عن نسبة بين أمرين غير مصرح بها فى الكلام. ومعنى قولهم فى تعريف الكناية:
كان العرب يخبرون بهذه العبارة عن الشخص الذى يريدون وصفه بكثرة الكرم والبذل والعطاء والعلاقة بين كثرة الكرم وكثرة الرماد، هى الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة إيقاد النار، ثم الانتقال من كثرة إيقاد النار إلى كثرة طهو الطعام وإنضاج اللحم، ومن هذا ينتقل إلى كثرة الآكلين (الضيوف) ومن كثرة الضيوف إلى كثرة الكرم، وهو المطلوب.
ولا يمتنع إرادة كثرة الرماد مع إرادة المعنى الكنائى، الذى هو المراد من الكناية أساسا، وإرادته ليست بلازمة فى الدلالة على الكرم، لأن الإنسان قد يكون كريما من غير كثرة الرماد كأن يجود بأشياء أخرى كالنقود وغيرها.
وسمى هذا التعبير كناية؛ لأنه لم يصرح فيه بلفظ الكرم بل أخفى هذا الوصف.
(1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: كنى.
(2)
بغية الإيضاح (2/ 150) وما بعدها.
وسميت الكناية لازم معنى اللفظ المستعمل فيها لأنه يلزم من كثرة الطهو كثرة الكرم.
فلفظ الكناية أيا كان ملزوم، ومعناها لازم لا ينفك عنها.
والكناية تجمع- على الأرجح- بين الحقيقة والمجاز؛ لأن لفظ الكناية لم يرد منه معناه الموضوع له مباشرة فيكون حقيقة، ولم تمتنع إرادته مع إرادة المعنى الكنائى فيكون مجازا.
لذلك يقال: إن الكناية لها جانبان: حقيقة ومجاز وأن قرينة الكناية غير مانعة من إرادة المعنى الأصلى، وقرينة المجاز مانعة.
فالكناية على هذا ليست حقيقة خالصة، وليست مجازا خالصا. وهذا هو الحق، الذى لا يجوز أن يحاد عنه والكناية من الأساليب الكثيرة الشيوع فى الكلام البليغ، وبخاصة فى القرآن الكريم؛ فلا تكاد تخلو منها سورة؛ لأن لها مقامات تؤثر هى فيها عن غيرها.
وفى القرآن الكريم نجد حقلا من حقول التعبير آثر القرآن الكريم التعبير الكنائى فيه دون غيره.
فمثلا العلاقات الجنسية، سواء كانت بين الأزواج، أو غير الأزواج نجد القرآن يعدل عدولا تاما عن التصريح بها وإيثار الكناية فى كل حديث عنها؛ لأن من دواعى العدول إلى الكناية فى البلاغة بوجه عام مقامات محددة منها ما يستقبح أو يستهجن ذكره صراحة، فيعدل إلى التعبير الكنائى عنه ترفعا وأدبا.
فخذ إليك مثلا قوله تعالى:
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ (3).
هذا توجيه من الله لراغبى الزواج من النساء المتوفى عنهن أزواجهن والمطلقات. بألا يخطبوهن فى عدتهن حتى تنقضى مدة العدة.
وهنا يؤثر القرآن الكريم التعبير الكنائى عما يكون بين الأزواج فيسميه سِرًّا ولا يفصح عنه. وإنما سمّى ما يستهجن ذكره سرا، لأنه لا يقع إلا فى السر، والكناية هنا عن صفة وهى مباضعة النساء.
* وكذلك آثر التعبير الكنائى عنه فى قوله تعالى:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (4).
فكنى عنه ب «الإتيان» وهو يطلق على عدة
(3) البقرة (235).
(4)
البقرة (223).
معان أخرى غير ما يكون بين الزوج وزوجته.
والكناية هنا عن موصوف هو مباضعة النساء، أو النكاح وقد جاء التعبير عنه ب «النكاح» عشرات المرات فى القرآن الكريم، والنكاح معناه أعم من مباضعة النساء فى أصل اللغة؛ لأن معناه العام هو: الضم وهو معنى عفيف لا ابتذال فيه ولا استقباح.
وقد يستعمل «النكاح» كناية عن مجرد «عقد الزواج» وإن لم يصاحبه دخول بالمعقود عليها. ومن ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ (5).
وإطلاق النكاح على مجرد العقد نادر وروده فى القرآن الكريم.
أما وروده بمعنى مباضعة النساء فكثير كثير، ومنه قوله تعالى:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (6).
المراد من النكاح فى الآية هو «الوطء الفعلى» وليس مجرد العقد عليها، وهذا موضع إجماع بين الفقهاء إلا من لا يعتد بقوله.
كما كنى القرآن عن مباضعة النساء بالمس والملامسة وهما لفظان لا ابتذال فيهما ولا فحش ولا إثارة ومثال «المس» آية الأحزاب المذكورة آنفا، وهى:
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ
أما الملامسة فمثالها قوله تعالى:
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (7)
كما كنى عن المباضعة بالتغشية فى قوله تعالى:
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً .. (8)
والتغشى لفظ عفيف مهذب، وقد أدى معناه الكنائى هنا دون أن يخدش حياء، أو يثير غريزة ومما شاع استعماله فى كنايات القرآن عن العلاقات الزوجية لفظ «المباشرة» مكنيا به عن اتصال الزوج بزوجته. قال عز وجل:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
(5) الأحزاب (49).
(6)
البقرة (230).
(7)
المائدة (6).
(8)
الأعراف (189).
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (9).
والواقع أن الآية الكريمة تضمنت عدة كنايات عن علاقات الأزواج بزوجاتهم.
وأول ما يفجؤنا فيها كناية «اللباس» هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ وهى كناية لطيفة تشع منها معان آسرة.
فمن معانى اللباس الستر والتجمل، والزوجة تعف زوجها وتغنيه عن الحرام، وهو يعفها ويغنيها عن التطلع إلى الحرام، وكل منهما يجمّل الآخر ويصونه ثم التعبير الكنائى بالمباشرة، ومن معانيها الملامسة والمماسة، والضم والمكاشفة والملاصقة. وكلها معان لا إسفاف فيها ولا ابتذال.
أما «الرفث» فهو كناية عن مقدمات الوطء، ومنها الكلام أيا كان ابتذاله ومجونه، لكن التعبير الكنائى عنه بالرفث فيه ستر وإخفاء لحقيقة ما يقال فى مخادع الأزواج.
إنه لفظ كنائى مهذب، يصور الواقع من وراء ستار، مخفيا قبحه وعوره.
ويكنى عنها كذلك ب «قضاء الوطر» وشاهد هذا قوله عز وجل:
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً (10)
عبارة مهذبة شريفة، لا يحس السامع منها أى انفعال غريزى مخرج له عن مشاعره الهادئة الرزينة. ومن كنايات القرآن الكريم عن المعانى الشديدة الحساسية بالعلاقات الغرزية بين الذكور والإناث التعبير عنها بالإفضاء فى قوله تعالى:
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (11).
إن لفظ «الإفضاء» تعبير مهذب راق عن العلاقات السرية وغير السرية، التى تكون فى حياة الأزواج.
ومن ذلك الكناية عنها بالقرب، كما جاء ذلك فى قوله تعالى:
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (12) وفى هذه الكناية اتساع فى المعانى المرادة، يشمل حتى مقدمات الجماع فى أثناء حيض الزوجة، حتى لا تقود تلك المقدمات إلى الوقوع فى المحظور، لأن قرب الحائض يكون سببا قويا فى الإصابة بالأمراض، وخاصة الجلدية لذلك كان النهى عن «القربان» لأن فيه تحوطا شديدا عن الوقوع فى المحظور.
(9) البقرة (187).
(10)
الأحزاب (37).
(11)
النساء (20 - 21).
(12)
البقرة (222).
والكنايات التى تقدم الحديث عنها، كلها كنايات عما يقع فى دائرة الحلال بين الأزواج والزوجات، ومنها كنايات عن صفة، إلا الرفث فإنه كناية عن موصوف، هو الكلام الفاحش.
وأما ما يقع فى دائرة الحرام، فقد كنى عنه القرآن الكريم بالزنى، وإتيان الفاحشة، تنفيرا عنه، وتزهيدا فيه بعيدا عن الإسفاف والتبذل فى الألفاظ المكشوفة الفاضحة.
ومما يلفت النظر التعبير عن الزنى ب «السفاح» ومن شواهده قوله تعالى:
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ (13)
وأصل السفح هو تدفق الدم المملوء بالسموم، الذى يندفع من الشاه بعد ذبحها.
وفى تكنية القرآن الكريم عن «الزنى» بالسفاح كناية لطيفة أخرى متولدة عن الكناية الأولى، شبه فيها ماء الرجل الذى يصب فى رحم الزانية بالدم المسفوح المملوء بالسموم القاتلة. لأن الدم المسفوح يضر بصحة البدن وحده، لذلك حرّمه الله على الآكلين. أما ماء الزناة فهو قاتل لشرف النسل وأخلاق الفضل والعفة والطهارة فتأمل هذه المعانى السامية، التى تشع من كنايات كتاب الله العزيز، لتدرك لماذا يعدل القرآن عن التصريح إلى الكناية التى هى الصفة الشائعة فى القرآن الكريم. ومنها فى غير العلاقات الزوجية، قوله تعالى فى الحديث عن عيسى عليه السلام وأمه رضى الله عنها:
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
إنها كناية مهذبة طاهرة، عدل القرآن الكريم إليها عن: كانا يتغوطان ويتبولان. حيث كنى بأكل الطعام، وهو طاهر نظيف طيب، عن التغوط والتبول، وهما يثيران التقزز والاشمئزاز فى النفوس، فضلا عن خبثهما ونجاستهما.
ولو جاء التعبير بالتغوط والتبول لكان فى ذلك إيحاء بكشف عوراتهما أمام عيون الخيال البشرى، والقرآن يستر العورات فى الواقع، وفى التعبير.
وقد يقول قائل: إن التعبير بالتغوط جاء صريحا فى القرآن فى مواضع أخرى، مثل:
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (14) فلماذا عدل الله عنه فى الحديث عن عيسى عليه السلام، وأمه رضى الله عنها؟ ونقول: ما ورد فى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ لا حرج فيه، لأنه لم يأت وصفا لإنسان معين، بل هو حديث عام يشمل جميع المكلفين.
أما فى الحديث عن عيسى وأمه، فهو حديث خاص عنهما فى المقام الأول. من أجل ذلك روعى معهما تحشمهما ووقارهما.
(13) النساء (24).
(14)
المائدة (6).
إضافة إلى أن الغائط نفسه كناية فى نفسه، لأنه عبارة عن المكان الذى تقضى فيه الحاجة، ولكنه إذا ما قيس بهذه الكناية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كان كالتصريح بالنسبة لها. ومن الكناية عن الموصوف فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (15)
كناية عن سفينة نوح عليه السلام، وهى أبلغ مما لو قيل: حملنا على سفينة. لأن المقام مقام تمجيد لقدرة الله، وامتنان على نوح عليه السلام وفى ذكر عناصر تركيب السفينة وهما الخشب والمسامير، تذكير بعظمة وقدرة الله، وجلال النعمة على نوح ومن آمن معه.
هذا، والكناية- عموما- أبلغ من التصريح، لأنها تقرن الدعوى بدليلها المصدق لها. فقوله تعالى فى عيسى وأمه «كانا يأكلان الطعام» أبلغ مما لو قيل: كانا مخلوقين .. لأن هذا القول يخلو من الدليل المادى المصاحب للدعوى أما «كانا يأكلان الطعام» فهو دليل صدق الدعوى.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(15) القمر (13).