الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافا حول مفهوم البدل نفسه، لا حول اشتراطه، فإن مفهوم البدل ومعناه العام يشمل أمرين: الرد إلى ما كان قبل شرع الحكم المنسوخ وهو البراءة الأصلية، أو الإباحة.
ونقل الحكم المنسوخ إلى حكم آخر، فكلاهما يسمى بدلا، فلا إشكال إذن ولا خلاف؛ لأن رد الحكم إلى الإباحة هو نسخ إلى بدل؛ لأن الإباحة نوع من أنواع الخطاب.
(9) وينقسم النسخ من جهة أخرى إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نسخ الأثقل بالأخف، وهو الغالب والكثير.
والثانى: نسخ الحكم بحكم آخر مساو له.
كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ البقرة: 144.
والثالث: نسخ الأخف بالأثقل، وهو قليل.
كنسخ حبس الزوانى بالجلد والرجم، ولا شك أن الضرب بالحجارة حتى الموت أثقل من الحبس.
ومنع بعض العلماء هذا النوع بدعوى أن الله يريد بنا اليسر فى تشريعاته كلها، كما قال جل شأنه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
وقال عز من قائل: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ.
والجواب عن هذه الشبهة أن العسر واليسر والخفة والثقل من الأمور الإضافية، فما من أمر خفيف إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه، وما من أمر ثقيل إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه، وكل ما أمر الله- تعالى- به يسر لنا إذ فوقه ما هو عسير وعسير، وكل ما نقلنا إليه من أحكام تخفيف علينا بالنسبة لما فى علمه من مشاق، ولو أن المقصود التخفيف المطلق، واليسر المطلق لكانت ركعة واحدة فى الصلاة مثلا أخف بكثير مما هى عليه، ثم إنه قد وقع النسخ بالأشد فلا سبيل إلى إنكاره ومنعه.
(10)
قال السيوطى فى «الإتقان» : (قال بعضهم:
سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام:
قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاث وأربعون: سورة الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم،
والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن إلا التين والعصر والكافرون.
وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة وثلاث بعدها، والحج، والنور وتاليها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، والتكوير، والعصر.
وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ست: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى.
وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية) (15).
هذا. والسور التى ذكر السيوطى أنها تشتمل على ناسخ فقط، أو ناسخ ومنسوخ معا، يحمل على النسخ بمعناه الواسع الذى يشمل ما كان مطلقا فقيد إطلاقه، وما كان عاما فخصص عمومه بنوع من أنواع التخصيص، أو كان مبهما فأزيل إبهامه، أو كان غير مؤقت فأقت، ونحو ذلك.
وهو مفهوم الصحابة للنسخ كما سيأتى بيانه.
(11)
الآيات التى قيل إنها منسوخة عدها السيوطى اثنتين وعشرين آية بعد أن ضيق مفهوم النسخ بعض الشيء وبين الناسخ لها ونظمها فى قصيدة لتحفظ.
وإليك هذه الآيات وما ذكره فى شأنها- مع مناقشته فى بعض ما ذهب إليه.
الأولى: قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (البقرة): 180.
قيل: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقيل: بحديث «لا وصية لوارث» (16)، وقيل:
بالإجماع، حكاه ابن العربى.
وقد نازعه فى نسخ هذه الآية جماعة من أهل العلم، وقالوا: إنها محكمة، وهو الظاهر لى.
قال القاسمى فى «محاسن التأويل» (17) بعد أن ذكر ما ذهب إليه السيوطى: (ذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
أو كتب على المحتضر: أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم .. ولو فرض المنافاة لأمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية، بإبقاء القريب الذى لا يكون وارثا لأجل صلة الرحم ....
(15) ج 3 ص 69 - 70.
(16)
الحديث أخرجه الترمذى فى كتاب الوصايا، باب ما جاء فى:(لا وصية لوارث) عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: «إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث» .
(17)
ج 3 ص 411 وما بعدها.
قالوا: ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها فى غيرهم).
الثانية: قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على آثار كثيرة وردت فى صحيح البخارى ومسلم ومسند أحمد.
لكن قد ورد ما يفيد أنها محكمة؛ فقد روى البخارى فى التفسير عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول فى هذه الآية: «ليست منسوخة، وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكينا» .
الثالثة: قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ البقرة: 187.
قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقد روى أن شهر رمضان قد فرض على الذين من قبلنا على الوجه الذى كان مفروضا على المسلمين قبل نزول هذه الآية الناسخة، بمعنى أنهم قد كتب عليهم أنه إذا صلّى أحدهم العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها من الليلة المقبلة.
وهذا ما رواه أبو جعفر الرازى عن الربيع ابن أنس عمن حدثه عن ابن عمر.
ونحن لا ندرى على وجه اليقين أن الصوم قد فرض على الذين من قبلنا على هذا النحو، فيكون الأصح الذى تطمئن إليه النفس أن هذه الآية ناسخة للسنة التى كان عليها المسلمون فى أول الإسلام.
الرابعة: قوله جل شأنه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ البقرة: 217.
ذكر القرطبى وغيره من المفسرين: (أن العلماء اختلفوا فى نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين فى الأشهر الحرم مباح.
واختلفوا فى ناسخها:
فقال الزهرى: نسخها وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً التوبة 36.
وقيل: نسخها غزو النبى صلى الله عليه وسلم ثقيفا فى الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس فى الشهر الحرام.
وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال فى الأشهر الحرام، ويحلف على ذلك؛
لأن الآيات التى وردت بعد عامة فى الأزمنة، وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق) (18).
الخامسة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: 240.
(قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً البقرة: 234. وهى متقدمة عليها فى الترتيب مؤخرة عنها فى النزول.
وذهب جماعة من المفسرين إلى أنها محكمة لا نسخ فيها وهو الراجح عندى.
وبيان ذلك: أن الآية الأولى فى ترتيب المصحف فرضت على المرأة أن تعتد فى بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن، لا تخرج فيها من بيتها إلا لحاجتها الضرورية، ولا تتزين للرجال، ولا تتعرض لهم من أجل الزواج، حتى تنقضى عدتها.
والآية الثانية فى الترتيب أقرت حكم الآية الأولى من وجوب العدة أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن، مع إفادة استحباب أن تكون العدة حولا.
وهذا الاستحباب إما أن يكون وصية من الله للورثة؛ مبالغة فى تكريم المرأة وإنعاما منه فى رفع المعاناة عنها، وتطييبا لنفسها ووفاء لزوجها، وإما أن يكون وصية من الزوج قبل موته، وإما أن يكون وصية من الورثة بعضهم لبعض.
وأما النفقة فليست مرفوعة بميراثها من زوجها؛ لأن هذه الوصية على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب، فآية المواريث نقلت الحكم من الوجوب إلى الاستحباب ولم ترفعه بالكلية.
ومن هنا نفهم أن النسخ فى هذه الآية يحمل على معناه الواسع الذى قال به السلف، والخلاف بين الفريقين لفظى أو اصطلاحى ولا مشاحة فى الاصطلاح، وكل من الفريقين على الصواب- إن شاء الله تعالى.
ومن نظر فى هاتين الآيتين وجد الأمر كما قررناه، فالآية الأولى فيها ذكر التربص وهو الانتظار والحبس عن الزواج حتى تنتهى العدة، بخلاف الآية الثانية، وبذلك تكون الآية الأولى خاصة بالزمن الذى لا تتعرض فيه المرأة إلى خطبة الأزواج، وما تبقى من الحول وهو سبعة أشهر وعشرين يوما تكون المرأة فيه مخيرة بين الانتقال من بيت الزوج المتوفى والتزوج بآخر والمكث فى بيت زوجها المتوفى
(18) راجع القرطبى عند تفسير هذه الآية.
عنها دون أن تتزوج بآخر؛ وفاء لزوجها الأول ومبالغة فى تكريمه، وعندئذ تكون أهلا لإكرام أهل زوجها لها، واعتزازهم بوجودها بينهم.
وحيث أمكن الجمع فلماذا نعدل عنه إلى القول الذى يرتضيه قوم وينكره آخرون.
السادسة: قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ البقرة:
284.
قيل إنها منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها البقرة: 286.
والأصح أنها ليست منسوخة، فالآية الثانية بيان لها؛ فقد وقع فى نفوس المؤمنين أنهم سيحاسبون على كل ما يخطر فى ضمائرهم من سوء؛ كما يحاسبون على كل ما تبديه أنفسهم من شر وإن لم يمكنهم دفعه؛ فبيّن الله- عز وجل فى الآية الثانية أنه لا يحاسبهم إلا على ما يمكنهم دفعه من الخواطر؛ إذ على المؤمن أن يدفع وساوس الشيطان
أولا بأول، ولا يسمح لها أن تتحول إلى إرادة ثم إلى عزم ثم إلى فعل؛ عملا بقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ الأعراف: 200/ 201.
والدليل على ما ذكرناه من عدم النسخ ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائى وغيرهم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ- دخل قلوبهم منها شىء، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال: فألقى الله الإيمان فى قلوبهم فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد فعلت رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: قد فعلت. وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال: قد فعلت.
واستدل القائلون بالنسخ بما رواه أحمد فى مسنده عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا:
سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله فى إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا.
والمراد بالنسخ هنا من قبيل بيان المجمل وتقييد المطلق على حسب مفهوم المتقدمين من الصحابة والتابعين لا على حسب مفهومه عند المتأخرين، فالقول بعدم النسخ أسلم) (19).
السابعة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ آل عمران 102.
قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن: 16.
فإن كان النسخ بمعنى بيان المجمل وتقييد المطلق- كما هو مفهوم المتقدمين للنسخ- فلا مانع من القول به؛ لأن الآية الثانية بيان للأولى وتقييد لمطلقها؛ فمن المعلوم شرعا أن الطاعة على قدر الطاقة.
الثامنة: قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً النساء: 8.
قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس فى العمل بها.
والأصح: أنها محكمة لم تنسخ بآية المواريث كما قال بعضهم؛ وذلك لما رواه البخارى فى صحيحه عن ابن عباس فى الآية قال: «هى محكمة وليست بمنسوخة» ، وفى لفظ عنه:«هى قائمة يعمل بها» .
التاسعة والعاشرة: قوله تعالى:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً النساء: 15 - 16.
هاتان الآيتان منسوختان عند جمهور المفسرين والمحدثين، ودليل النسخ فيهما ظاهر، لكن هذا النسخ هو من قبيل التدرج فى التشريع؛ رعاية لمصالح العباد فى العاجل والآجل.
فالآية الأولى تنص على عقوبة الزانية بكرا كانت أم ثيبا بحبسها فى البيت حتى يتوفاها الله أو يجعل لها مخرجا بآية أخرى أو حديث.
والآية الثانية تنص على عقوبة الرجال من
(19) دراسات فى علوم القرآن أ. د. محمد بكر إسماعيل ط دار المنار ص 264 - 267 سنة 1991 م.
الأيامى والأبكار، وهى الإيذاء بالأيدى والنعال والتقريع بالألسنة وما إلى ذلك من أنواع الإيذاء المناسب لهذه الجريمة، وهى جريمة الزنا واللواط كما يرى بعض المفسرين.
قال ابن كثير فى تفسيره: (كان الحكم فى ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حبست فى بيتها فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ..
فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ؛ لذلك قال ابن عباس: «كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد أو الرجم» ، وكذا روى عن عكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء الخرسانى، وأبى صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك، أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه).
ثم ساق الحديث الذى رواه أحمد فى مسنده، ومسلم فى صحيحه وغيرهما من أصحاب السنن، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الحادية عشرة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النساء: 33.
منسوخة بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الأنفال 75 (وقيل إنها غير منسوخة، لأنها تدل على توريث مولى الموالاة، وتوريثهم باق غير أن رتبتهم فى الإرث بعد رتبة ذوى الأرحام، وبذلك يقول فقهاء العراق).
والأصح: أنها منسوخة؛ لكثرة الآثار الواردة فى ذلك عن الصحابة والتابعين.
الثانية عشرة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المائدة: 2.
قيل إن قوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بمقتضى عموم قوله:
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً التوبة: 36، وقد سبق القول فى هذا، فالحق عدم النسخ.
فالحكم باق كما هو، فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم فى الأشهر الحرم، إلا إذا اضطروا لذلك.
الثالثة عشرة: «قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ المائدة: 42 منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ المائدة: 49.
وقد قيل بعدم النسخ، وأن الآية الثانية متممة للأولى، فالرسول صلى الله عليه وسلم مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية، وهذا ما نرجحه، لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ المائدة: 106.
قيل: قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ منسوخ بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ الطلاق: 2.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الأنفال: 65.
قيل: إنها منسوخة بقوله سبحانه الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الأنفال: 66.
ووجه النسخ: أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة، وأن الثانية أفادت وجوب الواحد للاثنين، وهما حكمان متعارضان فتكون الثانية ناسخة للأولى- على ما تقدم بيانه عند الكلام على نسخ الأثقل بالأخف- والنسخ هنا ظاهر- ولكن قد يقال إن هذا النسخ هو انتقال من الواجب إلى الرخصة.
السادسة عشرة: قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا التوبة: 41.
قيل: نسخت بآيات العذر، ومنها قوله:
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ التوبة: 91.
والأصح أنه لا نسخ فى الآية، فكأنه قيل:
انفروا خفافا وثقالا إلا من كان معذورا لا يستطيع القتال لكونه ذا عاهة من مرض أو عرج، أو عمى أو زمانة، ونحوها من المعوقات، مع بقاء طائفة تقوم بما يحتاج إليه القاعدون من أولى الضرر، كتعليم وإرشاد وغير ذلك.
السابعة عشرة: قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ النور: 3.
قيل: منسوخة بقوله سبحانه وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ
(20) انظر مناهل العرفان ج 2 ص 161.
وَإِمائِكُمْ النور: 32. لأن الآية خبر بمعنى النهى، بدليل قراءة «لا ينكح» بالجزم وهى قراءة عمرو بن عبيد والقراءات يفسر بعضها بعضا.
والأصح عندى- والله أعلم- أنه لا نسخ فى الآية، لأن الآية لها معان يمكن أن تحمل عليها بحيث لا تتعارض مع قوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ.
فمن معانيها: أن الزانى لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية لا يطاوعها على الزنا إلا عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد تحريمه.
وقراءة عمرو بن عبيد بالجزم تدل على حرمة نكاح الزانيات إلا إذا ظهرت توبتهن.
وآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ مخصّصة بقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أى: وزوجوا الأيامى منكم بشرط ألا يكن زانيات، والله أعلم.
الثامنة عشرة: قوله تعالى:
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ الآية النور: 58.
قال السيوطى فى «الإتقان» (21): «قيل:
منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس فى العمل بها». أه.
والأصح: أنها غير منسوخة، فهى أدب عظيم أدّب الله به عباده، فلا أدرى كيف ساغ له أن يذكرها فى هذا الباب.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ الأحزاب: 52.
قيل: نسخها قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الأحزاب: 50.
وهذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة فى النزول عن الآية الأولى.
وقد أخرج أبو داود فى سننه والترمذى فى جامعه والحاكم وابن المنذر وغيرهم عن عائشة قالت: (لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم).
العشرون: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً المجادلة 12.
قيل: نسخت بالآية التى بعدها.
الواحدة والعشرون: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا الممتحنة: 11.
قيل: نسختها آية الغنيمة وهى قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَ
(21) ج 3 ص 76.
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الأنفال: 41.
وقيل: منسوخة بآية السيف وهى قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية التوبة: 5.
والأصح: أنها محكمة إذ لا تعارض بين هذه الآيات الثلاث.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا المزمل 1 - 4.
قيل: منسوخة بقوله سبحانه فى آخر هذه السورة: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ الآية المزمل: 20 ثم نسخ هذا الوجوب بالصلوات الخمس.
روى أحمد فى مسنده ومسلم فى صحيحه عن عائشة- رضى الله عنها- قالت فى حديث طويل: (إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة- تعنى سورة المزمل- فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها فى السماء اثنى عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة).
هذه هى الآيات التى قيل إنها منسوخة قد نقلتها من «الإتقان» للسيوطى وتصرفت فى نقلها بالتوضيح والتعليق والإضافة ليعلم القارئ جلية الأمر فى هذه الآيات وموقف العلماء فى نسخها من عدمه، وأكثرها فى نظرى غير منسوخ على المعنى الضيق الذى تمسك به المتأخرون وهو رفع الحكم المتقدم بحكم متأخر.
فضلا عن المعنى الواسع الذى قال به المتقدمون؛ وهو تخصيص الحكم العام أو تقييد المطلق بحكم متأخر عنه.
وبعد أن عرفنا مفهوم النسخ فى اللغة والشرع، وعرفنا حكمه وأدلته وأركانه وشروطه، وما إلى ذلك، أرى أن أختم هذا البحث ببيان الحكمة من النسخ وإنها لعظيمة، عرفنا شيئا منها فآمنا به، وخفى منها الكثير فسلمنا بجهلنا فيه.
ومن المعلوم أن شريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السماوية التى لم يعد لها ما يستدعى بقاءها بحال، فجاءت جامعة لأصول الشرائع كلها تعدل المسار، وتصحح المعتقد وترد الناس إلى فطرتهم التى فطرهم الله عليها، وتلائم ظروفهم المعيشية، وتلبى مطالبهم الدنيوية والأخروية، وتبغى لهم اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة، وتتدرج بهم رويدا رويدا، صاعدة بهم فى مدارج الرقى شيئا فشيئا، وتسير بهم من السهل إلى
الأسهل ومن الصعب إلى الأصعب أحيانا تدريبا لهم على احتمال صنوف الحياة فى شتى صورها، أو تسير بهم من تكليف إلى تكليف آخر مساو له؛ لابتلائهم وامتحان قلوبهم، فتظهر طاعة المطيع وعصيان العاصى.
فالنسخ نوع من التدرج فى التشريع، روعى فيه مصالح العباد فى العاجل والآجل، فإن من الأمور التكليفية ما يصلح فى وقت دون وقت، وفى حال دون حال فأخذ الله عباده بالحكمة، فوضع لهم من التشريعات ما يناسبهم على اختلاف درجاتهم وبيئاتهم وأحوالهم.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أ. د/ محمد بكر إسماعيل