الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كيف بدا الوحى]
ولعلنا نتساءل عن (بدء الوحى): متى وكيف بدأ؟؟
ولقد تكفلت السنة الصحيحة فى الجواب عن ذلك، فيروى الشيخان والترمذي والنسائى وغيرهم بإسنادهم عن السيدة عائشة أم المؤمنين- رضى الله تعالى عنها- أنها قالت:
«أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد- رضى
الله عنها- فقال: زمّلوني
…
زملونى
…
فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسى، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا ابن أخى، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى نزّل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذع، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» (86).
* ولنا فى هذا الحديث الجامع وقفات عدة:-
فالوقفة الأولى: عند توقيت أوّليّة الوحى وسرّ نوعيّته فى هذا البدء: فقد روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملك على النبى صلى الله عليه وسلم بغار حراء كان يوم الاثنين لسبع عشرة خلت
(86) انظر الحديث بتخريجه فى (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 51 - 53، ط/ الحلبى.
من رمضان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن أربعين سنة. ونقل الحافظ ابن حجر عن البيهقى أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر. وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحى اليقظة وقع فى رمضان (87).
* أما عن حكمة بدء الوحى بالرؤيا الصادقة، فقد ذكر الإمام العينى أن النبى صلى الله عليه وسلم ابتدأ بها لئلا يفجأه الملك، ويأتيه بصريح النبوة ولا تحتملها القوى البشرية، فبدأ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا مع سماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، ورؤية الضوء، ثم أكمل الله له النبوة بإرسال الملك إليه فى اليقظة وكشف له عن الحقيقة كرامة له (88).
* والوقفة الثانية: عند سر تحبيب الخلوة إليه صلى الله عليه وسلم فى غار حراء خلال فترة الوحى المنامى وقبل ظهور الملك بالوحى الجلى، يقول العلماء: إن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له، ومن ثم: فهى معينة له صلى الله عليه وسلم على التفكر والتأمل إذ بها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة، ثم إن الخلوة مبعث الصفاء الروحى الذى تستقبل الروح به فيوضات الأنوار الإلهية. وإنما كانت الخلوة والتعبد بجبل حراء بالذات؛ لأنه كان يرى منه بيت ربه وهذه الرؤية عبادة! (89)
* والوقفة الثالثة: عند حكمة غطّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقد قيل: إنها التهيئة لتلقى الوحى القرآنى، ليظهر فى ذلك الشدة والاجتهاد فى الأمور، وإنما تكرر ثلاثا للمبالغة فى التثبت (90).
* والوقفة الرابعة: للجواب عن تساؤل:
من أين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجائى إليه هو جبريل- عليه السلام؟ وبما عرف أنه حق لا باطل؟
فقد أجيب عن ذلك: بأن الحق- تعالى- قد أقام للنبى صلى الله عليه وسلم دليلا يقينيا على أن الجائى إليه ملك لا شيطان، كما أقام المعجزة دليلا لنا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم (91).
وأقول أيضا: إن الله تعالى أوجد فى قلب النبى صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بأنه ملك الوحى جبريل، وهذا العلم مستغنى عن الدليل.
* ثم الوقفة الخامسة: عند قول الملك له صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حيث استدل الجمهور على أن سورة (اقرأ) هى أول ما نزل من القرآن الكريم، وفيها دليل فقهى على وجوب استفتاح القراءة ببسم الله.
عند بعض العلماء كما قال السهيلى، وإن كان محل خلاف.
(87) انظر المصدر السابق 1/ 68، وانظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 22 ط/ الهيئة المصرية.
(88)
انظر (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 67.
(89)
،
(90)
،
(91)
المصدر نفسه 1/ 68 وفتح البارى 1/ 18.
* والوقفة السادسة: عند قول ورقة:
(هذا الناموس الذى نزّل الله على موسى) فإن الناموس فى اللغة: هو صاحب سر الخير وهو هنا جبريل عليه السلام، وقد سمى به لخصوصه بالوحى والغيب. وإنما خصص بالناموس الذى أنزله الله على موسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء مع أن لكل نبى ناموسا؛ لأنه أنزل عليه كتاب التوراة الذى هو أكبر كتب الأنبياء قبل القرآن، بخلاف سائر الأنبياء فإن منهم من نزل عليه صحف، ومنهم من نبئ بإخبار جبريل- عليه السلام.
* وأما الوقفة السابعة: فهى مع أول من آمن بالوحى المحمدى وبالرسول صلى الله عليه وسلم؛ وعايشه مع أول شعاع الإسلام!
إنها السيدة خديجة- رضوان الله عليها- التى شهد حديث بدء الوحى بكمالها وجزالة رأيها وقوة نفسها، وعظم فقهها؛ حيث جمعت للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم جميع أنواع أصول المكارم وأمهاتها فى وصفها له وهى تهدئ روعه.
وإنه الصدّيق الأعظم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الذى جاء فى السيرة عن عمرو بن شرحبيل أنه دخل على السيدة خديجة إبان بدء الوحى القرآنى فذكرت له ما رآه النبى
صلى الله عليه وسلم قالت له:
«يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة» - وذلك فى مرة أخرى غير التى ذهبت فيها معه إلى ورقة- وإنه للحبر الجليل ورقة الذى شهد للنبى صلى الله عليه وسلم بالوحى وبالرسالة، وقال فيه النبى صلى الله عليه وسلم فيما روى الحاكم فى «مستدركه» عن السيدة عائشة- رضى الله عنها-:«لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو جنتان» .!! (92)
ثم كانت (فترة الوحى) التى صرح بها حديث بدء الوحى فى نهايته، حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم:«ثم لم ينشب ورقة- أى لم يلبث- أن توفى وفتر الوحى» . فما المقصود بفترة الوحى؟ وما مدتها؟ وما حكمتها؟.
* أما من حيث المعنى اللغوى: فالفترة مرة من الفتور، وفى مفردات الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة (93).
وأما المقصود بفترة الوحى: فقد ذكر العلامة ابن حجر وغيره أنه ليس المراد بفترة الوحى عدم مجىء جبريل إليه؛ بل تأخر نزول القرآن فقط (94).
* ومن ذلك يعلم: أن فترة الوحى القرآنى لا تعنى إطلاقا انقطاع اتصال النبى صلى الله عليه وسلم بربه أو بملك الوحى جبريل عليه السلام، ولذلك لما تأخر الوحى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفهم
(92) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى 1/ 17.
(93)
انظر (المفردات) للراغب الأصفهانى ص 373 ط/ دار المعارف.
(94)
انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 22 ط الهيئة المصرية.
المشركون من ذلك أن الله ودّعه وقلاه أنزل الله تعالى قوله: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، وذلك ردا على زعمهم الخاطئ، وثمة مرويات أخرى تعاضد ذلك فى سبب النزول، منها ما أخرجه الشيخان عن جندب أنه قال:«قالت امرأة من قريش للنبى صلى الله عليه وسلم ما أرى شيطانك إلا قد ودعك، فنزل: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» (95).
* وأما عن مدة فترة الوحى: فقد قال الحافظ ابن حجر: (وقع فى تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبى: أن مدة فترة الوحى كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، ثم قال:
(وليس المراد بفترة الوحى المقدرة بثلاث سنين- وهى ما بين نزول (اقرأ) و (يا أيها المدثر) عدم مجىء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط) (96).
ثم نقل عن السهيلى أنه قال: (جاء فى بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة كانت سنتين ونصفا).
ثم عقب عليه بقوله: (وهذا الذى اعتمده السهيلى من الاحتجاج بمرسل الشعبى لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما)(97)، وهو يشير بهذا إلى رواية ابن سعد عن الإمام ابن عباس حيث قال:( ......... مكث أياما بعد مجىء الوحى لا يرى جبريل)(98).
ثم حسم الحافظ الأمر بقوله- عند شرح أحاديث سبب نزول سورة (والضحى):
(والحق أن الفترة المذكورة فى سبب نزول سورة (والضحى) - غير الفترة المذكورة فى ابتداء الوحى؛ فإن تلك دامت أياما، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا) (99).
* وأما عن حكمة فترة الوحى: فقد ذكر العلماء فيها وجوها عدة:
فمنها: ما ذكره الحافظ ابن حجر: (أن هذه الفترة كانت من مقدمات تأسيس أمر النبوة، ليتدرج فيه وليمرن عليه، وقد شق عليه فتوره حيث لم يكن خوطب عن الله بعد:
أنك رسوله ومبعوثه إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمرا بدئ به ثم لم يرد استمراره.
فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه، فتح الله له من أمره بما فتح) (100).
ومنها: ما ذكره شيخ الإسلام العينى: من أن فتور الوحى مدة إنما كان كذلك ليذهب ما كان- عليه الصلاة والسلام وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود).
ومنها كذلك: دلالة قاطعة على أن هذا الوحى من عند الله- تعالى- وأن التنزيل
(95) انظر (أسباب النزول) للواحدى، بتحقيق السيد صقر ص 489، ط/ الأولى، و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى 32/ 210، ط/ دار الفكر.
(96)
(97)
انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 22 - 23.
(98)
نفس المصدر 12/ 303.
(99)
نفس المصدر 8/ 577.
(100)
نفس المصدر 12/ 303.