الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيجاز بحذف الكلمة المفردة
وهذه هى الدرجة الثالثة صعودا فى صور الإيجاز بالحذف، وضابطها أن المحذوف فيها كلمة مفردة: اسما أو فعلا، ليست حرفا من بنية الكلمة، ولا أداة لها دلالة فى الجملة.
ولهذه الصور ورود ملحوظ فى كلام العرب، وفى القرآن الكريم.
فمن وروده فى كلام العرب قول ابن مطروح:
لا انتهى، لا انثنى، لا ارعوى
…
ما دمت فى قيد الحياة، ولا إذا
أى: ولا إذا مت، فحذف الفعل «مت» وهي كلمة مفردة (1) والذى دل عليها قوله قبلها «فى قيد الحياة» أما الداعى إلى حذفها فهو استقامة الوزن الشعري أما فى القرآن الكريم فمن أمثلة هذا النوع من الإيجاز قوله تعالى:
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً (2) وموطن الإيجاز فى الآية هو:
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ لأن الفاء فى فَانْفَجَرَتْ عاطفة على محذوف، والتقدير: فضرب فانفجرت (3).
وذلك لأن الله جعل ضرب الحجر بالعصى سببا فى تحقيق رغبة موسى لسقى قومه.
وانفجار الماء من الحجر اثنتى عشرة عينا دليل قاطع على حصول الضرب، لأنه لو لم يضرب الحجر بعصاه- كما أمره الله، لم يحصلوا على الماء.
هذا هو دليل الحذف، وهو التلازم الطبيعى بين الطرفين:
الضرب وانفجار الماء؛ لأنهما سبب ومسبب. أما الداعى البلاغى لحذف ضرب فهو إظهار كمال النعمة على بنى إسرائيل (قوم موسى الذين استسقى لهم الله عز وجل، حتى لكأن الماء تفجر بدون ضرب.
ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (4) ففي الآية إيجاز بحذف كلمة مفردة بين الْعِجْلَ وبين سَيَنالُهُمْ
(1) خزانة الأدب (2/ 282).
(2)
البقرة (60).
(3)
الكشاف (1/ 284).
(4)
الأعراف (152).
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ والتقدير: اتخذوا العجل إلها (5).
ودليل الحذف فيها أن مطلق اتخاذ العجل لا يستوجب غضب الله وإذلاله إياهم، فقد يكون اتخاذه للأكل وهذا حلال لا معصية فيه، فتعين أن يكون اتخاذهم العجل معبودا من دون الله؛ لذلك استحقوا هذا الوعيد الشديد ....
أما الداعى البلاغى الذى اقتضى هذا الحذف فهو ذو دلالة عميقة ولطيفة، حاصلها أن اتخاذ العجل إلها ينبغى أن لا يكون عقيدة قوم، وألا يكون معمولا للاتخاذ حتى فى مجرد اللفظ، فحذفه من الكلام رمز لطيف على استبعاده من الوجود.
ومن مواضع هذا الإيجاز فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (6).
فى الآية الكريمة موضعان للإيجاز بحذف الكلمة المفردة، يظهران من التقدير الآتى:
خلطوا عملا صالحا بسيئ، وآخر سيئا بصالح ودليل الحذف هنا عطف وَآخَرَ سَيِّئاً على خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً إذ ليس المقصود أنهم خلطوا عملا بآخر سيئ، بل المراد أن لهم عملين:
* عمل صالح خلطوه بسيئ أقل منه، وعمل سيئ خلطوه بقليل من الصلاح ولو كان المراد المعنى الأول لقيل: خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ. فدل العطف على المحذوف فى الموضعين.
أما الداعى البلاغى للحذف فى الموضعين فلتحقيق فضيلة الإيجاز، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ، فى أكثر ما يمكن من المعانى. وفى ذلك يقول ابن مالك فى ألفيته:
وحذف ما يعلم جائز كما
…
تقول زيد بعد من عندكما
ومن هذا النوع من الإيجاز فى كتابه العزيز قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (7)،ففي الآية الكريمة إيجاز بحذف كلمة «البرد» بعد كلمة الْحَرَّ والتقدير: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد (8).
ودليل الحذف أن هذه السرابيل فى الواقع تحمى الناس من الحر والبرد معا، وإنما أوتر
(5) أنوار الربيع (3/ 72).
(6)
التوبة (102).
(7)
النحل (81).
(8)
أنوار الربيع (3/ 72).
ذكر الحر على البرد لأن الحر أكثر إيلاما من البرد، ولأن البرد يمكن الاحتياط منه بخلاف الحر.
والبلاغيون يسمون هذا النوع من الإيجاز ب «الاكتفاء» وعرفوه بقولهم:
«هو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر لنكتة» (9).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(9) أنوار الربيع (3/ 71).