الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّمثيل
التمثيل فى اللغة المماثلة بين شيئين تجمع بينهما صفات مشتركة فيهما أكثر من الصفات المفرقة بينهما، أو ما فى أحدهما مماثل تماما لما فى الآخر، بحيث لا يعتد بما بينهما من تباين (1). أما فى اصطلاح البلاغيين فيطلق التمثيل على عدة فنون بلاغية:
يطلق على الاستعارة التمثيلية، وعلى ضرب المثل، وعلى الكناية، وعلى نوع من الاستعارة غير التمثيلية (2)، ثم على التشبيه المركب، وهو الذى نخصه بالحديث فى هذا المبحث.
والتشبيه المركب هو التشبيه التمثيلى، أو التمثيل، وهو قسيم التشبيه فى الوجود. وبين التمثيل والتشبيه اتفاق واختلاف؛ لأن كل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا فالتشبيه خاص بما كان طرفاه (المشبه والمشبه به) مفردين ولو كان مثنى أو جمعا، كما تقدم فى مبحث التشبيه، وكذلك وجه الشبه يكون فى التشبيه مفردا، يعنى أمرا واحدا وإن تعدد وجه الشبه، كتشبيه القمر فى أواخر لياليه بالعرجون القديم فى التقوس والشحوب والنحافة (الدقة).
أما التمثيل أو التشبيه التمثيلى فيشترط فى طرفيه أن يكونا مركبين من عنصرين فأكثر.
هذه هى الفروق بين التشبيه، والتشبيه التمثيلى. وهذا موضع إجماع بين علماء البيان. فإن أطلق وصف التمثيل على التشبيه لم يرد منه التشبيه التمثيلى باتفاق وفى القرآن الكريم صور كثيرة للتشبيه التمثيلى المركب الطرفين والوجه، موزعة على معان وأغراض شتى شارحة، مرغبة، محذرة، ناصرة للحق، داحرة للباطل جامعة فى تصويرها بين مخاطبة كل المدارك والملكات مستخدمة فى أدائها كل عناصر الكشف، وقوة التأثير من ألوان يدركها البصر، وأصوات يتلقاها السمع وطعوم يحس بها الذوق، وشذا مفعم بالأريحية تمتع حاسة الشم، أو دخان خانق يزكم الأنوف.
وقد أجمل بعض الباحثين الأغراض التى تراد من التشبيه التمثيلى وغير التمثيلى فى الآتى:
* تقرير المعنى المراد فى وعى السامع.
(1) المصباح المنير والمعاجم اللغوية، مادة: مثل.
(2)
العمدة لابن رشيق (30).
* الإقناع بفكرة ما خيرية أو شرية.
* تحسين أمر للعمل به والحث عليه، أو تقبيح أمر للتنفير منه.
* إثارة المشاعر رغبة، أو رهبة.
* المدح أو الذم، التعظيم أو التحقير.
* إخراج الخفى مخرج الجلى.
* إمتاع العواطف وإثارة ملكات الفهم.
* عرض المعانى فى أسلوب شيق غير ممل (3).
وكثيرا ما تأتى صور التشبيه التمثيلى فى القرآن، وطرفا التشبيه فيها كلمة «مثل» بفتح الميم والثاء، أو يأتى «مثل» مشبها مصرحا به دون المشبه به.
وقد يؤتى بكلمة «مثل» فى تشبيهات القرآن مرادا بها القصة والشأن العجيب، أو مشارا بها إلى مثل مضروب على غير طريق التشبيه.
والمراد من كل استعمالاتها التوضيح والكشف والعظة والاعتبار.
وقبل أن نأخذ فى عرض النماذج وتحليلاتها نشير إلى فرق آخر جوهرى بين التشبيه المفرد الطرفين والوجه والتمثيل المركب الطرفين والوجه.
ذلك الفرق هو أن التشبيه المفرد يأتى فى نطاق أضيق من حيث الدلالة على المعانى، من التشبيه التمثيلى، حيث ترى نسبة معانى التشبيه المفرد من نسبة معانى التشبيه التمثيلى تعادل نسبة 1: 2، أو إلى 3 أو أكثر، لأن التشبيه التمثيلى له دلالات مكثفة فى الطرفين، وفى الوجه.
فمثلا قول كعب بن زهير فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم
إن الرسول لنور يستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول
فيه تشبيه للرسول بالنور فى الهداية فى الشطر الأول وتشبيه له بالسيف فى القوة.
ففي كل تشبيه منهما معان جزئية مفردة لا كثافة فيها.
قارن هذا بقول الشاعر يصف الشمس وقت شروقها
والشمس من مشرقها قد بدت
…
صفراء ليس لها حاجب
كأنها بوتقة أحميت
…
يجول فيها ذهب ذائب
المشبه هو الشمس وقت شروقها فى لونها الأصفر، وامتدادات قرصها، وأشعتها المتهادية منها. هذا هو تركيب المشبه أما المشبه به فهو إناء نحاس مستدير الشكل
(3) أمثال القرآن (59 - 60) دكتور عبد الرحمن الميدانى الطبعة الثانية (1412 هـ- 1992 م) دمشق- دار القلم.
أحميت عليه النار وفيه ذهب أصفر اللون، ذائب يتحرك وسط الإناء تخرج منه أشعة صاعدة أمام الرائى. وهذا هو تركيب المشبه به والمشبه وهما مركبان حسيان يريان بحاسة البصر. أما وجه الشبه:
فهو الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع صفرة اللون والأشعة المتموجة المرسلة من سطح الإناء وهذا هو تركيب وجه الشبه.
قارن هذا التشبيه التمثيلى بالتشبيه المفرد فى قول كعب بن زهير يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم. تر الفروق الواضحة بين كثافة المعانى والصور هنا، ويسرها وبساطتها هناك.
وعلى هذا المنوال جاءت التشبيهات التمثيلية في القرآن الكريم، ولنأخذ أولا قوله تعالى:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4).
هذه الآية الكريمة تواجه قضية من قضايا الشرك والإيمان فى منتهى الخطورة:
حاصل هذه القضية أن مشركى العرب، مع إيمانهم بالله، كانوا يشركون به أصنامهم وأوثانهم، يرجون منها النفع، وأن يقربوهم من الله زلفى.
فكيف واجه القرآن هذه القضية. وكيف أبطل باطل القوم وأقام عليهم الحجة، وساعدهم على التخلص من اعتقادهم الباطل، لا بحز أعناقهم بالسيوف، ولكن بالعقل والبرهان بادئا بتوجيه الخطاب إليهم هكذا:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ .. وخلاصة هذا المثل أن الله ساق لهم عظة وعبرة من واقع حياتهم التى يعيشونها بكل مشاعرهم ووعيهم. يقول الله لهم:
إنكم تزعمون أن أصنامكم وأوثانكم لها شرك مع الله فى ملكه تنفع وتضر كما ينفع الله ويضر، متساوون مع الله فى التصرف فى شئون الكون.
ونحن نسألكم: هل لكم من عبيدكم وإمائكم الذين تملكون رقابهم هل لكم منهم شركاء فى ما تملكون يتصرفون فى ممتلكاتكم بكل حرية دون الرجوع إليكم، وأنكم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم وتخشونهم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم يعلمون، كخشية بعضكم بعضا- أيها الأحرار- إذا كانت بينكم شركة وخلطة فى بعض الأموال.
إن الإجابة على هذا السؤال هى بالنفى قطعا، سواء أفصحوا بها أو أسروها فى أنفسهم.
(4) الروم (28).
فهذا تمثيل جدلى احتجاجى أفحم الله فيه المشركين بالعقل والبرهان؛ ولذلك جاءت خاتمة الآية:
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
وكان الله يقول لهم بعد ذلك النفى الذى يحسونه فى أنفسهم: إذا كنتم لا ترضون أن تشركوا عبيدكم وإماءكم معكم فى ممتلكاتكم وأنتم وهم بشر مخلوقون، فكيف ترضونه لأصنامكم مع الله وهو الخالق المهيمن، وهم مخلوقون بل جماد لا إحساس لهم ولا إرادة.
فالمشبه والمشبه به هنا هيئتان أو صورتان مركبتان وكذلك وجه الشبه هيئة مركبة من عدة عناصر، لأنه تشبيه تمثيلى مركب.
المشبه هو دعوى المشركين أن للاصنام شركة مع الله فى الكون تنفع كما ينفع، وتضر كما يضر مع بطلان الأسس التى بنوا عليها هذه الدعوى.
وهو مركب مزيج من الحسيات وبعض المعنويات والمشبه به نفى أن يكون للمشركين شركاء من عبيدهم ومملوكيهم يتصرفون كما يتصرف أسيادهم فى ما يملكون، مع خشية الأسياد من المملوكين إذا تصرفوا فى أموالهم دون الرجوع إليهم، كخشية الشركاء الأحرار بعضهم بعضا. وهو مركب حسى مشوب بشيء من المعنوى.
ووجه الشبه هو بطلان المساواة بين الطرفين مع بطلان ما بنيت عليه هذه المساواة.
وبهذا التمثيل الرائع بطلت عقيدة الإشراك عقلا كما هى باطلة واقعا.
ومثال آخر هو قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (5).
المشبه فى هذا التمثيل الإنفاق الذى يتبعه منّ وأذى من المنفق الذى لم يرد بإنفاقه وجه الله ولا يرجو ثوابه، والمشبه به حجر صخرى عليه قليل من تراب، هطل عليه المطر فأزال التراب وترك الحجر أملس نقيا.
فكل من المشبه والمشبه به هيئة، مركبة من عدة عناصر حسية ومعنوية.
ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تجمع أشياء بعضها فوق بعض، سلطت عليها عوامل الإزالة مع سرعة الفناء والهلاك وهو مركب حسى.
(5) البقرة (264).
والغرض من التمثيل هو الحرمان والحسرة والعجز عن التدبير والتحذير من سوء المصير ومثال ثالث، هو قوله تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ .. (6).
وهذا مثل أو تمثيل لحال الحياة الدنيا فى نموها وازدهارها وسرعة فنائها وهوان أمرها.
شبهها الله عز وجل بصورة حديقة أرواها الماء فأنبتت من كل زوج بهيج، ثم سرعان ما ذبلت ويبست وزالت نضارتها وبهاؤها، وتحطمت أشجارها وجفت ينابيعها وصار نباتها وزرعها غثاء أحوى.
فالمشبه هو الدنيا فى سرعة زوالها بعد بهجتها ونضارتها، والمشبه به حديقة توفرت لها أسباب النماء والازدهار والإبهاج ثم سرعان ما أسرع إليها الفناء والهلاك، وطرفا التشبيه مركبان حسيان.
أما وجه الشبه فهو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء مبهجة، نافعة، أبلغ ما يكون النفع، مع سرعة هلاكها وانقضائها. وهو مركب حسى كذلك.
والغرض من التشبيه هو التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها وترك العمل للحياة الآخرة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التشبيه التمثيلى فى القرآن إذا كان المشبه به فيه مركبا من عدة عناصر نجد أداة التشبيه فيه داخلة دائما على العنصر الرئيسى من عناصره. وإذا تتبعنا هذه التمثيلات القرآنية كلها نجدها خاضعة لهذا المنهج البيانى الحكيم. ونريد من العنصر الرئيسى فى التمثيل القرآنى كونه سببا فى ما بعده، ولولاه ما كان عنصر منها، وهى منه بمثابة المسبب، فقد ضرب ثلاثة أمثال للحياة الدنيا. وفى كل واحد منها نجد الماء هو العنصر الرئيسى لجميع العناصر الآتية بعده.
أول هذه الأمثال الثلاثة كان فى سورة «يونس» وهو قوله تعالى:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (7).
تأمل العناصر التى وردت بعد «الماء» تجد الماء هو السبب فيها، ولولا الماء ما كان لواحد منها وجود.
أما المثل الثانى فهو آية «الكهف» التى تقدم ذكرها آنفا. وفيها دخلت أداة التشبيه على
(6) الكهف (45).
(7)
يونس (24).
«الماء» هكذا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ.
أما المثل الثالث فهو فى سورة «الحديد» (8) وهو قوله تعالى:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً
…
أداة التشبيه فى هذا التمثيل هى «الكاف» أما «مثل» فهو المشبه به، وهو مضاف إلى غَيْثٍ وغيث أول عنصر ذكر فى بيان عناصر التشبيه بعد المشبه به. فصار كأن الأداة دخلت عليه مباشرة، وذلك لأن الماء هو السبب فى التمثيلات الثلاثة.
وكذلك قوله تعالى فى وصف أحبار اليهود وغبائهم:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً .. (9).
كان «الحمار» أول عنصر يذكر من عناصر الصورة لأن المثل مضروب لغباء الأحبار، والحمار هو أكثر الأغبياء غباء، لذلك قدم، ولم يقل: كمثل أسفار يحملها الحمار؟
وكذلك قوله تعالى فى تمثيل مضاعفة الأجر للمنفقين أموالهم فى سبيل الله.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ .. (10).
كانت «الحبة» أول عناصر الصورة؛ لأنها سبب فى ما بعدها وما بعدها مسبب عنها.
وهذا ملحوظ جدير بالاعتبار فى بلاغة القرآن الكريم، وقليل من يلتفت إليه من الدارسين، قدماء ومحدثين (11).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(8) الحديد (20).
(9)
الجمعة (5).
(10)
البقرة (261).
(11)
انظر خصائص التعبير فى القرآن الكريم (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة القاهرة.