الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصحف نقطه وشكله
رسم المصحف أول ما رسم دون نقط أو شكل لسبب يسير جدا هو: أنه لم يكن شىء من ذلك معروفا فى الكتابة عندئذ، وكانت سليقة العربى الخالص وفطرته النقية أمانا له من الالتباس والنطق بغير ما يصح فى العربية، فلما اتسعت الفتوحات واختلط العرب بالعجم سرت اللكنة إلى ألسنة البعض وخفى ما كان بدهى الظهور، فاحتاج الناس إلى ما يؤمنهم اللبس ولا سيما فى قراءة القرآن من المصحف. (1) ولسنا نعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى تم هذا النقط والشكل، ولا أول من وقع على يديه. قال السيوطى فيما ذكر من مسائل مرسوم الخط، وفيه أيضا حكم النقط والشكل وحكم ما أضيف من غيرهما إلى المصاحف: (مسألة: اختلف فى نقط المصحف وشكله. ويقال: أول من فعل ذلك: أبو الأسود الدؤلى بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصرى ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثى. وأول من وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام الخليل. وقال قتادة: بدءوا فنقطوا، ثم خمسوا، ثم عشروا. وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآى، ثم الفواتح والخواتم. وقال يحيى بن أبى كثير: ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث فى المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآى. أخرجه ابن أبى داود. وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود، قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وأخرج عن النخعى أنه كره نقط المصاحف. وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. وأخرج ابن أبى داود عن النخعى أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. وأخرج عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية، فقال: امح هذا فإن ابن مسعود كان يكرهه. وأخرج عن أبى العالية أنه كان يكره الجمل فى المصحف، وسورة كذا، وفاتحة سورة كذا، وقال مالك:
لا بأس بالنقط فى المصاحف التى يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا. وقال الحليمى-
(1) انظر: البرهان فى علوم القرآن، للزركشى، ح 1، ص 379.
تكره كتابة الأعشار والأخماس (2) وأسماء السور وعدد الآيات فيه، لقوله:«جردوا القرآن» . وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فلا يتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا.
وإنما هى دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها. وقال البيهقى: من آداب القرآن: أن يفخم، فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا تقرمط (3) حروفه، ولا يخلط به ما ليس منه- كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعانى الآيات.
وقد أخرج ابن أبى داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف.
وأخرج عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن أنه قال: لا بأس بشكله.
وقال النووى: نقط المصحف وشكله يستحب؛ لأنه صيانة له من اللحن والتحريف.
وقال ابن مجاهد: ينبغى ألا يشكّل إلا ما يشكل. وقال الدانى: لا أستجيز النقط بالسواد؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا أستجيز جمع قراءات شتى فى مصحف واحد بألوان مختلفة؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة، والهمزات بالصفرة. وقال الجرجانى من أصحابنا فى «الشافعى»: من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره.
ثم قال السيوطى: «فائدة» : كان الشكل فى الصور الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الدانى. والذى اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذى أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته،
والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها؛ فإن كان مظهرا- وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها، وإلا جعلت بينهما، وتكتب الألف المحذوفة والمبدل والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب «م» حمراء، وقبل الحلق سكون، وتعرى عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء، فيكتب عليها السكون نحو:«فرطت» ، ومطة الممدود لا تجاوزه. أه.
على أن الأمر قد صار بعد أمد محل تساهل شريطة أمن اللبس، حتى كتب الناس فى مصاحفهم أسماء السور وعدد آيها، وكونها مكية أو مدنية، بل قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا، والجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وكل ذلك وضعوا له عناوين فى
(2) الأعشار هى أن يكتبوا بعد كل عشر آيات كلمة عشر، أو الرمز إليها بحرف «ع» ، ويسمى هذا العمل تعشيرا. والأخماس: أن يكتبوا بعد كل خمس آيات كلمة خمس، أو الرمز إليها بحرف «خ» ، ويسمى هذا العمل تخميسا.
(3)
يقال: قرمط الكاتب فى الكتابة: جعلها دقيقة متقاربة الحروف والسطور. كما فى المعجم الوسيط.
المصاحف دون نكير من الأوساط العلمية ذات الشأن ما دام اللبس مأمونا والقرآن مميزا لا يختلط بشيء من تلك الإضافات.
أحكام أخرى تتعلق بالمصحف ذكرها صاحب «الإتقان» : قال السيوطى- رحمه الله: «فصل فى آداب كتابته:» يستحب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط دون مشقة، وأما تعليقه فيكره. وكذا كتابته فى الشيء الصغير. أخرج أبو عبيد فى «فضائله» عن عمر أنه وجد مع رجل مصحفا قد كتبه بقلم دقيق، فكره ذلك وضربه، وقال:
عظموا كتاب الله.
وكان عمر إذا رأى مصحفا عظيما سرّ به.
وأخرج عبد الرزاق عن علىّ: أنه كان يكره أن تتخذ المصاحف صغارا وأخرج أبو عبيد عنه أنه كره أن يكتب القرآن فى الشيء الصغير.
وأخرج هو والبيهقى فى «الشّعب» عن أبى حكيم العبدى، قال: مر بى علىّ وأنا أكتب مصحفا، فقال: أجل قلمك، فقضمت من قلمي قضمة، ثم جعلت أكتب فقال: نعم، هكذا نوره كما نوره الله. وأخرج البيهقى عن علىّ موقوفا، قال: تنوق رجل فى «بسم الله الرحمن الرحيم» فغفر له. وأخرج أبو نعيم فى تاريخ «أصبهان» وابن أشتة فى «المصاحف» من طريق أبان، عن أنس مرفوعا:«من كتب بسم الله الرحمن الرحيم مجودة غفر الله له» . وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله: إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم، فليمد «الرحمن». وأخرج عن زيد بن ثابت: أنه كان يكره أن تكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ليس لها سين. وأخرج عن يزيد بن أبى حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب: «بسم الله» ولم يكتب لها سينا، فضربه عمر، فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟
قال: ضربنى فى سين. وأخرج عن ابن سيرين: أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن ابن سيرين: أنه كره أن يكتب المصحف مشقا (4)؛ قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصا.
وتحرم كتابته بشيء نجس، وأما بالذهب فهو حسن، كما قاله الغزالى. وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس وأبى ذر وأبى الدرداء أنهم كرهوا ذلك. وأخرج عن ابن مسعود: أنه مر عليه مصحف زين بالذهب. فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق. قال أصحابنا: وتكره كتابته على الحيطان
(4) فى المصباح: «ومشقت الكتاب مشقا، من باب قتل: أسرعت فى فعله» أه. أى فهو يؤدى بما فيه من العجلة إلى إمكان وقوع نقص فى كلمة أو حرف، وهذا هو ما قصده ابن سيرين رحمه الله فيما ذكر من علة كراهته.
والجدران وعلى السقوف أشد كراهة: لأنه يوطأ. وأخرج أبو عبيد عن عمر بن العزيز قال: (لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ).
وهل تجوز كتابته بقلم غير العربى (5)؟ قال الزركشى: لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء.
قال: ويحتمل الجواز، لأنه قد يحسنه من لا يقرأ بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين.
والعرب لا تعرف قلما غير العربى، وقد قال تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ انتهى.
وقد كفانا الله هذا كله بما أتاح لنا من المطابع التى بلغت من الجودة مبلغا عظيما.
ثم قال السيوطى بعد مسألة النقط والشكل:
(فرع): أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف عن ابن عباس، أنه كره أخذ الأجرة على كتابة المصحف. وأخرج مثله عن أيوب السّختيانى، وأخرج عن ابن عمر وابن مسعود أنهما كرها بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها، وأخرج عن محمد ابن سيرين: أنه كره بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها، وأخرج عن مجاهد وابن المسيب والحسن أنهم قالوا: لا بأس بالثلاثة. وأخرج عن سعيد بن جبير أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس، إنما يأخذون أجور أيديهم. وأخرج عن ابن الحنفية أنه سئل عن بيع المصحف قال:
لا بأس، إنما تبيع الورق.
وأخرج عن عبد الله بن شفيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشددون فى بيع المصاحف. وأخرج عن النخعى قال: المصحف لا يباع ولا يورث. وأخرج عن ابن المسيب: أنه كره بيع المصاحف، وقال: أعن أخاك بالكتاب أو هب له. وأخرج عن عطاء عن ابن عباس، قال: اشتر المصاحف ولا تبعها. وأخرج عن مجاهد أنه نهى عن بيع المصاحف ورخص فى شرائها.
وقد حصل من ذلك ثلاثة أقوال للسلف ثالثها: كراهة البيع دون الشراء، وهو أصح الأوجه عندنا، كما صححه فى «شرح المهذب» ، ونقله فى «زوائد الروضة» عن نص الشافعى، قال الرافعى: وقد قيل: إن الثمن متوجه إلى الدفتين، لأن كلام الله لا يباع، وقيل: إنه بدل من أجرة النسخ. انتهى.
وقد تقدم إسناد القولين إلى ابن الحنفية وابن جبير، وفيه قول ثالث: أنه بدل منهما معا. أخرج ابن أبى داود عن الشعبى، قال: لا بأس ببيع المصاحف، إنما يبيع الورق
وعمل يديه. أ. هـ. قلت: الصواب مع المجوزين.
ثم قال السيوطى: «فرع» : قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى «القواعد» : القيام
(5) يريد كتابة كلمات القرآن العربية بحروف غير عربية كاللاتينية فى هذه الأيام مثلا. أى مع نطقها بالعربية كما هى. فتنبه.
للمصحف بدعة لم تعهد فى الصدر الأول.
والصواب ما قاله النووى فى التبيان من استحباب ذلك لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به.
ثم قال السيوطى: «فرع» : يستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة بن أبى جهل- رضى الله عنه- كان يفعله. وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود. ذكره بعضهم؛ ولأنه هدية من الله تعالى، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير. وعن أحمد ثلاث روايات:
الجواز، والاستحباب، والتوقف، وإن كان فيه رفعة وإكرام لأنه لا يدخله قياس، ولهذا قال عمر فى الحجر: لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ثم قال السيوطى: «فرع» : يستحب تطييب المصحف، وجعله على كرسى، ويحرم توسده، لأن فيه إذلالا وامتهانا. قال الزركشى: وكذا مد الرجلين إليه. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن سفيان، أنه كره أن تعلق المصاحف. وأخرج عن الضحاك، قال:
لا تتخذوا للحديث كراسى ككراسى المصاحف.
ثم قال السيوطى: (فرع): يجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح، أخرج البيهقى عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا عن تفضيض المصاحف. فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثنى أبى عن جدى: أنهم جمعوا القرآن فى عهد عثمان، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا أو نحوه.
وأما بالذهب فالأصح جوازه للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف، دون غلافه المنفصل عنه، والأظهر التسوية.
ثم قال السيوطى: (فرع): إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبلى ونحوه، فلا يجوز وضعها فى شق أو غيره؛ لأنه قد يسقط ويوطأ، ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة الكلم، وفى ذلك إزراء بالمكتوب. كذا قال الحليمى. قال: وله غسلها بالماء؛ وإن أحرقها بالنار فلا بأس؛ أحرق عثمان مصاحف كان فيها آيات وقراءات منسوخة، ولم ينكر عليه. وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل. لأن الغسالة قد تقع على الأرض. وجزم القاضى حسين فى «تعليقه» بامتناع الإحراق، لأنه خلاف الاحترام، والنووى بالكراهة.
وفي بعض كتب الحنفية: أن المصحف إذا بلى لا يحرق، بل يحفر له فى الأرض ويدفن.
وفيه وقفة لتعرضه للوطء بالأقدام.
ثم قال السيوطى: (فرع): روى ابن أبى داود عن ابن المسيب، قال: لا يقول أحدكم:
مصيحف ولا مسيجد؛ ما كان لله تعالى فهو عظيم.
ثم قال السيوطى: (فرع): مذهبنا ومذهب جمهور العلماء تحريم مس المصحف للمحدث، سواء كان أصغر أم أكبر، لقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (6).
وحديث الترمذى وغيره: «لا يمس القرآن إلا طاهر» .
ثم قال السيوطى: «خاتمة» روى ابن ماجة وغيره عن أنس مرفوعا: «سبع يجرى للعبد أجرهن بعد موته وهو فى قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ترك ولدا يستغفر له من بعد موته، أو ورث مصحفا» . والله أعلم.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(بعض مصادر هذا البحث مرتبة على حروف المعجم):
(1)
الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى.
(2)
البرهان فى علوم القرآن، للزركشى.
(3)
البيان فى مباحث من علوم القرآن، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد المجيد غزلان.
(4)
تفسير النيسابورى بهامش تفسير الطبرى، ط 1 مصطفى الحلبى.
(5)
الجامع الصحيح، للبخارى.
(6)
صحيح مسلم.
(7)
فتح البارى بشرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى.
(8)
فضائل القرآن، للحافظ ابن كثير.
(9)
المستدرك على الصحيحين، لأبى عبد الله الحاكم.
(10)
مقدمة ابن خلدون.
(11)
مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.
(12)
الانتصار للقرآن، للقاضى أبى بكر الباقلانى.
(13)
النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى.
(6) سورة الواقعة: 79.