الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيجاز بحذف التّراكيب
هذا النوع من الإيجاز هو أعلى درجاته وصوره؛ لأن المحذوف فيه أكثر من الجملة، الواحدة، فقد يكون المحذوف جملتين أو ثلاثا أو أكثر.
وله حد أدنى، وهو حذف جملتين، وأما حده الأعلى فغير منضبط فى عدد معين من الجمل أو التركيب، وبعض البلاغيين يسمى صور الجمل التى يعتريها الحذف أنها جمل ذكرها غير مفيد؛ لأن معناها يدرك وهى محذوفة فيكون ذكرها غير محتاج إليه (1).
وهذا النوع من الإيجاز له ورود مستفيض فى القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى:
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (2). القائل: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ هو مريم رضى الله عنها حين بشرها الملك بعيسى عليه السلام، وقد اشتملت هذه الآية على إيجاز بالحذف، كان المحذوف فيه جملتين.
لأن قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا تعليل معلله محذوف، أو سبب مسببه محذوف والتقدير:
«فعلنا هذا وقدرناه لنجعله آية للناس.
ودليل الحذف هو ذكر السبب، وهو يقتضى مسببا؛ لأن بين السبب والمسبب تلازما فى الوجود، وذكر أحدهما يدل على الآخر المحذوف.
أما الداعى البلاغى، فهو- كما تقدم مرات- إحكام العبارة ونفى الفضول عنها ومن ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا (3). فى الآية إيجاز بحذف أكثر من جملة، والتقدير:
«لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل (4).
والدليل على هذا الحذف هو قوله تعالى:
أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا فحذف من الأول، لدلالة الثانى عليه والبلاغيون يسمون هذا الحذف:
«الاحتباك» وله صورة أخرى، وهى: أن يكون الحذف من الأول لدلالة الثانى عليه (5) وفى
(1) معجم المصطلحات البلاغية (1/ 358).
(2)
مريم (20 - 21).
(3)
الحديد (10).
(4)
الكشاف (4/ 62).
(5)
ينظر مصطلح الاحتباك الآتى بعد قليل.
الآية دليل آخر على هذا الحذف، ولفت الذهن إليه: وهو الفعل لا يَسْتَوِي فى صدر الآية، لأنه يستدعى طرفين بينهما تفاوت ليتحقق نفى المساواة بينهما. وليس فى صدر الآية إلا طرف واحد موصوف بصفات الكمال. وهذا يقتضى حضور الطرف الثانى فى الذهن ليستقيم الكلام ويحسن السكوت عليه.
والداعى البلاغى لهذا الحذف هو تهذيب العبارة لأن المعنى الذى يدركه الفهم إدراكا قويا مع حذف الألفاظ الدالة عليه، يكون فى ذكرها فضول يتنزه عنه البيان الحكيم.
ومنه كذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (6). وفى هذه الآية حذوفات، والتقدير:«والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القربات الخالصة لوجه الله تعالى، ويخافون أن ترد عليهم صدقاتهم» أو المحذوف هو: «يخافون أن ترد عليهم صدقاتهم، أن ترد عليهم جميع قرباتهم التى قدموها طامعين فى قبول الله لها، وإثابتهم عليها» ودليل هذه الحذوفات هو قوله تعالى:
قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ لأن الوجل الحاصل فى القلوب ليس من نفس الطاعات المرجو بها وجه الله، وإنما من بوارها وكسادها وردّ الله إياها.
أما السر البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز وتكثير المعانى مع قلة الألفاظ المستعملة فيها.
وفى الإيجاز عموما ميزة لا تنفك أبدا، بل هى ملازمة له ملازمة الروح للجسد النامى بالحياة وهى اختصار الزمن فى النطق، واختصار المساحة فى الورق.
وقد بلغ الحذف قدرا كبيرا لم نعهده من قبل، وذلك فى قوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (7).
والإيجاز بالحذف- هنا- موطنه قبل قوله تعالى حكاية عن ملك مصر فى عصر يوسف عليه السلام: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ لأن الآيات المذكورة قبله كلام قاله يوسف عليه السلام للفتى الذى أرسله الملك إلى يوسف، ليعبر له رؤياه، ولم يكن الملك حاضرا حين قال يوسف عليه السلام لرسول الملك هذا الكلام. ولكن الذى حدث- لا محالة- أن الفتى لما رجع من عند يوسف عليه السلام أبلغ الملك وحاشيته ما قاله له يوسف، بدءا من قوله: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً
(6) المؤمنون (60).
(7)
يوسف (47 - 50).
إلى قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يعنى أن هذه الآيات كررت أو قيلت مرتين:
* مرة قالها يوسف لرسول الملك.
* ومرة قالها رسول الملك للملك.
لكن النظم القرآنى الحكيم اكتفى بذكرها عن يوسف لرسول الملك. وحذف ذكرها على لسان رسول الملك للملك مع حذوفات أخري تتعلق بهذا المقام.
وتقدير الكلام مع الاختصار هو الآتى:
«ثم عاد رسول الملك من عند يوسف بعد أن سمع منه ما قال ودخل على الملك وحاشيته فقص عليهم ما قاله يوسف .... » وبعد أن فرغ من إبلاغ ما قاله يوسف صدقه الملك وحاشيته وأبدى الملك إعجابه بما قال يوسف ثم قال ائْتُونِي بِهِ هذا كله محذوف؛ لأنه مفهوم من الفجوات التى تخللت الكلام. وهذا يسمى فى الأدب المسرحى الحديث «قص المناظر» التى تترك ليملأ العقل فجوات الفراغ التى بين ثنايا الكلام أما الآيات التى طوى ذكرها فعدد جملها أو تراكيبها اثنا عشر تركيبا، هى:
قال- تزرعون- حصدتم- ذروه- تأكلون- يأتى- يأكلن- قدمتم- تحصنون- يأتى- يغاث- يعصرون.
أما عدد الكلمات التى تتكون منها هذه التراكيب ولواحقها فهى أكثر من أربعين كلمة ودليل هذا الحذف أمران:
* عمل العقل فى ملء الفراغات البدهية.
* ذكر ما قاله يوسف دل على ما حكاه رسول الملك للملك.
أما الداعى البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز مع تجنب العبث فى البيان، ودفع الملل لدى السامع، لو أعيدت الآيات مرة أخرى بلا فصل طويل.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى