الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السابعة والثلاثون:
الأقربُ أن يكون قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "مؤمنين" شهادةً بالإيمان الحقيقي، لا بناءً على الظاهر، فإن كانت هذه المقبرةُ هي المقبرةَ التي قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهلها:"أَنَا شَهِيْدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ"(1) فلا شكَّ في ذلك، إذا حُمِلت الشهادة على الشهادة بالإيمان؛ كما هو الظاهر، وإن لم تكن هي تلك المقبرة، فالأقرب ما ذكرناه، ويحتمل أن يكونَ بناءً عَلى الظاهر، والله أعلم.
الثامنة والثلاثون:
لا يشكُّ في طلب التأسي بقول هذا القول، والتأسي حقيقةً فعلُ مثلِ الفعل المتأسَّى به، فإذا حملناه على الشهادة الحقيقية بالإيمان لم يمكن في حقِّنا مثلُ ذلك، فيكون هذا من باب الاكتفاء بالمَيْسورِ عند تعذُّر (2) المعسور بقدر الإمكان.
التاسعة والثلاثون:
قوله: "وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُون" يُورد فيه سؤالٌ بسبب اقتضاء "إن" لدخولها (3) على الجائز دونَ الواجب، واستلزام ذلك لجواز النقيض مع القطع باللحوق بهم في الموت أو غيره مما وجب وقوعُه، والكلام عليه في مقامات: الأول: في اقتضاء (إن) للجواز والتردُّدِ، فيه وجهان:
(1) رواه البخاري (1278)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
في الأصل: "من تعذر"، والمثبت من "ت".
(3)
"ت": "ودخولها".
الوجه الأول: أن (1) ذكر هذا ليس على سبيل ما دلَّ عليه ظاهرُ (إن) من التردُّد، لكنه على سبيل التأَدُّب [اللفظي] (2) في إضافة الأمور إلى الله تعالى وامتثال {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] وإن كان ليس من ذلك بعينه ولكن قد يشير إليه، ويكون ذلك كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] مع العلم بدخولهم.
الوجه الثاني: ما نُقِل عن بعضهم: أن (إنْ) تكون بمعنى (إذْ)، وهو ضعيف على مذهب هؤلاء المتأخرين الناصرين لمذهب البصريين من النُّحاة، وقد حكى كَونَها بمعنى (إذ) مهلبُ بن الحسن النحوي [من الطويل]:
إذا كُسِرت (إنْ) فالمواضعُ ستةٌ
…
تكون بها (3) شرطًا ونفيًا وزائدهْ
وقالوا: بمعنى (إذ) و (إذ ما) وحكمُها
…
إذا خُفّفت فاللامُ فيها لفائِدَهْ
وقال في تفسيرها: وأما كونها بمعنى (إذ)، فقد قيل في قوله
(1) في الأصل: "أنه"، والمثبت من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
في الأصل و "ت": "منها"، والصواب ما أثبت؛ لاستقامة الوزن به.
تعالى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]؛ لأن الخطاب للمؤمنين، ولو كانت للجزاء لوجب أن يكون الخطاب لغير المؤمني؛ لأن الفعل الماضي في الجزاء بمعنى المستقبل، وقد جاء في القرآن الكريم مواضع منها هكذا.
وقد قيل: إنَّ الصحيح فيها أن تكون للجزاء، وذكرها القائل عن الشيخ أبي محمد - هو ابن بري - أنه قال:(إِنْ) تكون (1) بمعنى (إذ) مذهبُ الكوفيين.
قلت: يمكن أن يكون من هذه المواضع التي أشار إليها {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] ، {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41].
المقام الثاني: [إِنَّ](2) اللحاق يقتضي شيئًا يلحق (3) به، وذلك أمرٌ منسوبٌ إلى المسلَّم والمسلَّم عليه، وللمسلَّم عليه أوصافٌ متعددةٌ لا تنحصر في الموت، وعلى هذا ففيه وجوه:
أحدها: أن يكون اللَحاقُ في وصف الإيمان المحقَّق المتَّصِفِ بالموافاة لقوله المشهود به صلى الله عليه وسلم: "أَنَا شَهِيْدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ"،
(1) في الأصل: "أن تكون أن"، والمثبت من "ت".
(2)
سقط من "ت".
(3)
"ت": "ملحقًا".
وإن كانت هذه المقبرةُ هي مقبرةَ هؤلاء القوم، وعلى هذا الوجه يجب أن يكون التجويزُ أو التردُّدُ خارجًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإما أن يراد به مَنْ عداه من الحاضرين، وإما أن يرادَ المجموعُ من حيثُ هو مجموعٌ.
الثاني: أن لا يختصَّ باليوم المشهود بالموافاة، بل بناءً على ظاهر الحال، ويكونُ كما ذكرنا في الوجه قبلَه من تخصيص ذلك بِمَنْ عدا الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
الثالث: إن المنافقين كانوا بالمدينة، فيُحتملُ أن يكونَ بعضُهم كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المطلوبُ اتصافَهم بالإيمان؛ أي: بأصل الإيمان، فيكون بالنسبة إلى هؤلاء التردُّدُ واقعًا من طريقين:
أحدهما: تَبَدُّل ما هم فيه من النفاق بالإيمان.
والثاني: الموافاة عليه.
المقام الثالث: ما يرجع إلى المسلم، على أن يكون المرادُ اللحاقَ بالدفن في المكان إظهارًا لشرفه أو لشرف مَنْ به، ويكون مطلوبًا لأجل المجاورة، قال عمر رضي الله عنه: اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، ووفاةً في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم (1)، طلبًا للفضيلة التي أشرنا إليها، وهذا الوجه يتعلق أيضًا بالمسلَّم عليهم؛ لأنَّ من
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1791).