الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامسة والثلاثون:
تكلموا في معنى "قَرْنيَ الشيطانِ"، وطلوعِ الشمس بينهما، وحاصلُ الكلام يرجع إلى الحمل على الحقيقة، أو المجاز.
أما الأول: فقد ذكر بعضهم، أنه قيل: إنه حقيقةٌ، لا مجازٌ على ظاهره من غير تكييف، ونسب بعضهم هذا إلى الداوودي، قال بعضهم: وحجَّتُهم قولُ ابن عباس: "والذي نَفْسي بِيَدِه ما طَلَعَتِ الشمسُ قَطُّ حتَّى يتَحَيَّنَها سبعون ألفَ ملكٍ، فيقولون لها: اطلُعِي، فتقول: لا أَطْلُع على قَوْمٍ يعبدونَنِي من دون اللهِ، فَيأْتِيْها مَلَكٌ عن اللهِ، فيأمُرُها بالطلوعِ، فَتَسْتَقْبِلُ لِضِياءِ بني آدم، فَيَأْتِيها شيطانٌ يريدُ أَنْ يُعِيْدَها عن الطلوعِ، فَتَطْلُع بينَ قَرْنَيْهِ، فَيُحْرقُهُ اللهُ [تَحْتَها] (1)، وما غَرَبَتْ قَطُّ إلا خَرَّتْ للهِ ساجِدةً، فَيَأْتِيْها شيطانٌ يريدُ أَنْ يُعِيْدَها عن السجودِ، فَتَغْرُبُ يينَ قَرْنَيْه، فَيُحْرِقُه اللهُ تَحْتَها، وذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: "ما طَلَعَتْ إلا بَيْنَ قَرْنيَ شَيْطَانٍ، ولا غَرَبَتْ إلا بَيْنَ قَرْنيَ شَيْطَانٍ" (2).
قلت: قوله من غير تكييف لا ضرورة إليه، وإنما نضطر إلي ذلك فيما يستحيل ظاهره على الله تعالى، والقرن غير مستحيل على الشيطان، اللهم إلا أن يريد [بقوله](3) من غير تكييف، من غير تعيين
(1) سقط من "ت".
(2)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 7)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(9/ 271). وما ذكره المؤلف عن الداوودي، ذكره الحافظ في "الفتح"(13/ 46) عنه.
(3)
زيادة من "ت".
للمراد من المحامل الجائزة، والأثرُ المرويُّ عن ابن عباس محتاجٌ القولُ به إلى الثبوت عنه، ولا يمتنع فيه أن يُحملَ القرنان على جانبي رأسه مجازًا، فلا يتمُّ القولُ بالاحتجاج بالأثر على أنه حقيقة في القرن، نعم تكون حقيقة في التثنية، وظاهر ما نُقل أنهم يتكلمون على القرن.
وأما الثاني: وهو المجاز، فقال الهروي: قيل: قرناه: ناحيتا رأسه، قال: وقال الحربي: هذا مثل معناه: حينئذ يتحرك الشيطان ويتسلط (1).
وقال بعضهم: في معنى التمثيل والتشبيه: وذلك أن تأخيرَ الصلاة إنما هو من تسويلِ الشيطان لهم، وتسويفه (2) وتزيين ذلك في قلوبهم، وذوات القرون من شأنها أنها تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، وكأنهم لما دفعوا الصلاة، وأخَّروها عن وقتها بتسويل الشيطان لهم، حتى غربت (3) الشمس، صار ذلك بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها، وتدفعه بها.
وقيل: معنى القرن: القوة، أي: تطلع حين قوة الشيطان، قال بعضهم في هذا: ويحتمل أن يريد بقرن الشيطان قوتُه وما يستعين به على إضلال الناس، وكذلك يسجد للشمس حينئذ الكفار.
(1) وانظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 102).
(2)
جاءت على هامش "ت": لعله: "وتسويله".
(3)
"ت": "اصفرّت".
وقال بعضهم في تفسير القرن بالقوة: إنه من قولك: أَنَا مُقْرِنٌ لهذا الأمر، أي: مطيق له قوي عليه، وذلك أن الشيطان إنما يقوى [أمرُه](1) في هذه الأوقات، لأنه يسوِّل لعبَدَة الشمس أن يسجدوا لها.
وقال بعضهم: قرنُه: أمتُه وشيعتُه (2).
[و](3) قال بعض المتأخرين: والراجح عند جماعة من المحققين كونه على ظاهره، وهو أن المراد جانبا رأسه، ومعناه: أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات، ليصير الساجد لها كالساجد له (4).
قلت: قوله: على ظاهره، وتفسيره بجانبي رأسه ليس بجيد؛ لأن إطلاق اسم القرنين على جانبي الرأس مجاز، والظاهر إنما هو الحمل على الحقيقة في القرن يكون في التثنية، كما ذكرنا حقيقة لا في القرنين، وبعد ذلك فالجزم بالجائز الذي لا يتعيَّن الحمل عليه، يحتاج إلى دليل يدل على الوقوع، وإنما الحمل على الظاهر أن يقال: بالقرنين حقيقة، وأن الشمس تطلع بينهما، وذلك غير ممتنع كما قدمنا.
والقاعدة عند المتكلمين المنتسبين إلى السنة: أن الظواهر التي يجوز حملُها على الحقيقة عقلًا تُحمل عليها، وتعتقد على ما هو (5)
(1) زيادة من "ت".
(2)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 130 - 131).
(3)
سقط من "ت".
(4)
انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 269).
(5)
"ت": "هي".
عليه من الظاهر من غير تأويل، إلا أن هذا يختلف باختلاف المَحال، وقوة الدلالة بكثرة تتابع الظواهر على المعنى الواحد، فان انتهت إلى القطع بأن المراد الظاهر جزمنا بذلك، وكفّرنا المخالف، وإن استفاضت استفاضة لا تنتهي إلى القطع بدَّعناه، وإن كان دون ذلك فلا بأس بالقول بظاهره، لكن بشرط أن لا نبُدع المخالفَ في التأويل، ولا يُعادى في الدين، كما فعل الجُهال، فاحترِزْ على نفسك من هذا إن كان لك (1) بها عناية، ولسلامتها من عذاب الله رعاية، وقد مر لنا كلام في هذه القاعدة.
إذا ثبت هذا، فقد بيَّنَّا: أن ناحيتي رأس الشيطان إطلاقُ القرن عليهما مجاز، وفي التثنية حقيقة، وأما القول بأن القرن القوة، أي: يطلع حين قوة الشيطان، فهو مجاز أيضاً وعلاقته القوة لأجل صلابة القرن، وهو مجاز قريب، إلا أن التثنية في القرنين تشوش في حمله، وكذلك التثنية في حمله على الحزب والشيعة، وهذه المعاني في حديث الصنابحي الذي فيه الإفراد في لفظ القرن:"أن الشمسَ تطلُعُ ومعها قَرْنُ الشيطانِ"(2) لا يرد عليها حديث التثنية، لكنها تقتضي أن يكون الواقع طلوع قرن واحد، وهذا الحديث يقتضي أن يكون الواقعُ
(1)"ت": "لها".
(2)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 219)، ومن طريقه: الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 166)، والنسائي (559)، كتاب: المواقيت، باب: الساعات التي نهى عن الصلاة فيها.