الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسنامُ لا يُسقى.
إذا ثبتَ هذا كُلُّه دلَّ على أنَّ العطفَ بين الشيئين يُستعمَلُ مع اختلاف المعنى؛ كما في النظائر، فيكون عطفُ (الأرجل) على (الرؤوس) مع اختلاف المعنى في كون الرؤوس ممسوحة، والأرجل مغسولة، من هذا الباب، والله أعلم.
الستون بعد المئة:
القائلون بالمسح يحتاجون إلى الاعتذار عن قراءةِ النصب، وكلُّ واحدٍ من الفريقين يحتاج إلى ترجيح ما ذهبَ إليه من التأويل على ما ذهب إليه خصمُهُ، والذي ذكروه في الاعتذار عن قراءة النصب: أنها محمولةٌ على العطف على الموضع، كما يقال: لست بقائمٍ، ولا قاعداً، بالنصب على موضع (قائم)، وإن في الدار زيدًا وعمرو، بالرفع عطفًا على الموضع، {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186]، قال [من الوافر]:
مُعَاوي إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ
…
فَلَسْنَا بالجبال ولا الحَدِيْدا (1)
اقتضب الجبال عن الحديد، وقال [من البسيط]:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِيْنَارٍ لِحَاجَتِنَا
…
أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ (2)
(1) البيت لعقيبة الأسدي؛ انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 67)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 388).
(2)
قال البغدادي في "خزانة الأدب"(8/ 219): البيت من أبيات سيبويه =
فنصب (عبدَ ربٍّ) محمولاً على الموضع؛ لأن الأصل: باعثُ ديناراً.
وأبعدُ منه العطفُ على المعنى، قال الشاعر [من البسيط]:
جِئْني بِمِثْلِ بَني بَدْرٍ لِقَوْمِهم
…
أَوْ مِثْلَ إِخْوَةِ مَنْظُورِ بنِ سَيَّار (1)
بنصب (مثلَ)؛ لأن المعنى: هات مثلهم، أو أعطني مثلهم، فنصب (مثل) بهذا، وهو شائع كثير، وهو أصلحُ (2) من حمل الجرِّ على الجوار؛ فإنهُ لا يُساويه في الكثرة، وأما باب:
وزَجَّجْنَ الحواجِبَ والعُيُونَا
فهو أكبرُ من الجرِّ بالمجاورة، ونُقِلَ عن جماعة.
قال الواحدي في "وسيطه": وقال جماعة من أهل المعاني: (الأرجلُ) معطوفةٌ على (الرؤوس) في الظاهر، لا في المعنى، وقد ينسقُ بالشيء على غيرِه، والحكمُ فيهما مختلفٌ، كما قال الشاعر [من مجزوء الكامل المرفّل]:
= الخمسين التي لم يعرف قائلها. وقال ابن خلف: وقيل هو لحابر بن رألان، ونسبه غير خَدَمةِ سيبويه إلى جرير، وإلى تأبط شراً، وإلى أنه مصنوع، والله أعلم.
(1)
البيت لجرير، كما في "ديوانه" (ص: 242).
(2)
"ت": "أرجح".
يَا لَيْتَ بَعْلَكِ قَدْ غَدَا
…
مُتَقَلِّداً سَيْفًا ورُمْحا (1)
والمعنى: حاملًا رمحًا، وكذلك قول الآخر [من الرجز]:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بارِدًا (2)
المعنى: وسقيتها ماءاً، كذلك المعنى في الآية: وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أرجلكم، فلما لم يذكر الغسل، عطفت (الأرجل) على (الرؤوس) في الظاهر.
أجاب الفقيهُ أبو الفتح الشريف من وجوه:
منها: أنَّ الذين قرؤوا بالنصب، ذكروا أنه رجع إلى الغسل، كذا روي عن غير واحد منهم، من ذلك ما ذكره الفراء في "معانيه" عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه قرأ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب مقدم ومؤخر، وعن الكسائي في "معانيه": مَنْ نَصَبَ ردَّ إلى الغسل، ومثله عن جماعة من التابعين، وهم أعرفُ بما تلقوه عن أصولهم، لا سيما والأمرُ الذي تضمنته الآيةُ مما تعمُّ به البلوى، ويشتركُ فيه الخاصةُ والعامة.
قلت: ليس هذا بالقوي، فإنَّ تأويلَ البعض لا يمنعُ من حملِ اللفظِ على ما يجوزُ حملُهُ عليه لغةً، لا سيما ولم تحصل حكايةُ
(1) تقدم ذكره قريبًا.
(2)
لذي الرُّمة، كما في "ديوانه"(2/ 331)، وصدره:
لما حططت الرحل عنها وارداً
التأويل عن جميع القَرأة بالنصب.
ومنها: أن هذا توسُّعٌ، فيجوز، والظاهرُ والحقيقةُ يوجبان عطفَهُما على اللفظ، لا الموضع، كما أنَّ الظاهرَ في القراءة بالجر عطفُ (الأرجل) على (الرؤوس) في الحكم، وإنما عُدِلَ إلى الإعرابِ بالمجاورة، والتفريقِ بين العضوين في الحكم للدليل.
قال: والذي يبين ذلك ما حكاه أبو عبد الله، عن المفضل بن سلمة: أنه مُستنكَرٌ عند أهل اللغة أن يقول القائل: رأيت زيدًا، ومررت بخالدٍ، وبكراً، فاستُنكِرَ ذلك حين كان الظاهرُ حملَهُ على العامل اللفظي، وقد اعتُرِضَ بينهما بجملة لغير فائدة، ولو كان الظاهر حمله على الموضع (1) مع تقدم العامل اللفظي لم يُسْتَنْكَرْ، ولقيل: تقديره: رأيت زيدًا وعمراً، ومررت بخالد وبكر، لو لم يتقدمْهُ العاملُ.
ومنها: أنَّ في قول القائل: (فلسْنَا بالجبالِ)، الباء زائدة، والمعنى: فلسنا الجبالَ، وكذلك قوله: لست بقائم، وخَشَّنْتُ بصدره، الباء فيها زائدة، المعنى: لست قائمًا، وخَشَّنْتُ صدره (2)، فيستوي العطف على لفظه، والعطفُ على موضعه في المعنى، والباء في قوله:{بِرُءُوسِكُمْ} ليست بزائدة للتوكيد، وإنما هي للتبعيض، فيختلفُ العطفُ على لفظها، والعطفُ على موضعها في الحكم،
(1)"ت": "الوضع".
(2)
أي: أغظته.
ويفيدُ العطفُ على اللفظ بعضَ القَدَم، ويفيدُ العطفُ على الموضع وجوبَ المسح جميع القَدَم كلّها إلى الكَعْب، وهم لا يُوجبون مسحَ جميعِ القدم، بل أكثرُ ما يوجبونَهُ منه أن يضعَ كفَّهُ على الأصابع، فيمسحها إلى ظاهر القدم، وكذلك في الرأس لا يوجبون منه أكثر من مسح ثلاثة أصابع، ومنهم من قال: أقلُّ ما يُجزِئُ في مسح الرأس قدرُ إصبع واحدة.
والذي يبيِّنُ صحةَ هذا الفرق ما ذكره الشريفُ عَقيبَ كلامِه الذي حُكِيَ عنه في هذا الفصل، فقال: ومثله: مررت بزيد، وذهبت إلى عمرو، ولك أن تعطفَ فتقول: مررت يزيد وخالداً، وذهبت إلى عمروٍ وبشراً؛ لأنَّ موضعَ (بزيد) وإلى (عمروٍ) نصبٌ، وإن لم يجزْ أن نُسقطَ حرفَ الجر، فنقول: مررت زيدًا وذهبت عمرو، إلا أنه لما كانَ معنى مررت وذهبت: لقيت وأتيت، جاز أن تعطفَ فتقولَ: وخالداً، أي: وأتيتُ خالداً، وتكون (مررت) دالة على (أتيت). أو ليسَ هذا تصريحًا بأنه إذا حمل قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} على موضع {بِرُءُوسِكُمْ} يكون التقدير: وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين.
وقد قال الشريف في هذا الكتاب: إنَّ الباءَ في مسح الرأس يقتضي التبعيض، فيلزمُهُ إذا قَدَّرَ إسقاطَ الباء في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} أن يُوجِبَ مسحَ القدمين إلى الكعبين، وهو لا يُوجِبُ ذلك، فأين التوثيق بين القراءتين؟ وأين هذا الاستعمالُ من استعمال مَنْ حمل القراءةَ بالجر على الإعراب بالمجاورة، وأوجبَ بها ما أوجبَهُ بالقراءة المنصوبة سواء؟
ومنها: أنه إنما حُمِلَ قولُهُ: (ولا الحَديدا)، على الموضع؛ لأنه لم يكنْ هناك عاملٌ لفظيٌّ يمكنُ حملُه عليه، وكذلك: ليس زيد بقائم، ولا قاعدًا، وخشَّنْتُ بصدرِه، وصدرَ زيدٍ، وكذلك البيتان الآخران:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا
و:
جئني بمثلِ بَنِي بَدْرٍ لقومهم
لأنهُ ليس في شيء من ذلك ما يُحمَلُ النصبُ عليه إلا الموضع، وليس كذلك [في] (1) قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} في القراءة بالنصب؛ لأنه قد تقدم (2) عاملٌ لفظي، فكانَ الظاهرُ حملَهُ عليه، لا يُطلبُ حملُهُ على غيرِه، ومثال ذلك: رفعهم المفعول إذا لم يُسمَّ فاعلُهُ، فلو ذهب ذاهبٌ في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [القصص: 43]، إلى أن موسى في موضع رفع اعتبارًا بقوله جل ذكره:{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص: 48] لكان كلامُهُ لغوًا، وكذلك لا يلزمُ العطفُ على العامل مع تقدم العامل اللفظي، وإن لزم ذلك إذا لم يكنْ وجهٌ غيره، وأما [في] (3) قوله تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] قرأه أبو عمرو وعاصم: ويذرهم بالياء والرفع،
(1) زيادة من "ت".
(2)
"ت": "تقدّمه".
(3)
سقط من "ت".