الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حمله على الإباحة، لزم استعمالُ اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، ومِنَ الذي يدل على أنه لا يحمل على الندب، أنه ذُكِر الحكم، وعُلل بأنَّ الصلاة مشهودةٌ محضورة، وغُيِّيَ ذلك إلى غاية استقلال الظل بالرمح، ولو كان الأمر للندب لاستمر إلى هذه الغاية، لاستمرار العلَّة إليها.
السادسة والخمسون:
اختلفوا في كراهة الصلاة في وقت الاستواء (1)، والمشهور من مذهب مالك، أو أصحابِهِ عدمُ الكراهة، ففي (2) رواية ابن القاسم عنه: وما أَدْرَكْتُ أَهْلَ الفَضْلِ إِلا وهُمْ يُهَجرون، وَيُصَلون نِصْفَ النَّهارِ (3)، قال بعضهم: وهو عمل أهل المدينة لا ينكره منكِر، ومثل هذا العمل عنده أقوى من خبر الواحد، وكانوا في زمن عمر رضي الله عنه يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، وخروج عمر إنما هو بعد الزوال (4).
ومذهب الشافعي: الكراهة، إلا فيما استثناه من يوم الجمعة؛ فإنه لا تُكره فيها التطوعات وقت الاستواء، ومن أصحابه من قال بتخصيص الاستثناء بمن يغشاه النعاس، فلا يجوز التنفُّل لكل أحد، لاعتقاد أن المعنى المرخص لا يشمل الكل، وذكر في الترخيص معنيين:
(1) في الأصل: "الاستمرار"، والتصويب من "ت".
(2)
"ت": "فعن".
(3)
انظر: "المدونة الكبرى"(1/ 107).
(4)
انظر: "الذخيرة" للقرافي (2/ 11).
أحدهما: مشقة مراعاة الشمسِ والتمييز بين حالة الاستواء، وما قبلها، وما بعدها، فخفَّف الأمر عليهم بتعميم الترخيص.
الثاني: أن الناس يبكرون إليها فيغلبهم النوم، فيحتاجون إلى طرد النعاس بالتنفُّل، لئلًا يبطل وضوءهم، فيفتقروا في إعادة الوضوء إلى تخطي رقاب الناس.
فعلى المعنيين جميعاً: المتخلف القاعد في بيته وقت الاستواء لعذر أو غير عذر ليس له التنفُّل فيه، وأما الذي حضر الجمعة، فمقتضى المعنى الأول: تجويز النفل له مطلقاً، ومقتضى المعنى الثاني تخصيص الجواز بالذين يبكرون إليها ثم يغلبهم النعاس، أما الذي لم يبكر، ولم يؤذه النعاس (1)، فلا يجوز له ذلك.
وذكر الرافعي عن كلام غير الغزالي: أنه يقتضي اعتبارَ التبكير، وكون غلبة النعاس لطول الانتظار (2). فعلى هذا يأتي وجه آخر.
قال القرطبي: ومذهبُ جمهور العلماء جوازُ الصلاة حينئذ - وقد نُوزع في هذه الجمهورية التي ادَّعاها - وقال: وحجَّتُهم عملُ المسلمين في جميع الأقطار على جواز التنفُّل يوم الجمعة إلى صعود الإمام على المنبر وقت الزوال.
والذي قدمناه عن غيره من إسناد العمل إلى أهل المدينة، أقربُ إلى الثبوت من نسبته إلى جميع الأقطار.
(1) في الأصل: "أما الذين لم يبكروا، ولم يؤذهم النعاس"، والمثبت من "ت".
(2)
انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز". للرافعي (3/ 116، 120، 122).
قال: قال القاضي أبو الفضل - يعني عياضاً -: وتأوَّل الجمهور الحديثَ على أنه منسوخٌ بإجماع عمل الناس، أو يكون المرادُ به الفريضةَ، ويكون موافقاً لقوله:"إِذَا اشتَدَّ الحرُّ، فأبْرِدُوا عن الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحر من فَيْحِ جَهَنَّم"(1)، قال: وفي هذا نظر؛ وهو أنه لا يصح أن يكون هذا نسخاً على حقيقته، وإنما هو تخصيص، فإنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ الأول، لا رفعاً لكلّية ما تناوله، وأما قولهم: إن هذا في الفريضة فليس بصحيح لوجهين:
أحدهما: أن مقصودَ هذا الحديث: بيان الوقت الذي يجوز فيه النفل من الوقت الذي لا يجوز؛ كما قررناه آنفاً.
وثانيهما: حديث عقبة بن عامر المتقدم، فإنه قال فيه:"ثلاثُ سَاعات نهانا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلّيَ فِيهِنَّ"(2)، وذكر هذا الوقت فيها، ومقصودُه قطعاً: بيانُ حكم النفل في هذه الأوقات، والظاهر حملُ النهي على منع النفل في هذه الأوقات الثلاثة، إلا في يوم الجمعة، جمعاً بين الأحاديث والإجماع المحكي (3).
قلت: أما قوله: إنه لا يصح أن يكون نسخاً على حقيقته، فصحيح.
(1) رواه البخاري (510)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم (615)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر:"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 210).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 462 - 463).
وأما قوله: إنما هو تخصيص، فإنه إخراجُ بعض ما يتناوله اللفظ الأول، لا رفعاً لكلية ما تناوله: ففيه تسامح في العبارة قليلاً، فإن الإجماعَ العقليَّ لا يَنْسَخ، ولا يُخصص بنفسه، ولا يخرج، وإنما هو دليل هذه الأمور إذا صح وقوع الإجماع من الأمة على الفعل، وفي تقريره عُسْرٌ.
وأما إبطالهُ لقولهم: إن هذا في الفريضة بالوجهين المذكورين، وأحدهما: بيان مقصود الحديث عنده، فقد قدَّمنا في كون الأمر كما ادَّعاه نظراً، كلاماً، وثانيهما: حديث عقبة.
وقوله: ومقصودُه قطعاً بيانُ حكمِ النفل، فهذه القطعيَّة إنما تصحُّ بناءً على مذهبه، وأما من يقول إن الصلاة ممنوعةٌ في هذا الوقت، وإن كان فرضاً مقضيًّا فلا قطعَ على مذهبه ولا ظنَّ، وأجلى من هذا في بيان أن المراد النفلُ، وأنه لا يصح حملُه على الفرض، ولا الاستشهاد (1) بقوله عليه الصلاة والسلام:"إِذَا اشتَدَّ الحرُّ فأبْرِدوا عن الصلاةِ"(2)، فإن المراد في الصلاة في الحديث، أعني: حديث الأمر بالإبراد، صلاة الظهر، وصلاة الظهر ممنوعة في هذا الوقت بالإجماع، فإن نازعَ منازِعٌ وقال: لا أسلم أن المرادَ صلاةُ الظهر، بل مطلقُ صلاة الفرض، حتى يدخل فيه القضاءُ، فيلزمه أن يكون مانعاً
(1) في الأصل: "ولا استشهاد"، والمثبت من "ت".
(2)
تقدم تخريجه.