الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمُرمَّل صفة للنسج المنصوب جزمًا، رملْتُ الحصير أرمُلُه، نسجته.
يقال: ومنها أنشد أبو حاتم لذي الرُّمَّة [من البسيط]:
كأنَّما ضَرَبتْ قُدَّامَ أعينها
…
قطنًا مستصحب الأوتارِ محلوجِ (1)
فَجَرَّ المحلوج، وهو نعت للقطن المنصوب؛ للمجاورة والإتباع.
ومنها ما أنشد بعضهم [من المتقارب]:
أطوفُ بها لا أرى غيرَها
…
كما طافَ بالبيعةِ الراهبِ (2)
فجرَّ الراهب إتباعًا للفظ البيعة.
ومنها ما أنشد الأخطل [من الطَّويل]:
جزى اللهُ عنَّا الأَعْوَرَين مَلَامةً
…
وفروة ثَفْرَ الثَّورةِ المُتَضَاجِمِ (3)
السابعة والخمسون بعد المئة:
في اعتراضِ الإماميةِ على الخفضِ بالجوار، وهو من وجوهٍ:
(1) انظر: "ديوانه"(1/ 456)، وعنده:
عِهْنًا بمستْحصد الأوتار محلوجِ
(2)
لم أقف على قائله.
(3)
انظر: "ديوانه"(ص: 674)، والمتضاجم: المتسع.
الأول: ادعاءُ شذوذِهِ، قال الشريفُ: الإعرابُ بالمجاورة شاذٌّ نادرٌ، لا يُقاس عليه، وإنما ورد في مواضعَ لا يتعدَّى إلى غيرِها، وما هذه منزلتُهُ في الشذوذِ والخروجِ عن الأصول، لا يجوزُ أنْ يُحملَ كلامُ الله تعالى عليه.
وقال ابن المعلِّم: وقد صَرَّح أهلُ اللغة وأئمةُ العربية بأنَّ المجاورةَ لا يجوز استعمالُها في كتاب الله تعالى؛ لبعدِها عن أصل، ولخروجِها عن حقيقة الكلام.
وقالوا: استعمالُها شيءٌ يُخَصُّ به الأعرابُ دونَ الفصحاءِ من أهل اللسان؛ وقد نصَّ على ذلك الفرَّاء، واليزيدي، وغيرُهما من أهل اللغة.
وقال في فصل آخر: وقد قال المبرِّدُ: إنَّ قولهم: جحرُ ضبٍّ خربٍ، ليسَ فيه شيءٌ من حكم المجاورة، لكنه لما أضيفَ (الجحرُ) إلى (الضبِّ) صار كالاسم الواحد، فأعرب (الخرب) بنعتِ الاسم (1).
قال: ولم يقصد المتكلمُ بذلك ما ذهب إليه من لا علمَ له من خفض (الخرب) بالمجاورة.
أجاب الفقيهُ أبو الفتح سليم بأن الذين استدلُّوا بذلك، لم يقتصروا على مجرَّدِ الدعوى، لكن تلوا فيه آياتٍ من القرآن، وذكروا فيه أبياتًا من الشعر معروفةً، وحكوا عن قوم أمناءَ ثقاتٍ أنَّهم نقلوه عن العرب مُطلقًا من غير تقييد، فسبيلُ المستدلِّ عليه، إذا أَرادَ أن يحكمَ
(1) انظر: "المقتضب" للمبرد (4/ 73).
بشذوذه، ويقصرَهُ على موضع دونَ موضع، أن ينقلَ ذلك كنقلهم، ولا يقتصرَ على مجرد دعواه، ولأن في ذلك سدَّ باب الاحتجاج بكلام العرب، بأن يكونَ كلُّ من استدلَّ عليه بشيء منه، يقول: هذا إنَّما ورد في مواضعَ لا تتعدَّى إلى غيرها، وهو شاذٌّ نادر، وما هذه منزلتُهُ في الشذوذ والخروج عن الأصول، لا يُحتجُّ به، فيقف الاحتجاجُ بكلامهم، وإذا كان ذلك كذلك، لم يلزمْ هذا السؤال حتَّى يقرنَهُ بالبرهان.
وقال أبو البقاء العُكْبَريُّ في الكلام على الإعراب الذي يقال: هو على الجوار، وليس يمتنعُ أن يقعَ في القرآن لكثرته، فقد جاء في القرآن والشعر؛ فمن القرآن قولُهُ تعالى:{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قراءة مَنْ جَرَّ، وهو معطوفٌ على قوله:{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] والمعنى مختلفٌ؛ إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بحور عين.
قال الشَّاعر [من البسيط]:
لمْ يَبْقَ إلَّا أَسِيْرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ
…
أَوْ مُوْثَقٍ في حِبَالِ القَدِّ مَجْنُوبِ (1)
والقوافي مجرورة.
(1) البيت للنابغة الذبياني، كما في "ديوانه" (ص: 58)، وعنده:
لم يبق غيرُ طريد غيرِ منفلت
…
وموثقٍ في حبال القد مسلوبِ
والجوارُ مشهورٌ عندهم في الإعرابِ، وقلبِ الحروف بعضها إلى بعض، والتأنيثِ، وغيرِ ذلك؛ فمن الإعراب ما ذكرنا في العطف، ومن الصفات قولُهُ:{عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] واليومُ ليس بمحيط، وإنما المحيطُ العذابُ، وكذلك قوله:{فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] واليومُ ليس بعاصف، وإنما العاصفُ الريح.
[ومن](1) قلب الحروف قوله عليه السلام: "ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ"(2)، والأصل: موزورات، ولكنْ أريدَ التآخي، وكذلك قولهم: إنه ليأتينا بالغَدَايا والعَشَايا.
ومن التأنيث قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فحذف التاءَ من (عشر)، وهي مضافة إلى (الأمثال)، وهي مذكرة، ولكن لما جاورت الأمثالُ الضميرَ المؤنث، أُجْرِيَ عليها حكمُهُ، وكذلك قوله [من الكامل]:
لمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ
…
سُوْرُ المدِيْنَةِ والجبالُ الخُشَّعُ (3) وقولهم: ذهبت بعضُ أصابِعِهِ.
ومما راعت العربُ (4) فيه الجوارَ قولهُم: قامت هندٌ؛ فلم يجيزوا
(1) سقط من "ت".
(2)
رواه ابن ماجه (1578)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز، والبزار في "مسنده"(653). وإسناده ضعيف.
(3)
البيت لجرير، كما في "ديوانه بشرح الصاوي" (ص: 345).
(4)
في الأصل: "في العرب".
حذف التاء، إذا لم يُفصَلْ بينهما، فإن فصلوا بينهما أجازوا حذفَهَا، ولا فرقَ بينهما إلَّا المجاورةُ وعدمُ المجاورة، ومن ذلك قولهم: قام زيدٌ، وعمرًا كلمته، استحسنوا النصبَ بفعل محذوف لمجاورة الجملة اسمًا قد عَمِلَ فيه الفعل، ومن ذلك قلبُهُم الواوَ المجاورةَ للطرف همزةً في قولهم: أوائل، كما لو وقعت طرفًا، وكذلك إذا بَعُدَت عن الطرف، ولا تقلبُ نحوُ طواويس.
وهذا موضعٌ محتمل أن يُكتبَ فيه أوراقٌ من الشواهد، قد جعل النحويون له بابًا، ورتبوا عليه مسائلَ، وأصَّلوه بقولهم: جحرُ ضبٍّ خربٍ، حتَّى اختلفوا في جواز جرّ التثنية والجمع؛ فأجاز الإتباعَ فيهما جماعةٌ من حُذَّاقِهم قياسًا على المفرد المسموع، ولو كان [لا](1) وجهَ له في القياس بحال، لاقتصروا فيه على المسموعِ فقط (2).
قلت: أخذ أبو البقاء الأعمَّ، وهو الإتباعُ، وجلب فيه الشواهدَ، ولم يعرض الأخصَّ، الذي هو الخفض بالجوار.
وأجاب الفقيهُ أبو الفتح عما تقدَّم ذكرُهُ عن ابن المعلِّم: أنَّه إنما يُنكَرُ استعمالُ المجاورة في كتاب الله تعالى إذا لم يكنْ هناك ما يُبيِّنُ المقصودَ، فإذا وُجِدَ ذلك فليس بمنكر؛ كسائر أنواع المجاز، وقد وُجِدَ في الآية ما يبين المقصود، وهو ما تقدم ذكره، قال: فسقط هذا الاعتراضُ.
(1) زيادة من "ت".
(2)
انظر: "إعراب القرآن" لأبي البقاء العكبري (1/ 422 - 423).
قال: وقول من قال: إن استعمالها شيءٌ تختصُّ به الأعرابُ دون الفصحاء من أهل اللسان، [ظاهرُ الفساد؛ لإن امرَأَ القيس والنابغةَ من فصحاء أهل اللسان](1)، وقد نُقِلَ عنهما استعمالُ ذلك.
وقوله: وقد نصَّ على ذلك الفرَّاءُ، واليزيدي، وغيرهما، محمولٌ على أنَّهم نصُّوا على المنع من استعمالِهِ من غير دلالة تبينُ المقصودَ من الكلام، فإن الفراءَ وابنَ الأنباري وغيرَهما قد أجازوا استعمالَ ذلك في كتاب الله تعالى، وقد تقدم ذكرُ ذلك.
وذكر أبو الفتح عثمانُ ابنُ جِني في كتاب "المحتسب" في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]: قال أبو الحسن - يعني: الأخفش -: إنهم إنما تمنَّوا الردَّ، وضمنوا ألا يكذبوا، وهذا يوجبُ النصبَ؛ لأنه جوابُ التمني، ومنه قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالجر، قال: فهي معطوفةٌ في اللفظ على المسح، وفي المعنى معطوفة على الغسل، قال: ونحو هذا: جُحرُ ضبِّ خَرِبٍ (2).
قلت: قد ذكرنا أنَّ القرينةَ في البيان ضعيفةٌ، وأما الردّ بفصاحة امرئ القيس والنابغة، فصحيحٌ بعد تعيين الخفض
(1) زيادة من "ت".
(2)
انظر: "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها" لابن جني (1/ 252).
بالجوار فيما قالها (1).
الثاني من وجوه اعتراض الإمامية على الخفض بالجوار: قولُ الشريفِ الموسوي: كلُّ موضعٍ أُعرِبَ بالمجاورة مفقودٌ منه حرفُ العطف الذي تضمَّنته الآيةُ، وكان عليه اعتمادُنَا في تساوي حكم الأرجل والرؤوس، فلو كان ما أُورِدَ من حُكم المجاورة يسُوغُ القياسُ عليه، لكانت الآيةُ خارجةً عنها، لتضمنها من دليل العطف ما فقدناه من المواضعِ المُعْرَبةِ بالمجاورة، ولا شُبهةَ على أحد ممن يفهمُ العربيةَ في أن المجاورةَ لا حكمَ لها مع العطف.
أجاب الفقيه أبو الفتح بأن العربَ تعربُ بالمجاورة في العطف، كما تفعلُ ذلك في النعت، وبه جاء القرآن والشعر الفصيح.
وذكر من القرآن: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قراءة حمزة والكسائي في آخرين؛ بالجر فيهما.
وذكر من الشعر [من الوافر]:
وزَجَّجنَ الحَوَاجِبَ والعُيونَا (2)
وقول النابغة [من البسيط]:
في حِبَالِ القَدِّ مَجْنُوبِ (3)
(1) جاء فوقها في "ت": "كذا".
(2)
سيأتي ذكره قريبًا.
(3)
تقدم ذكره قريباً.
وقال: قال أبو عبد الله بن الأعرابي: اتَّبعَ الخفضَ لما دنا منه.
قلت: الأول: إنما هو على اعتبارِ المعنى الأعمِّ في الجوار، لا على اعتبارِ الأخصِّ في الخفض بالجوار.
والثاني: إنما يَحسنُ ذكرُهُ في الجواب عن هذا السؤال، إذا كانت الرواية: موثقٍ؛ بالجر، فإن صحَّت الروايةُ هكذا، وإلا فلا.
وقال الفاضلُ أبو منصور الماتُريديُّ: ولا شكَّ أنَّ إعطاءَ الإعرابِ بحكم الجوارِ والقربِ بابٌ من اللغة، إن كانَ محلُّهُ من الإعراب شيئاً آخر؛ لكونِهِ نعتاً لغيرِه، أو معطوفًا على غيره، وسوَّى بينهما إذا كان بينهما حائل، أو لا، وقال: أما بغير الحائل فكثير شائع، وذكر: جحرُ [ضبٍّ](1) خربٍ، وذكر مع الحائل الآيةَ الكريمة:{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، وقال: ومع ذلك خَفَضَ على طريق المتجاورين، وإن كان دخلَ الواوُ هاهنا حائلًا بين المتجاورين.
قال: وكذلك قولُ الفرزدق [من الطويل]:
وَهَلْ أَنْتَ إِنْ مَاتَتْ أتَانُكَ رَاْكِبٌ
…
إِلَى آلِ بَسْطَامِ بن قَيسٍ (2) فَخَاطِبِ (3)
ذكر (فخاطب) مخفوضًا بالمجاورة لبسطام، وإن كان بينهما
(1) سقط من "ت".
(2)
في الأصل: "آل ابن قيس بسطام"، وفي "ت":"آل قيس بن بسطام"، والصواب ما أثبت.
(3)
انظر: "الأغاني" للأصفهاني (10/ 310).
حائل، وهو حرف الفاء، وهو في محلِّ الرفع معطوفًا على قوله: راكب.
الثالث من الاعتراض على الخفض بالجوار: قال الشريفُ: الإعرابُ بالجوار إنما يُستحسنُ بحيث ترتفعُ الشُّبهةُ في المعنى، ألا ترى أنَّ الشُّبهةَ زائلة في كون (خربٍ) من صفات الضب، والمعرفةُ حاصلة بأنَّهُ من صفات الجحر، وكذلك قوله: مُزَمَّلِ، معلومٌ أنه من صفات الكبير، لا البجاد، وليس هكذا الآية الكريمة؛ لأن الأرجلَ يصحُّ أن يكونَ فرضُهُما المسحَ، كما يصحُّ أن يكونَ الغسلَ، والشكُّ في ذلك واقعٌ غيرُ ممتنع، فلا يجوزُ إعمالُ المجاورة فيها؛ لحصول اللَّبسِ والشُّبهة، ولخروجه عن باب ما عُهِدَ استعمالُ القوم المجازَ فيه.
أجاب الفقيه أبو الفتح بأنَّ في الآية غيرَ وجهٍ من البيان يزيلُ اللَّبسَ والشُّبهة، في أن يكون جرُّ الأرجل للمجاورة مع أن الفرضَ الغسلُ، وللبيان مراتبُ في الجَلَاء والخَفَاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْراً"(1)؛ فمن ذلك: أنه لما أمر بغسل الأيدي مع بُعدها من الوسخ، كانت الأرجلُ مع قربها أولى بذلك، روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا أقدامَكُم؛ فإنها أقربُ أجسادِكُم إلى الأقذار، وذكرَ عن محمد بن يوسف الفِرْيابي الإسنادَ إلى علي رضي الله عنه ووصلَ إسنادَهُ
(1) رواه البخاري (4851)، كتاب: النكاح، باب: الخطبة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
إلى محمد بن يوسف؛ فروى عن أبي بكر علي بن محمد بن السُّمَيدَع، [ثنا] أبو العباس محمد بن محمد الأَثْرم، ثنا العباس بن عبد الله الباكساني أبو محمد، ثنا محمد بن يوسف، ثنا مُعلَّى بن هلال الأحمري؛ يعني: عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال:"اغسلوا أقدامكم؛ فإنها أقربُ أجسادِكُم إلى الأقذار".
قال: ومثلُ ذلك من كتاب الله تعالى قوله جلَّ ذكرُهُ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] مع قوله - تعالت كلمته - في آخر السورة في فرض الأخوات: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، ففرضَ لما فوق الاثنتين من البنات الثلثين، والأختين مثل ذلك، وقد عُلِمَ أنَّ البناتِ أقوى من الأخوات، وكأنَّ في ذلك التنبيهَ على أنَّ البنتين لا تنقصان عن الثلثين، في نظائرَ كثيرة لذلك في الكتاب والسنة.
قال: ومن ذلك - يعني: من الدلائل على البيان المزيل للَّبسِ في الآية -: أنه تعالى حدَّ الأرجلَ كما حَدَّ الأيدي؛ فقال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقال:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فكانَ تنبيها على الأرجل أنها مغسولةٌ كالأيدي.
قلت: هذان الوجهان [قريبان](1) ليسا بالقويَّين، وقد اعتُرِضَ على هذا الثاني بما معناه: أنه لا يمتنعُ أن يُعطَفَ المحدودُ على غيرِ
(1) سقط من "ت".
المحدود؛ كما جاز عطفُ (الأرجل) على (الرؤوس)، وإن لم تكن (الرؤوسُ) محدودةً.
وقال ابن النعمان: أو ليسَ قد عطف باليدين، والطهارةُ فيهما محدودةٌ على الوجوه، ولم يحدَّ الطهارةَ فيهما بشيء تتميز به غايةُ الغسل ونهايتُهُ، فما أنكرتَ أن يُعطفَ بالرجلين، وإن حُدَّت الطهارةُ فيهما على الرؤوس، وءان لم تكن الطهارةُ فيها محدودةً إلى غاية منها؟
أجاب الفقيهُ أبو الفتح بأنَّ كلَّ ذلك غيرُ لازم، وهذا؛ لأنَّ الأرجل إذا ساوتِ الأيدي في التحديد بينهما في وجوب الغسل، ولم يَقْدَح في ذلك كونُ الوجوه مغسولةً مع عدم التحديد فيها؛ لأن ذلك عكسٌ، والدلالةُ لا تُعكَسُ، وهذا كما تقول: إنَّ المرتدَّةَ لما شاركت المرتدَّ في الارتداد عن الإسلام إلى الكفر، شاركَتْهُ في استحقاق القتل، ولم يقدحْ ذلك في أن القاتلَ عمداً، أو الزانيَ المحصن، مقتولان، مع عدم ارتدادهما.
ثم يقال: إنما لم تحدَّدِ الوجوهُ مع كونها مغسولةً لوجوبِ التعميم فيها، والأيدي والأرجل متساويتان في أن التعميمَ فيهما غيرُ واجب، وذلك أنَّ اليدَ من أطراف الأصابع إلى الكتف، والرجل من أصل الفخذ إلى القدم، والواجبُ غسلُ اليدين [إلى](1) المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، وكذلك فارقت الوجوهُ إياهما في التحديد،
(1) سقط من "ت".
مع الباء التي تفيدُ التبعيضَ من غير اختصاص المسح بمكانٍ من الرأس مخصوصٍ، فثبت أنَّ البيانَ بالتحديد حاصلٌ، واللَّبسَ به في ذلك زائلٌ.
قلت: قد ذكرت أنَّ القرينةَ ضعيفةٌ، والاعتراضُ الذي اعترض به ركيكٌ، والذين قالوا بوجوب التعميم في مسح الرأس، جوابُهُمْ في ذلك هو ما أُجيبَ به في الوجه.
وهؤلاء المتأخرون من النُّحاة في بعض الأقطار، يتأولون ما ظاهرُهُ الدلالةُ على خلاف ما يقولون بالتأويلات البعيدة المتعسَّفَةِ، ويكتفون في الردِّ على مَنْ يستشهدُ بالشواهد على خلاف مذهبهم بأنه غيرُ مُتعيّنٍ لما قاله خصومُهُم، ولا يعتبرون الظهورَ وردَّ التأويلاتِ المستَبعدة، ولم يسلكوا طريقةَ أهل النظر من غيرهم في تقديم الظاهر وردِّ التأويلات المستبعدة، وقد سُلِكَ هذا المسلكُ في هذه الشواهد التي استُشْهِدَ بها، وأُخرِجَت عن التأويل عما يقولُ خصومُهُم من الخفض بالمجاورة.
فأما قراءةُ: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، فقال الشريف: وللجرِّ وجهٌ، وذكر العطفَ على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} على حذف مضاف؛ أي: وفي عطف {وَحُورٌ عِينٌ} على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} مقارنة، أو معاشرة {وَحُورٌ عِينٌ} ، وحُذِفَ المضافُ، قال: وهذا وجهٌ حسنٌ؛ ذكره أبو علي الفارسي في كتابه المعروف بـ "الحجة"، واقتصرَ عليه (1)، ولو
(1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي (6/ 255).
كان للجر بالمجاورة وجهٌ لذكره، ولما جاز أن يخلَّ به؛ فإنهُ ممن لا يُتَّهَمُ بخفاء وجهِ الإعراب؛ ضعيفًا كان أو قويًا.
ثم قال بعد ذلك: فإن قيل: لم لا تحملُهُ على الجار في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] بكذا؟ ويجوزُ؟ وأجابَ بأن هذا يمكنُ أن يقال، إلا أنَّ [أبا] (1) الحسن قال: في هذا بعضُ الوحشة.
وأجاب أبو الفتح في أثناء كلامه بأن قُصارى أمرِهِ أن يكونَ وجهًا ثانياً في الجرّ، وقد كفى خصمَهُ أن يكونَ الذي قاله قد ذكره إمامٌ من أئمة هذا الشأن.
ثم قال: أليسَ من الحَيْفِ أن يقولَ أبو عبد الله: لو ساغتِ القراءةُ بالنصب في الرجلين، لكانت على مجازِ اللغة دونَ حقيقتها؟ وذلك لأنَّ الأصلَ في اللغة أن يكونَ حكمُ المعطوف به حكمَ المعطوف عليه، وأن يُقضَى بالمعطوف به على أنه معطوفٌ على أقرب المذكور منه، ولا يُعدَّى إلى ما بَعُدَ منه، ويقول الشريف: إنَّ الكلامَ إذا حصل فيه عاملان؛ أحدُهما قريبٌ، والآخرُ بعيدٌ، فإعمالُ الأقربِ أولى من إعمال الأبعد، ويحكي فيه نصَّ أهل العربية عليه، ومجيءَ القرآنِ وأكثرِ الشعر به، ثم يختار عطفَ قوله:{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قوله: {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} مع البعد، ويُنكِرُ أن يُعطفَ على قوله:{بِأَكْوَابٍ} [الواقعة: 18] مع القرب، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
(1) زيادة من "ت".
تَصِفُونَ} [يوسف: 18]!.
قلت: ليس في لفظ الشريف ما يدل على اختياره ذلك، بل على تجويزه.
قال الفقيه أبو الفتح: وفي قوله: (ولو كان للجرِّ بالمجاورة وجهٌ لذكره، ولم يجزْ أن يخلَّ به؛ فإنه لا يتهمُ بخفاء وجهٍ في الإعراب عليه؛ ضعيفًا كان أو قويًّا)، أوجهٌ من التحامل؛ منها [إنكارُ](1) ما ذكره أبو زكريا الفراءُ أن يكون وجها جائزًا.
ومنها إلزامُ أبي علي ذكرَ جميع ما عرفه، وهو لم يذكرْ شيئاً في [هذه]، (2) المسألة، بل لو لم يصنف (3) كتاب "الحجة، لكانَ جائزاً له.
ومنها الدعوى له بما يعلمُ أنه لم يكنْ يدَّعيه لنفسه.
وعلى أنه إن تركه أبو علي، فقد ذكره أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وكفى ذلك.
قال أبو بكر في "الوقف والابتداء": وكان أبو حفص، والأعمش، وحمزة، والكسائي يقرؤون:{وَحُورٌ عِينٌ (22)} [الواقعة: 22]، بالخفض، فعلى هذا المذهبِ لا يَحسنُ الوقفُ على {يَشْتَهُونَ} لأن الحورَ العين منسوقاتٌ على الاكواب، وإن شئتَ جعلتهن نسقاً على قوله:{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12] وفي {وَحُورٌ عِينٌ} .
(1) سقط من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
في الأصل: "يصرف"، والتصويب من "ت".
وقال السجستاني: لا يجوزُ أن تكونَ (الحورُ) منسوقاتٍ على الأكواب؛ لأنه لا يجوز أن يطوفَ الولدان بالحور العين.
قال أبو بكر: وهذا خطأٌ منه؛ لأنَّ العربَ تتبعُ اللفظةَ اللفظة (1)، وإن كانت غيرَ موافقةٍ لها في المعنى، من ذلك قراءتُهم في سورة المائدة:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 16] فخفضوا الأرجل على النسق على الرؤوس، وهي تخالفها في المعنى؛ لأن الرؤوسَ تُمسح، والأرجل تُغسل، وقال الحُطيئة [من الوافر]:
إِذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا
…
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيُونَا (2)
فنسقَ العيونَ على الحواجبِ (3)، والعيونُ لا تزجَّج، وإنما تُكحَّل، وهذا كثيرٌ في كلامهم.
وقال الفراءُ: يلزمُ مَنْ رفعَ الحور العين؛ لأنه لا يُطافُ بهن، أن تُرفعَ الفاكهةُ واللحم؛ لأنهما لا يُطافُ بهما، إنما يُطافُ بالخمر وحدَها، وقال الفراء: الخفضُ [وجهُ](4) القراءة، وبه كان يقرأُ
(1) في الأصل: "اللفظ"، والمثبت من "ت".
(2)
انظر البيت في: "الخصائص" لابن جني (2/ 234)، و"المحكم" لابن سيده (7/ 182)، و"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 267)، و "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 244).
(3)
"ت": "فنسق الحواجب على العيون".
(4)
سقط من "ت".