الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يختص بالمسلمين إذا لم يتصرَّف في جرمِه، فإن المنقول عن بعض أكابر الامتناع منه، والتعليل بأنه هل ينتفع منه إلَّا بريحه، وقد قيل: بأنه لا بأس بذلك، بل زاد بعضهم وقال: إنه في كونه ورعًا نظرٌ من جهة أن شمَّه لا يؤثر نقصًا ولا عيبًا، فيكون إدراك الشمّ له بمثابة النظر إليه بخلاف وضع اليد عليه، ولو نظر إنسان إلى بساتين النَّاس، وغرفهم، ودورهم، لم يمنع من ذلك إلَّا إذا خُشِيَ الافتنانُ بالنظر إلى أموال الأغنياء، وكذلك لو مسَّ جدارَ إنسان لم يُمنع من مسِّه، ولو استند إلى جدار إنسان لجاز، كما لو جلس مُتطيِّبًا أو جالسَهُ متطيّبٌ، فإن ذلك مأذون بحكم العُرف، ولو منعه من الاستناد إلى جداره، فقد اختلفوا فيه إذا كان الاستناد لا يؤثِّر في الجدار البتة، ولا ينبغي أن يَطَّرِدَ ذلك في شمِّ ريح المطيَّب.
قلت: أما النظر في كونه ورعًا فيما فعله ذلك الكبير، واستبعاد كونه ورعًا، فَيَبعُدُ عندي، وليس كما استبعَدَ كونهَ ورعًا من أكل طعام حلالٍ محضٍ حمله ظالم، ولا سيما الطعام الذي نَدَب الشرعُ إليه كطعام الولائم، فإن ذلك أقربُ إلى الاستبعاد من حديث الطيب.
الثَّانية والثلاثون بعد المئة:
خروج الخطايا من أعضاء المحدِث جعل سببًا لعدم طهورية الماء المستعمل، ثم قال بعضهم: بالتنجيس، وقال بعضهم: بعدم الطهورية، وربما تجاوز الحنفية وأطلقوا على أعضاء المحدث النجاسة نجاسة حكمية، وربما أُخِذَ ذلك من كون الماء طهورًا، فإنَّه يقتضي وجود ما يطهرّه كما في النجاسة الحسيّة.
وأصحاب الشَّافعيّ يذكرون في تعليل عدم الطهورية تأدِّيَ الفرض أو تأدِّيَ العبادة [أو انتفاء المانع، فأما تأدِّي العبادة](1) فذُكِرَ في مناسبته: أن الآلة المستعملة في المقصود الحسِّيِّ يورثها ضعفًا وكَلالًا، وكذلك الآلة المستعملة في المقصود الشرعي، وأما تأدِّي الفرض فإن المراد منه رفع الحدث، أو رفع منعه من الصلاة، حيث لا يُكتَفى به، كما هو [في](2) أوضوء، صاحب الضرورة، وذلك يقتضي تأثر (3) الماء، ألا ترى أن غسالة النجاسة لما أثَّرت في المحلّ حتَّى لم يبقَ المحلُّ كما كان قبل الغسل، تاثَّرت هي بالاستعمال، حتَّى لم تبقَ كما كانت قبل الغسل (4)، ثم أُبيحَ له بعد ذلك ما مُنِعَ منه، وانتقل المانع الذي كان في الأعضاء إلى الماء، وربما قيل: بأن المانع الحكمي تتَّصف به الأعضاء تقديرًا كالأوصاف الحسِّيَّة (5).
وليس يخفى أن العقل حاكم بأنه لا شيءَ يحلُّ الأعضاء، ولو كان بها، يصِحَّ انتقالُه إلى الماء، بل لو صَحَّ أن الماء المستعمل غيرُ طهور، أو نجسٌ، لم يلزم منه أن يكون الانتقال (6) المذكور، وإنما الثابت المحقَّق: أن الشارع حَكَم بالمنع من الصلاة ممدودًا إلى غاية
(1) زيادة من "ت".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
"ت": "تأثير".
(4)
انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 107 - 108).
(5)
في الأصل: "لأوصاف الحشفة"، والتصويب من "ت".
(6)
"ت": "للانتقال".
غسل الأعضاء، ولا يلزم من ذلك قيام مانع، ولا انتقال إلَّا على سبيل التقدير، الذي هو خلاف الواقع، والأحكام التقديرية على خلاف الأصل لا بدَّ فيها من دليل شرعي يدلُ عليها، سيما إذا خالفت المعلوم، بل لو ورد النصُّ بالانتقال، لوجب تأويله، وحمله على المجاز، أو على تنزيل الحكم منزلة المنتقل إطلاقًا مجازيًا، وما ذكر من ملاءمة التعليل بأداء العبادة للحكم؛ من أن الآلة المستعملة في المقصود الحسين يورِّثها ضعفا وكَلالًا، فكذلك الآلة المستعملة في المقصود الشرعي، فلا يخفى ضعفه، فعيبه قراره.
واعلم! أن هذه العلل المذكورة - أعني: تأذي العبادة أو الفرض، أو انتقال المانع - تارة تُؤخَذ دليلًا على عدم طهورية الماء المستعمل، وتارة تُؤخَذ تعليلًا للحكم بعد إقامة دليل عليه، والثاني أهونُ من الأول، لكن إذا حمل عليه، يحتاج إلى دليل شرعي خارج عن هذه العلل، يدلُّ به على الحكم، ثم يعلَّل بعد ثبوت الحكم بما ذكر، ثم هو بَعْدَ ذا ضعيف، رُتْبتُه في المناسبة ضعيفة جدًا، لكنه أقرب من أن يجعلَه سببًا لإثبات الحكم، وفي إقامة ذلك الدليل على عدم الطهورية عسرٌ، وأقوى ما قيل فيه: ترك الأولين جمعه، لاستعماله في الطهارة حيث يعدم الماء، مع شدة محافظتهم على العبادات، واحتياطهم لها، وقد اعترضت عليه بما (1) كتبته من شرح
(1)"ت": "مما".
"مختصر"(1) الشيخ العلامة أبي عمرو بن الحاجب.
وطريق الاعتراض أن يقال: إما أن يُدَّعى اتفاق الأولين على ترك الجمع، أو لا.
فإن كان الثاني: فلا حجَّة في فعل البعض، أو قوله في محلِّ الخلاف.
وإن كان الأول - وهو اتفاقهم على عدم الجمع للطهارة -: بطلب الملازمة بين عدم جمعهم، واعتقادهم عدمَ الطهورية؛ لأنه لو ثبتًا معًا - أعني: عدم الجمع من الكل، وملازمة اعتقاد عدم طهوريته لعدم الجمع - لزم اتفاقهم على عدمِ طهوريتهِ جزمًا، وهذا اللازمُ منتفٍ لوقوع الخلاف بين السَّلف في المسألة؛ كما ذكره ابن المنذر (2)، وغيره.
فالحاصل: أن اللازم أحدُ الأمرين؛ إما عدم اتفاقهم على عدم الجمع، وإما عدم ملزومية عدم الجمع لاعتقاد عدم الطهورية، وأيًّا ما كان يبطل؛ فهذه المباحثة ينبغي أن تتأملها، وتنظر فيما يقابلها، مما هو أقوى منها، فإن لم يظهر ذلك؛ فالعمومات تدلُّ على الطهورية، وإطلاق اسم الماء موجود في المستعمل، فَزِنِ الظنون، وقدِّمِ الأرجح؛ فهو الواجب في النظر.
وقد ورد عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الماء المستعمل حديثان:
(1) زيادة: من هامش "ت".
(2)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 285).