الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامنة والتسعون:
الانتثار يقتضي فعلاً وتعمُّلاً زائداً على مجرَّد خروج الماء من الأنف، فلا تحصل السنَّة إلا بزائد.
التاسعة والتسعون:
خروج الخطايا من الوجه ذُكِرَ مرتين:
إحداهما: عند ذكر المضمضة والاستنشاق والانتثار، حين قيل:"خَرَّتْ خَطَايا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِه".
وذُكِرَ أيضاً: عند غسل الوجه حين قال صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ عز وجل إلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطَرَافِ لِحْيتهِ مَعَ المَاءِ" فينُظَر في ذلك.
والذي أَذهبُ إليه فيما يرجع إلى نفسي، لا فيما يرجع إلى المناظرة: أن المواضع التي يقع الاختلاف فيها بين الرواة، وتحتاج في الجمع بينها إلى التأويلات المستكرهة، أو في تخريج بعضها إلى الوجوه الضعيفة، بحيث لا تطمئن النفس إلى التأويل والتخريج، أن أذهب إلى الترجيح، وأبنيَ عليه، وأقدِّمَه على طريقة الجمع والتخريج؛ لأن اختلاف الرواة فيما يرجع إلى الدلالة على المعاني كَثُرَ كَثْرَةً لا يمكن إحصاؤها، فيكون النظرُ الحاصلُ من أن سببَ ذلك الاستكراهُ، والضعفُ من اختلاف الرواة أغلبُ من الظن الحاصل من أَنَّ المراد من لفظ الشارع أو أكابر الصحابة والعلماء ما يستكره ولا تطمئنُّ النفس إليه.
إذا ثبت هذا، فهذه اللفظة المذكورة عند المضمضة والاستنشاق والانتثار، أعني "وَجْهَه" مختلفٌ فيها، ففي "صحيح مسلم" ما ذكرناه،
وفي "صحيح أبي عوانة": "ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ وينْتَثِرُ إلَّا خَرَّتَ خَطَايا فِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايا وَجْهِهِ مِنْ أَطَرافِ لِحْيتهِ مَعَ الماءِ"[أخرجها من رواية أبي الوليد، عن عكرمة بن عمار "إِلَّا خَرَّتْ خَطَايا فِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ"، لم يذكر (وَجْهَه) إلا عند غسل الوجه، فقال: "ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايا وَجْهِهِ مِنْ أَطَرافِ لِحْيتهِ مَعَ الماءِ"، (1) أخرج ذلك الحافظ أبو نعيم في "المستخرج على كتاب مسلم" فهاتان (2) روايتان، عن عكرمة (3)، والمقرئ من رجال الصحيح، ومشاهير الرواة، وأبو الوليد من أكابر الرواة وحفَّاظ الحديث، لم يذكرا هذه اللفظة عند المضمضة والاستنشاق، وخالفهما النظر عنه، فإن توجَّه عندك ما تطمئنُّ النفس إليه من التأويل و (4) التخريج، وإلا فارجع إلى هذا، ويمكن أن يقال في التخريج: [إن](5)"ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ" معطوف على الفعل الأول، الذي هو "يُقَرِّبُ" لا على "يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ" فيكون التقدير: ما منكم من أحد يقرِّب، فيُمَضْمِضُ، ما منكم من أحد يقرِّب ثم يغسل وَجْهَهُ، فيكون لخروج خطايا الوجه طريقان:
(1) زيادة من "ت".
(2)
في الأصل: "فهذان"، والمثبت من "ت".
(3)
وقد تقدم تخريجهما.
(4)
"ت": "أو".
(5)
زيادة من "ت".
أحدهما: أن يقرِّب، ويُمَضْمِضُ وَيستنْشِقُ وَينتَثر، فعلى هذا: لم يبق في الوجه خطايا، فلا يكون غسله مُخْرِجاً لخطاياه.
والطريق الثاني: أن يقرِّب وَضوءه، ثم يغسل وجهَه، ويترك المضمضةَ والاستنشاقَ، فحينئذ تخرجُ خطايا الوجه بغسله.
ونظيرُ العطفِ على الفعل الأول، ما قيل في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ} [آل عمران: 14]، إنه لا يعطف الخيل على الذهب والفضة، بل على القناطير، أو غيرها مما مضى، وكما قيل في قوله تعالى:{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ} [الإسراء: 91 - 92] إن تسقط لا يجوز أن يكون معطوفًا على تفجر التي (1) تليه هو، بل على الفعل السابق، وهو أو تكون.
فإن قلت: الفرق بين البابين واضحٌ، لأن الضرورةَ دعت إلى العطف على الأول في الآيتين الكريمتين؛ لأنه تعذَّر العطف على الأقرب، لأن الخيلَ ليس من القناطير المقنطرة، والإسقاط ليس من الجنة من نخيل وعنب، بخلاف ما نحن فيه.
قلت: أمَّا أن يمكنَك تخريجُ الحديث المذكور على الوجه الثاني، وهو العطف على المضمضمة أولى، فإن أمكن فالسؤال ساقط، وإن لم يمكن فقد تعذَّر الحمل على الثاني، فيحمل على
(1)"ت": "الذي".
الأول، كالمواضع التي ذكرناها، ووجه آخر في التخريج، وهو أن يقال: هذا من قبيل الأسباب والمسببات التي لا يؤثر فيها السبب إلا على إمكان تأثيره، فإن لم يمكن، صَرَفْنا إلى وجه آخر، وإن أمكن أَعمَلْناه، والتعذر في بعض الأماكن التي لا يمكن الإعمال فيها، لا يوجب نفي السببيَّة حيث يمكن.
وهذا كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام: "الصلَوَاتُ الخمْسُ، والجمُعَةُ إلى الجمُعَةِ، ورَمضَانُ إلى رَمضَانَ؛ مُكَفرات لما بَيْنَهُنَّ، ما اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ"(1)، حيث أورد عليه أنه إذا فعلت الصلوات الخمس فكفرت، فما يبقى لصلاة الجمعة؛ وإذا فعلا معاً - أعني: الصلوات الخمسَ والجمعةَ - فما يبقى لرمضان؟ فقيل في الجواب: إنها أسباب للتكفير إن وَجَدَت ما يُكَفَّر.
فكذلك نقول هاهنا: فعل المضمضة والاستنشاق والانتثار سبب لخروج خطايا الوجه، وكذلك غسل الوجه، فإن وُجِدَ السببُ الأول، وحدَثَت خطايا بعده، كان الغسل مكَفراً لها، وإن لم توجد خطايا بعدَه، لم يقع مسببِّها لعدم الخطا [يا](2) في المحل، ولا يزيل ذلك السببية، بمعنى الصلاحية للتكفير.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
زيادة من "ت".