الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستحسان ومراعاة الخلاف، والمسامحة في ترك بعض ما وقع وتَمَّ، وهذا الآخر ضعيفٌ، وقد تشتبه هذه المسامحةُ بعدم نقض حكم القاضي بعد وقوعه، وهو تشبيه ضعيف أيضًا.
الثانية:
أما من قال بوجوب الاستيعاب وعدم الاكتفاء بما دونه؛ فهو ظاهر الكتاب العزيز، واستدل على ذلك بوجوه:
أحدها: أن الحكم المعلَّق باسمٍ يقتضي تعليقَه بجملته؛ كأكلْتُ الرغيف، وغسلتُ اليد، وكأن هذا الذي اعتمده مالك رحمه الله، فإنه روي: أنه سئل عمَّن مسح مقدَّم رأسه هل يُجزِئه؟ فقال: لا، أرأيت لو غسل بعض وجهه؟! (1)
وثانيها: صحة الاستثناء بأن يقال: امسح برأسك، أو امسح رأسك إلا بعضه، والاستثناء يُخرِج من الكلام ما لولاه لدخل.
وثالثها: التأكيد بما يدل على الجملة؛ كامسحْ برأسك كلِّه أو بجملته (2).
والذي يُعتَرَضُ به على هذا ما ادُّعي من كون (3) الباء للتبعيض، وقد أنكره ابن جِنِّي وقال: كون الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أهل اللغة.
وربما اسْتُدِل ببعض ما ذكرناه على أن الباء ليست للتبعيض، للتأكيد بـ "كل"، للزوم التناقض على هذا التقدير.
(1) رواه ابن جرير في "تفسيره"(6/ 125) من طريق أشهب، عن مالك.
(2)
انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 259).
(3)
"ت": "أن" بدل "من كون".
وأما القائلون بإجزاء الناصية، فمُعتَمَدُهم هذا الحديث، وهو ظاهر فيه، وَيعتَذِر من أوجب الجميع عن الاستدلال به، بحَمْلِهِ على الضرورة الداعية إليه.
والقضية قضية حال لا عموم فيها، ولا تقع إلا على وجه واحد، قال بعضُهم: فيجوز أن يكون عن تحديد أو عذر، وإذا احتمل ذلك لم يكفِ في الاحتجاج مجرَّدُ الفعل دون نقل الوجه الذي عليه وقع، وربما يقال: لو كان هناك عذر لنقل.
فأجاب بعض الأولين عنه بأمرين:
أحدهما: أنه لا يلزم الراوي نقلُ كلِّ أمر يعلمه بما يتعلق (1) بالفعل، كما لا يلزمه نقلُ صفات الآنية التي توضأ فيها، والمجلس الذي كان فيه، والوقت والصلاة التي توضأ لها وغير ذلك. وهذا ضعيف؛ لأن ما ذكره في عدده لا يتعلق به شيء من الحكم الذي يحتاج إليه في حقيقة الطهارة الرافعة للحدث، بخلاف هذا (2)؛ فإنه يتعلق به الاكتفاء بالبعض ظاهرًا.
قال من حكينا عنه: والثاني: أنَّ الراويَ قد لا يعلم العلَّة، فلا يلزمه نقلُ ما لا يعلمه، وعدمُ علمِه به لا يُخْرِجُه عن الاحتمال.
فيقول له الخصم: واحتماله أيضًا لا يُزِيلُ عدمَ الظهور، ولا الأصلَ، ولا شك أن الأصلَ عدمُ الضرورة.
(1)"ت": "بما لا يتعلق".
(2)
"ت": "بخلافٍ لهذا".
وأما من قال بإجزاء الثلثين، فإن كان من طريق سَحْبِ الحكم (1) في الأكثر على الأقل، فلا شك أنه مخالفٌ للقياس، وظاهرِ النص، لا سيما إذا سُلِّم أن الأصلَ هو وجوبُ الكل، فلا يبقى لهذا القول إلا التمسكُ بالاستحسان، أو بقاعدة مضطربة، فإنه لا يقوم الأكثرُ مقامَ الأقل في كل مكان، ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى، فإن ادَّعى أن هذا من قبيل ما يُكْتَفَى به بالأكثر، فعليه البيان، فالمذهب ضعيف.
وكذلك من قال: يُكتفى بالثلث، والذي سمع في تعليله: أنه كثير بالحديث الذي فيه "والثلث كثير"(2) وهذا أولًا: يخرجه سياقُ الحديث عن العموم في هذا المحل، والعمومُ يتخصَّص بالقرائن، وأقواها السياقُ، ثم يَضْعُف بكثرة التخصيصات في كثرةِ الثلث، وبناءُ الحكم على ذلك بما لا يُحصَى من الصور، ثم يضعف ثالثًا بأنه يحتاج إلى مقدمتين:
إحداهما: أنَّ الثلث كثير.
والثانية: أنَّ الكثير يُكْتَفَى به في مسح الرأس، فينتج أن الثلث يُكْتَفَى به في مسح الرأس، والثانيةُ ممنوعةٌ لا دليلَ عليها، فيطالب بإثباتها، فإنه لا نصَّ يدلُّ عليها، ولا لفظَ يرشد إليها، فالمذهب واهٍ، لا سيما وقد اضطرب مذهب مالك وأصحابه في آحاد الصور، ففي بعضها منع الثلث إلحاقًا له بالكثير، وفي بعضها لا.
(1) في الأصل: "يجب الحكم"، والمثبت من "ت".
(2)
تقدم تخريجه.
وأما من قال بالاكتفاء بأقلَّ ما ينطلق عليه المسح، فالمذكور في تقديره وجهان:
أحدهما: ما يتعلق بالباء، وكونِها للتبعيض وهو شيء غير معروف عند المتقدِّمين من أهل العربية واللغة، وقد حكينا حكاية قول ابن جني، وعن أبي بكر عبد العزيز الفقيه أنه قال: سألت ابن دُرَيدٍ وابنَ عرفةَ وابن دَرَسْتويه عن "الباء" هل تبعَّض؟ فقالوا: لا نعرف ذلك في اللغة.
قال الحافظ الفقيه أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله فيما نسب إليه، فنقول: هو لا عاضَد، نكير ابن جِنيِّ على من ينحِّلها التبعيض، وموهنٌ قولَ من قال من أصحابنا في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] إن الباء للتبعيض فيه.
وقاله بعض رؤساء النحويين في عصرنا (1).
والثاني: أن الاسم ينطلق عليه، وانطلاقُ الاسم، وحصولُ المسمى المأمورِ به، يكفي في الخروج عن العهدة، وقد تورَّعوا في هذا، وادُّعي أن إطلاقَ المسح بالرأس لا يُفْهَم منه إلا المسحُ لجميعِهِ دون الاقتصار على بعضه.
ولقائل أن يقول في تقدير هذا: مُجرَّدُ حصولِ المسمى، واللفظ الدال على المطلق يكفي في الاكتفاء والإجزاء، إلا إذا كان الحكم معلقًا بالمسمى، أما إذا كان معلَّقًا بمقيَّد، فإنه يحصل فيه المسمى
(1) جاء على هامش "ت": "بياض نحو أربعة أسطر من الأصل".
واللفظ الدال على المطلق، أعني: بفعله؛ لأنَّ المطلق في ضمن المقيد، ولا يُكْتَفَى في حصول الإجزاء به؛ لأنه يبطل ما تعلق به الأمر من القيد.
بيانه: أنه إذا تعلق الأمر والخبر بمقيد، فإنه بفعل ذلك المقيد يحصل المسمّى، ولا يحصل الامتثال به ولا المقصود من الإخبار، فإنَّه إذا قيل: أعتق رقبة مؤمنة، فإذا أعتقها صدق المطلق، وهو أنَّه أعتق رقبة، وصِدقُ هذا المطلق لا يكفي في حصول الامتثالِ، وكذلك إذا قيل: فلان سارق المئة، فالمسمّى حاصلٌ، وهو كونه سارقاً، ولا يحصل المقصود من الخبر بكونه سرق المئة.
إذا ثبت هذا، فيقال لمن قال: إن المسمَّى حاصلٌ فيحصل الاكتفاء به؛ إما أن يُدَّعى أن الحكم متعلقٌ بالمسمَّى حتى يلزم الاكتفاء بمجرد حصول المسمَّى من المسح، أو يدعي أنه معلق بمقيد، فيحصل الاكتفاء بالمسمَّى؛ فإن ادَّعيتَ الأول فهو ممنوع؛ لأن المأمور به المسح المضاف إلى الرأس، وإن ادَّعيتَ الثاني فلا يلزم حصولُ الاكتفاء والإجزاء بحصول المسمَّى، كما ذكرناه.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن تكون الباءُ ظرفية، ويبقى الأمرُ بالمسح مطلقاً، فيُكْتَفَى بحصول المسمَّى؟
قلنا: لو كان كذلك لكان المأمورُ بمسحه محذوفاً، والظرفية لِذلك المسح لا تقتضي تعلُّقَ المسح بالرأس، فلا يكون في الآية حينئذ دليل على الأمر بمسح الرأس؛ لأنَّ الظرفية لا تقتضي المباشرة
المطلوبة في المسح التي (1) يتوقَّف الإجْزاء عليها، كما إذا قلنا: زيد بالبصرة وأمثاله، وذلك باطل بالاتفاقِ، وخلاف ما أجمع الناس من دلالة الآية وتعلُّق الأمر فيها بمسح الرأس (2).
وأما من قال بتوقُّف (3) الإجزاء على ثلاث شعرات، فإنَّه عوَّل على صيغة الجمع في {رؤوسكم} ، ويخرج ذلك من قول من قال: لا يُجزِئ في حلق الرأس في الحج أقل من ثلاث شعرات لأجل الجمع، فإن كان معوَّلُه على صيغة الجمع في موضعين، فهو ضعيف جدًا، فإن الخطاب للجمع معلَّق بصيغة الجمع في الرأس، و [في](4) مثل هذا لا تُعتبر صيغة الجمع في المتعلق، كما لو قيل: ركب الناس دوابهم، ونظائره، وأقل ما في هذا أنه يجعل اسم الرؤوس انطلق على الشعور، وهو مجاز بعيد.
كمان أراد به [أن] يقيسَ هذا الحكمَ على ذلك بما يحكم بقياس شبهي، فإن أخذ الأصل مسلَّمًا، فقد يمكن ذلك، بشرط أن لا يكون معتمدًا لأصل صيغة الجمع المتعلقة بحلقِ الرأس، فإنَّه إن كان هو المعتمدُ في الأصل - وهو فاسد -، فهو قياس على فاسد، على أنه يكون في الأصل أقربَ من هذا النوع؛ لإشعار لفظ الحَلْقِ بالشعر
(1)"ت": "الذي".
(2)
جاء على هامش "ت": "بياض نحو سبعة أسطر من الأصل".
(3)
في الأصل: "بتوقيف"، والمثبت من "ت".
(4)
سقط من "ت".