الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 13
- بتاريخ: 15 - 11 - 1892
طريق الوصول إلى الرأي العام
يعلم الإسان إن أوقاته ثلاثة وقت عمل. ووقت نوم. ووقت فراغ منهما. ومقتضى النظر في الحصول على الرأي العام في المجتمع المدني متى يكون. أما وقت العمل فإن ذلك غير متيسر فيه لاشتغال كل إنسان بخدمته أو تجارته أو صناعته أو زراعته وتفرق المجموع حال العمل تفرق تشتيت والنظر في المصالح المدنية والواجبات الوطنية لا يكون إلا في الأندية والمجامع بتبادل الأفكار عقلاء الأمة سؤال وجواباً وسلباً وإيجاباً بما عند الأفراد من الأخبار الطارئة والحوادث العارضة والمسائل العملية والوسائل التجارية والبواعث الوطنية والحوافظ الملكية والخصائص الجنسية والفوائد اللغوية والمحسنات المدنية فإنه يستحيل على فرد ايستقل بهذه العلوم نظراً وبحثاً وتنفيذاً مهما ارتفعت درجته في المعارف واتسعت أفكاره بالتجارب بل لا بد له من أيد يكثر بها العمل والسنة تنتشر بها الفوائد وأصوات تُسمع القاصي
والداني ممن تجمعهم الوطنية أو تضمهم الجنسية او تعمهم السلطة الدولية. وهذا لا يكون إلا باجتماع العقلاء لتبادل الأفكار المنتج للرأي العام. ووقت النوم والناس فيه ثلاثة أقسام القسم الأول أهل الاجتماع في البيوت وهم الأمراء وأرباب الوجاهة والاعتبار الذي لا يتنازلون لمشاركة صغار امة وضعفائها في المباحث السياسية والمحسنات المدنية وهذا القسم وإن تعالى عن أفراد الأمة بما له من المكانة عند الوازع الأكبر وقيامه بوظائف عالية تضطره إلى راحة الفكر تارة واستعماله حيناً في واجبات الدولة وحقوق الأمة ولكنه الفاتح لأبواب المباحث للطبقة التي دونه بما يبديه من الأعمال والأقوال فهو بالنسبة إلى الأمة كالمؤلف الذي يعرض كلامه على أهل البحث والانتقاد وإن كانت أوامره محترمة بالنسبة لعلو مقامه ولكن احترامها لم يمنع العقلاء من النظر فيها وتبين فوائدها إن كانت مسلمَّة ومضارها إن كانت معترضة وأولى الناس بالبحث والتدقيق في هذا المقام محروو الجرائد ورجال المعارف. وهذا القسم في أوروبا أوسع رحاباً والي جانباً من أمثاله في الشرق فإن رجاله هناك كثيراً ما يدخلون المجامع العمومية ويقبلون الاعتراضات ويجارون الأمة في كثير من الأقوال والأفعال وهذا الذي وسع نطاق علم السياسة هناك واهَّل كثيراً للقيام بمهامها لقيام مبادلة الأفكار قيام مدرسة يتعلم فيها المرشحون لها والقائمون بأعمال الدولة ممن لابد لهم من مشاركة الأمراء في الرأي يوماً ما. والذي اخَّر هذا القسم في الشرق كون تنازل امرائه عن العظمة وشدَّة الاحتجاب عن
الأمة حديث العهد ويصعب على النفس ان
تترك مألوفها دفعة واحد. وما يمنعهم من مشاركة الأمة في الرأي إلا التهور في الكلام والاعتراض بغير تروٍ ولا تبصر في بعض م يشاركونهم في المفاوضة ورى هذا القسم في مصر قد تقدم تقدماً ألحقه برجال أوروبا فقد سهل حجاب الحضرة الخديوية الفخيمة وتنازلت لزيارة المدارس والمعابد والمعامل والمستشفيات وقبلت زيارة رجال حكومتها وأعيان رعيتها وجموع النزلاء والغرباء وتجول الجناب العالي في بلاده محافظاً على راحتها سائلاً عن حالتها مجتهداً في صيانتها من الأخطار أما الوزراء فقد تنازلوا حتى شاركوا الأفراد في المجامع الأدبية والمحافل العمومية ولهم ميل لقبول أفكار العقلاء ومشورة رجال الشورى. والأمة المصرية كذلك ظهر فيها من ذوي الفضل من أدخلتهم معارفهم وتجاربهم في ديوان المرشحين للمناصب العالية والوظائف المهمة فإذا تمجضت أقسامهم للنظر فيما ينظر فيه أهل الفضل كانوا أهلاً للقيام بكل أعمالهم على الطريقة التي لا تنكرها عليهم أوروبا لاتحادهم معها في السير وهم وأ وجد فيهم أهل الكفاءة الآن ولكن إذا تكثر هذا الفريق العامل أو المهياء للعمل كان الحصن الحصين بين يدي خديوينا المعظم والركن المتين لاعتماد أوروبا عليه. القسم الثاني أهل الاجتماع في المجامع الأدبية من النبهاء والعقلاء وهم الطبقة الثانية بالنسبة إلى الوزراء وهؤلاء إن كان اجتماعهم للنظر في مصالحهم الذاتية وطوارئهم البيتية فقد قطعوا من جسم المجتمع المدني عضواً عاملاً وعطلوا وظائفه التي كان يؤديها لو لم يتقيد بذاتياته. وإن كان اجتماعهم للخدمة الوطنية والقوة الدولية ومبادلة الأفكار فيما يقدم الأمة علماً وصناعة وزراعة وتجارة والبحث في الضروريات المدنية والقواعد الملية والمحافظة على شرائع الأمم وتعريف كل
طائفة المحافظة على الأصول الدينية والعوائد الوطنية والحقوق الملكية وتضيد القوة الحاكمة بالمساعدة الأدبية وسيكون الأفكار ولزوم الهدوء في الحركات والبعد عن الفتن وتهيج الأفكار وحفظ حقوق الاستيطان للغرباء والنزلاء كانت مجامعهم اندية فضل ومجلس علم تتعلق بنجاحها الآمال بل تحط ببابها الرحال. ومعلوم أنه يشترط في رجال هذي القسمين سلامتهم من كل ما يخدش الشرف أو ينزل بهم إلى مجامع الفوغاء ومجالس التهمة لكونهم أئمة الأمة يقتدى بهم في كل ما يصدر عنهم من القول والفعل فكلما ترفعت فوسهم عن سفاسف الأمور ومجالس اللهو واللغو كلما كانت الأمة اقرب إلى التقدم
وأميل إلى الآداب ومحاسن الصفات وقويت ثقة الأفراد بهم فلا ينتخب للشورى لا منهم ولا تدور دوائر الأعمال إلا بهم ولا تتجه أنظار الدول إلا إليهم ولا يعول في أخذ الرأي العام إلا عليهم ولا تتوفر شروط الكمال والاستعداد إلا فيهم. فإن نزل فريق منهم عن رتبة اعتباره وفارق مجامع أمثاله وشارك غوغاء الناس في مجالسهم المبتذلة وساواهم في تناول ما يفسد العقل من المسكرات والمخدرات في اماكن السفلة ومجامع الأنذال فقد هبط وسقط وترك مركزه من المجتمع المدني خالياً من عضو عامل فإن عاد إليه وهو على تلك الحال سرت فيه التهمة إلى بقية أعضاء المجتمع عند المراقبين الذين خصصوا أنفسهم لاستطلاع أخبار الأمم وما هم عليه فيصعب القول بوجود الرأي العام إذ ذاك لمزاحمة من لا يصلح للمفاوضة وتشويهه مجد العقلاء بعده من أفراد المجتمع المدني ـ القسم الثالث صغار الخدمة ومتوسطو التجار والعمال والصناع وهؤلاء كالعنوان للأمة التي هم منها فكلما كانت الآداب والعلوم فاشية فيهم
كلما كانت عصبية الأمة قوية الجانب عظيمة الشأن فإن هذه الطبقة مؤهلة لصعود مرقاة الطبقة الثانية ولا يمكنها مزاحمة العقلاء ومجاراة ذوي الأفكار إلا إذا تطهرت من دنس الأهواء وبعدت عن مجالس السوء ومجامع الفحش والسخرية واندية معدمات الشرف والذات والمال. وقد جرت عادة الناس إن يخرجوا إلى الأماكن المعدة للاجتماع العام عند فراغهم من الأعمال ترويحاً للنفس وتنشيطاً للفكر وقد تنوعت هذه الأماكن بحسب العادات والأذواق الاستحسانية فمنها مجامع الرياضة البدنية كالبيلياردو والنرد (الطاولة) والشطرنج وتكون هذه في مجامع الرياضة الفكرية حيث يجتمع الناس في القهاوي للأنس والسمر ومبادلة الأفكار وتطلع الأخبار ومنها مجامع الرياضة النظرية كالتياترات فإنها رياضة نظرية عائدة بالفوائد الكبيرة على البدن خصوصاً وعلى المجتمع الداني عموماً لما فيها من تمثيل الوقائع بصور المستلذات نظراً او سماعاً. وقد شذ عن المجامع الأدبية مجامع اللهو والفحش كالبير والخمارات والمراقص والمقامر والمواخير ولا ينزل من فضيلة الكمال التي يدركها في المجامع الأدبية إلى رذيلة النقائص في مجامع اللهو والفحش إلا من رضى لنفسه الانقطاع عن الهيئة المدنية والانتظام في سلك المتوحشين أو الراجعين إلى البهيمية بمنظر من أهل المدينة. ومن مجامع الرياضة مجالس السماع الخالية من الغوغاء وأم الخبائث فإن التغني بالشعر اللطيف الحاوي للمعاني الرقيقة
المنبه لأفكار العامة للسعي خلف الفضيلة والمزايا الجميلة مما يحرك الطباع للعمل ويبعث في النفوس رغبة فيما تضمنه الشعر من مقاصد الشعراء الجليلة. وحبذا لو كان لنا مغنى مصري خال من الخمور والمومسات
والغوغاء لا يدخله إلا أناس مشتركون فيه شهرياً أو سنوياً بتذاكر مخصوصة برآسة أشهر المغنين كالمجيد المتفنن أمير الأغاني عبده أفندي الحمولي وأصحابه الشيخ يوسف خفاجة ومحمد أفندي عثمان وأحمد أفندي الليثي وأمثالهم ويشترط أن يكون لهذا المغنى مجلس ينظر فيما يغنَّى به من الأشعار والأدوار بحيث يحجر على الأدوار السخيفة والضروب الخارجة عن حد الآداب فلا يرخص للمغني إلا بما في سماعه تنشيط وفي كلماته معان تعجب العقلاء ويرضاها الفضلاء كما يشترط أن يكون المغني المصري تحت إدارة مصريين لا يشاركهم في إدارته أجنبي ليكون وصفه بالمصري جارياً على حقيقته ومن هذا كله نعلم أن الرأي العام لا يؤخذ إلا من المجامع الأدبية كيف كانت هذه المجامع واستبدلتها بمجامع اللهو واللعب فعلى رأيها العام السلام. ونحن نرى أن القوة الفكرية امتدت في البلاد المصرية وتغذى بالمعارف والآداب كثير من المصريين وتعددت مجامعهم الأدبية في البيوت والمنتزهات وكثر تطلعهم للأخبار وقراءتهم للجرائد على اختلاف مصادرها ولغاتها وأبعد العقلاء منهم في النظر والتدقيق حتى بحثوا في خفايا سياسية أوروبا ومظاهر أعمالها في الشرق وهذا مما يحقق آمال الأوروبي في المصريين حيث يراهم أهلاً للقيام بالأعمال الفكرية والإدارية ويرى فيهم الجامعة الوطنية المنتجة للرأي العام. ولا نكر أننا وصلنا هذه الغاية الجليلة باحتكاك أفكارنا في أفكار الأوروباويين بما تنقله لنا الجرائد من أخبارهم وما سمعه من سعيهم خلف الآداب وباعث العمران ومن هنا يعلم أالمغرمين بالشراب ومجامع