الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 4
- بتاريخ: 13 - 9 - 1892
الجامعة الوطنية والاختلاط العمراني
لا تعمر البلدان إلا إن رأت
…
مجموع من في أرضها إنسانا
وقد كانت الأقطار الشرقية قبل الإسلام في تخاذل وتنافر بعارض ديني أو طمع ملكي يلجئُ الحاكم إلى ترك معتقده بالقوة والإلزام أو بالقهر والإذلال سعياً في توحيد كلمة المحكومين وسيرهم تحت قانون ملكي وحكم ديني يقضي على المجموع بالتضّام والتعاضد وربط القلوب بداعية لا يختلف فيها اثنان. وكان ذلك معدوداً من حزم الملوك وحسن تبصرهم بالعواقب. فلما جاء الإسلام قبل من الناس أحد أمرين الإسلام أو الانقياد لطاعة القائم بأمر الأمة فدخل في ذمة المسلمين ملايين من المسيحيين والموسويين والمجوس على اختلاف مذاهبهم وأجناسهم وشملهم القانون العادل وحكم بأنهم مثلنا في الحقوق الوطنية لهم ما لنا وعليهم ما علينا ثم استعان بهم الخلفاء والسلاطين على قطع العقبات السياسية
واستعملوهم في الأعمال الكتابية والحسابية والعلمية الحكمية وتوحدت الجامعة الوطنية بالقانون الشرعي الذي يعد ناقضه عاصياً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومع اتصال الحروب مع الدولة الإسلامية والدول المسيحية لم يجن أحد على مستوطن أو وطني ولو كان من الأمة المحاربة حفظاً للجامعة الوطنية التي قررت حرمتها النصوص الشرعية.
وقد توالت العصور والمسلمون هم رعاية للذمة وحفظاً للعهود ودفاعاً عن المستوطن لم يعاملوا من غايرهم ديناً معاملة البلغار للمسلمين ولا معاملة الروسيا لليهود ولا معاملة فرانسا للجزويت ولا معاملة ريجار أحد ملوك انكلترة لليهود ولا معاملة أسبانيا للمسلمين. فإننا نرى البيت ثلاث طبقات المسلم في واحدة والمسيحي في الثانية والموسوي في الثالثة يتزاورون ويتهادون ويجتمعون في الأفراح والمآثم ويتعاملون معاملة المستوين ديناً. لا يتعرض أحدهم لتقبيح دين الآخر ولا تزييفه ولا يتعرض المسلم لتغيير شيء من الإنجيل والتوراة كما تتعرض الطوائفالأخرى لكتابه. على أنه إلى الآن لم يدخل تحت سلطة الغير كما دخل كثير من المسيحيين تحت سلطة المسلمين ولم يتعرضوا لكتبهم بشيء ولا منعوهم عادة دينية ولا أقفلوا لهم كنيسة ولا هتكوا عرضاً ولا نهبوا مالاً ولا استحلوا دماً بل كانت الجامعة الوطنية حجاباً بينهم وبين كل ما من شأنه أن يثلم الشرف أو يضر بالذوات والأموال وقد تركت لهم حرية التعليم في كنائسهم ومعابدهم ومدارسهم من غير أن يكون عليهم رقيب أو يحجر عليهم تعليم فرع من فروع الدين فضلاً عن
أصوله. وإذا تعدى احد
الرعاع الجهلة على وطني أو مستأمن عوقب عقاباً شديداً بقدر جنايته. وبهذا العدل الشامل تمت الجامعة الوطنية في الأقطار الشرقية حتى كان المسيحي والموسوي يساعدان المسلم على قتاله مثيلهما حباً في الوطنية وحفظاً للجامعة المؤيدة بالنظام العام. وعندما لعبت أيدي الفتن بالشرق وتوزعت وحدته شذر مذر وتفرق ممالك وولايات كانت مصر مخصومة بجامعة وطنية لم يسمع بمثلها في الأقطار إذ كانت الأمة الإسلامية مع الطائفة القبطية كاهل بيت يتعاونون على المعاش ويتعاورون الأعمال ويتقاسمون النظر في شؤون البلاد ويتعاضدون على حفظ الوطن من طوارئ العدوان. فكنت تسمع بالثوار من المسلمين والنصارى في الشام والبلغار وهرسك ورومانيا وكريد وغيرها ولا تسمع يوماً بوقوع فتنة دموية بين المسلمين والأقباط لشدة الرابطة بينهم. حتى في الحروب الصليبية التي تحرك لها عالم أوروبا برمته وامتدت قرنين وكان لمصر فيها الشأن الأكبر واليد القوية ولم يسمع أن مسلماً تعدى على قبطي مع اشتغال نيران الحروب. ولقد امتد ذلك إلى الآن حتى في زمن الحركة الأخيرة التي كانت مظنة لحدوث فتنة بين المسلمين والأقباط فإنه لم يسمع بتعدي احد الفريقين على الآخر وعلى الخصوص في بلاد الصعيد التي يسكنها معظم الأقباط وهذا كله دليل على أن التسوية بين المحكومين تكون الجامعة الوطنية فإذا عدل فريق من أفرقاء الجامعة الوطنية عن توحيد الكلمة وأخذ جانباً عن إخوانه الوطنيين وتبعه فريق آخر ففريق غيره تجرأت
الجامعة وتبدد الشمل المجتمع ولعبت الأهواء بالأفكار وتحولت المحبة إلى العداوة وانقلب الائتلاف نفوراً وتداخل الغير بين ذوي الأهواء يحثهم على النفرة ويحرضهم على البغضاء ليتوسل بإيغار الصدور إلى مقصد ديني أو مطمع ملكي. ونحن لساعة تحرير هذا المطلب لم نفقد حاسة من حواس الجامعة الوطنية ولم أشعر بفارق بيننا وبين الطائفة القبطية ولا بين الطوائف العديدة التي دعت ضرورة الاختلاط العمراني لتمسكنا بحبل الأنس بكل وارد منهم مستوطناً أو مجتازاً فإنك ترى الأجناس المختلفة الدين والوطن واللغة يساكنوننا معاشر المصريين فلا يجدون إلا صدوراً رحيبة ووجوهاً ضاحكة وألسنة رطبة بالتحيات والتهاني فترى الرجل منهم يسكن في قرية من قرى الريف والفلاح يحرسه ويقضي له أشغاله ويحفظ له أمواله وهو في عزة وسعادة كأنه بين عشيرته في بلاده وهو أمر لا يحلم به شرقي في غير بلاده.
ومعلوم أن القانون إذا لم يجد منفذاً ضاع ووقعت الأمة في الهرج والمرج وإذا وجد منفذاً غير عادل أوغر الصدور وحرك النفوس وملأ القلوب بالأحقاد وقد وضع القانون الشرعي والسياسي في يد المرحوم محمد علي باشا أخيراً وانتقل التمسك به إلى ذريته من بعده فجرى الخلف على أثر السلف في حياطة الأمة المحكومة والمحافظة على أرواحها وأعراضها وأموالها وتنفيذ أحكام القانون في الأفراد مسلمة ، مسيحية وإسرائيلية. وقد ملأوا الوظائف برجال هذه الطوائف بحسب الاستعداد والقابلية ووجهوا الرتب إلى المستحقين من كل فريق وسوّوا بينهم في الضرائب والعوائد وسائر
الحقوق الوطنية حتى إن من دخل الديار ورأى هذا النظام البديع وتوحيد الجامعة الوطنية حكم بأنهم على دين واحد ومن جنس واحد فلا يعلم أنهم مختلفون ديناً إلا عندما يسمع صوت المؤذنين ودق الأجراس.
وقد دخل كثير من الأقباط في المدارس الأميرية ولم يرَ تلميذ منهم معلماً ينقله من دينه ولا إكراه على أداء صلاة المسلمين كما يفعل الغير في إكراه أطفال المسلمين على أداء صلاة المسيحيين قبل الدخول في الدروس.
ولا أرى كتاباً يتعلم فيه وفيه تهجين دينه أو تقبيحه كما يوجد في كتب مدار الغير. وكل هذا بسعي القوة الحاكمة في توحيد الجامعة الوطنية وقطع عروق الشقاق والبغضاء وتأييد القواعد الإسلامية التي تقضي على الآخذين بها بوجوب المحافظة على الوطني والمستوطن ومعاملته معاملة المثيل. ومع كون الأقباط عاشوا دهراً طويلاً وهم أصحاب مشية واحدة يأتمرون بأمر رئيسهم الديني وينتهون بنهيه فإنهم لم يجتمعوا يوماً لتفريق عصا الجامعة ولا لشق ثوب الائتلاف ولا تنافروا مع المسلمين بسبب من الأسباب دينياً كان أو دنيوياً ولا مالوا للخروج من ظل عدل الحكومة المصرية إلى حرارة غيرها لعدم الموجب. فقد عملوا بالتجارب والمعاينة أن التمتع بالحكومة المحلية هو النعيم الدائم ولهم في تعب الطوائف المحكومة بغير أكبر واعظ وأشد زاجر.
فلا تعجب إذا قلت لك أن العائلة المحمدية الحاكمة لمصر امتازت بحكمة لم تتيسر للملوك. والدليل القطعي وجود هذه الأعداد الكثيرة من الأجانب في المدن والقرى آمنين مطمئنين ممتعين بنعمة الصيانة والوقاية
فائزين بدرجة التقدم والرفعة قابضين على أعنة الثروة والرفاهة ملحوظين بعين العناية الخديوية مختلطين بالمسلمين والأقباط واليهود المصريين
في المعاملات والمجامع والطرقات يتبادلون التزاور والتهاني والتعازي والمعايدات ومجموع الوطنيين والمستوطنين قائمون بشعائرهم الدينية فإذا وقفت في شارع مرّ عليك ميت مسلم تفتح أمامه المصاحف ويتلى القرآن العزيز ويتلوه مست مسيحي ترفع أمامه الصلبان وتمشي القسس بالملابس الدينية الرسمية أمامه وربما حيطت الجنازة بفريق من العسكر الوطني. وما ذاك إلا بما فطر عليه المصريون من لين الطباع وحب الغريب وسهولة الأخلاق وحسن المعاملة وسرعة الائتلاف وبعدهم عن الخديعة والمكر والنفاق وخفر الذمم ونقض العهود والسعي في المفاسد والمضار. فهم في المجتمع الإنساني أمة قريبة من كل أمة محبة لكل جنس لا يحوّل طباعهم إلا دخيل يزين لهم التخاذل وعدو يواددهم حتى يتمكن من قلوبهم ثم يزرع بينهم بزر الشقاق والتنافر فتراهم يتسارعون للانقياد والاستسلام معتقدين صدق من يستميلهم وهذا الذي أخرهم في العصور الخالية إما وقد جرّبوا الزمن وأهله فإنهم أعدوا لكل شبهة جواباً ووقفوا بين يدي خديويهم الأفخم حذرين من الطوارئ منقادين للأوامر شاكرين لأنعمه حامدين لأعماله المبرورة لا يفرق بين دخيل ولا يشق عصا اجتماعهم عدو بعد أن رأوا سوء عاقبة الواقعين في شرك الغير وكانوا يعِدونهم ويمنونهم فأصبحوا وقد أخلفت الوعود وكذبت الأماني.
فنحن معاشر المصريين نفتخر بين الأمم بهذه الجامعة التي لا تنحل
عقدتها ولا يبدد نظامها. ونعني بالمصريين كل وطني من العرب والترك والجركس أما العرب فإنهم سكنوا الأقباط من مبداء الفتح الإسلامي إلى الآن فتوغلوا في الوطنية من أمدٍ بعيد. وأما الترك فإنهم وإن تأخروا عن العرب في الاستيطان ولكنهم هجروا بلادهم وتعاقبوا الإقامة ولداً عن والد حتى نسوا بلادهم فلو عاد أحدهم إليها لكان أجنبياً فيها لطول العهد فإن منهم من له عشرة أجداد في مصر ومنهم من له أكثر وأقربهم من دفن أباه فيها وولد بين أهليها فصارت وطناً صحيحاً لكل قاطن فيها من هذا الجنس العالي الهمة بل كلهم مصريون أصليون لا يميزهم من غيرهم إلا المحافظة على لغتهم بالتلقي عن الآباء والأمهات. وأما الجركس فإن من ولد منهم في مصر فحكمه حكم العرب والترك ومن ولد في غيرها فقد جاءها صغيراً دون سن التمييز في الغالب وربما أنهُ لا يعرف اسم بلده أو والده ووالدته عند كبره لمفارقته وطنه قبل المراهقة فهم مصريون حقيقيون لا يمتازون إلا بمعرفة أصل
الجنسية بينهم. والأقسام الثلاثة تجمعهم الرابطة الدينية قبل الجامعة الوطنية. فاعتبارنا الأجناس الثلاثة مع الأقباط مصريين اعتبار صحيح حجته المشاهدة والعيان. وقد امتزجت جموعهم هذه بفريق من إخواننا السوريين فشاركونا في الإدارة والتجارة مشاركة ذكرتنا اتحاد المصريين والفينيقيين في العصور الأولى حيث توحدت جامعتهم وبها شرقوا وغرّبوا وملأوا الدنيا بعلومهم وصنائعهم وعلموا الأمم القديمة علوم المدينة فأحسنت اليونان الأخذ عنهم قم قاموا عليه بعد أن تربوا تحت أحضانهم فانعكست الدورة وانتقلت السيادة إلى اليونان إلى أن جاء