الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 30
- بتاريخ: 14 - 3 - 1893
تجاذب الجنسيات والأديان
من وقف في مزدحم العالم الإنساني ورأى الحاصل بين الناس من الحب البغض والإنس والنفور والتوافق والتخالف والتواصل والتقاطع أخذته الدهشة من حصول هذه الأضداد في جموع ترجع إلى أصل واحد ولكنه إذا أنعم النظر وأبعد في الفكر ورجع بالعالم القهقري وأسكن كل فريق في قطعة من الأرض تخالف مناختها بالتغيرات الجوّية والمطعومات النباتية والحيوانية وعلَّم كل أمة لغة مخصوصة والزم كل طائفة بدين تأخذ به وتعتقده وعودها بعادات تميل إليها وتحافظ عليها ثم ترك هذه الأمم التي جزأها وقطع المواصلة بينها على هذه الحال سنين ثم الجأ فرداً من أمة على الارتحال إلى أمة أُخرى لاستنكرته لأول نظرة وفر هو منها أوفرت منه ووقع بينهما من النفرة والاستغراب ما يقضي به العاقل أن هذا المرتحل أجنبي من هذه الأمة ولولا أنه على صورتها خلقاً لقضى عليه بأنه من نوع يخالف نوعها فإذا لزمها اليوم بعد الآخر ودامت المخالطة والمعاملة وخاطبها بلغتها ودان
بدينها وقعت الألفة بينهما بقدر ضرورة الاختلاط بحيث تفرق بين محبتها له ومحبتها لفرد من أفراد جنسيتها. ولو اجتمع فريق من الأمة في مكان ومعهم هذا الدخيل لكان انعطافهم على بعضهم أعظم من انعطافهم عليه وثقتهم بأنفسهم أقوى من ثقتهم به. فإذا كان لهم س أخفوه عنه مع أنه لا يتكلم بغير لغتهم ولا يدين إلا بدينهم ولا يسكن غير أرضهم ولكن التجاذب الجنسي حال بينه وبين الوصول إلى درجة المثيل. وعكس هذا إننا لو فرقنا بين اثنين من وطن وهما صغيران ثم جمعناهما بعد أن شاخا في وطنين متباعدين وخاطب كل صاحبه بلغته وعرفه أنه من جنس كذا لجرت مياه المحبة والحنان في عروقهما وجذبتهما رابطة الجنسية بقوَّة لا يقدران على دفعها كيفما كان التباين بينهما بل لو قعد كلّ إمام صاحبه من غير أن يكلمه لوجدا في قلبيهما ميلاً لبعضهما لا يعرفان سببه. وبتفرُّق الأمم في الأقطار وطول التقاطع واختصاص كل أمة بلغة ودين صار كل فريق جنساً مستقلاً له طباع وعادات ولغات تخالف طباع وعادات ولغات الجنس الآخر وبتقلبات الدول في الفتوح قديماً وحديثاً اختلطت الأجناس فاختلفت الطباع والمألوفات وربما وجد في البيت الواحد اثنان يخالف أحدهما الآخر بحكم الوارثة الأبوية والنزوع إلى عرق التوليد
الأصلي وعند مجيء الدين الإسلامي وانتشاره في أفريقيا وآسيا وبعض أوروبا امتزج العرب بالفرس والشاميين والمصريين والترك والروم والغوط وبعض الطليانيين والإفرنج
والسودان والحبشة والهنديين والويغور وغيرهم وألف بين قلوبهم فتوحدت كلمتهم وصاهر بعضهم بعضاً بجامعة الدين فنتج جنس يجنح إلى الأصول بعرق التوليد ميال للجامعة بوحدة الدين والوطن والتابعية وبكرور الزمان استقل هذا الجنس وصار مستعرباً يخالف أصوله وقد غلبت عليه المخالطة الوطنية والأخذ عن العريقين في النسب فانخلع عن أميال الأجناس البعيدة انخلاعاً تاماً وفي أيام الحروب الصليبية وتغلب اللاطين والإنكليز والألمان والإفرنج على السواحل السورية حصل اختلاط الغربي بالشرقي ونشأ عن الفريقين قسم رجاع بأصله على جهة العصبية ميال بتربيته واستيطانه إلى أرض نشأته كما حصل مثل ذلك أيام الرومانيين حيث داخلوا أمم أوروبا واختلطوا بهم عند حروبهم الدينية وبجامعة الدين حصلت المصاهرة فتولد جنس ميال لغير ما عليه الأهل وبطول الزمن عاد إلى طباع أهل وطنه بتغير أسمائه وكذلك عند تغلب الإفرنج على مصر ولكنهم لقصر مدتهم لم ينشأ عنهم إلا أعداد قليلة جداً في وسط المصريين. وإذا نظر المتأمل في سحن الشرقيين والغربيين وكان خبيراً بصور أهل الأقاليم أمكنه أن يرد كل ذات إلى جنسها الأصلي بضميمة الأفعال إلى الصورة فإن الصورة وحدها غير كافية في الحكم لأنها قد تأتي من نظر الحامل على صورة أجنبية وتأثرها بما يقع في ذهنها من استحسان أو استقباح ولهذا يحكم بخطأ من رأى ولده يخالفه في بعض أوصاف الصورة فأتهم أمه بالريبة وإنما إذا رأى ولده يحب ما يكرهه ويكره ما يحبه وقد غلبت عليه طباع من جاء بصورتهم ورآه يميل إليهم ويستحسن ما هم عليه من الأخلاق والعادات ويستقبح ما عليه أبوه من ذلك فلا شك في مجيئه من ذلك الجنس وهذا الباب وأن رآه بعض الناس قليل الفائدة بعدم تبصرهم فيه فإن له دخلاً عظيماً في الأمور السياسية والتقلبات الدولية فإننا نرى كل أمة استقلت
بنفسها وبعدت عن الخليط والدخيل تتجاذب إلى بعضها تجاذب حلقات السلسلة إلى بعضها البعض وربما كان فيها مزيج أجنبي يستره الاختلاط وطول المعاشرة ويمنع من ظهوره عدم وجود ما يحتك فيه حتى يتأثر ويرجع بالجاذبية إلى الأصل. فإذا دخلت أمة على هذه الأمة وكان في المدخول عليها عروق منها نزعت إليها وعطفت عليها وأسرعت في تلقي عوائدها وانقادت لانفعالها بأفعالها وأقوالها وعادت تذم من ولدت في أرضهم وتربت بين ظهرانيهم وعرفت لها أباً أو أبوين منها صورة واستحال على أخيها الوطني إرجاعها إلى
الجامعة الوطنية لاستبداد الدم الأصلي على تلك الذات التي كانت في حكم السائح الغائب عن وطنه لغرض فلما انقضى عاد إلى وطنه وبهذه الجاذبة فاز كثير من الدول في حروب شتى بانصياع الدماء السائحة إليها فتدلها على عورات دولتها وتساعدها بتثبيط الهمم وبث الفتن حتى تمكنها من بلادها بغلبة جاذبة الجنسية على الوطنية. وهذا سر خفي ظهرت منه عجائب في الفتوحات الدولية والمجامع الاختلاطية. وهناك صبغة تنصبغ بها الذات فتقع بين طرفي تجاذبها مع الجنس وهي صبغة الدين فإنها تحكم على الذات بحسب ما أنصبغ بها وإن خالفها جنساً ووطناً ولكن إذا وقع خلاف بين منصبغين بها هربت الطباع إلى أصولها فإننا إذا رأينا حرباً قامت بين فرانسا وانكلترة مثلاً تهرب الطباع إلى الجنسية ويقابل كلٌ دينيَّه بقلب كالصخر ونفس عاتية عادية فلا يسره إلا ذبح دينيّه والانتصار عليها بهتك عرضه وتخريب بيته وإذلال سلطانه وكذلك لو وقعت حرب بين عربي وعجمي تماثلاً ديناً هربت الطباع إلى الجنسية
فترى عربياً في أقصى الأرض يفرح بانتصار مثيله على العجمي والعكس بالعكس فإذا ظهر مغاير لهما ديناً وتسلط على أحدهما سترت صبغة الدين تلك الطباع الجنسية وحولتها إلى التوحيد والائتلاف بجاذبة الطرف الديني وإذا بعدت أمة عن أمة وقد تسلطت أمة أخرى على مثيلتها تألمت من بُعد وعمه الحزن والغم بالجاذبية الجنسية إن كان التسلط بين جنسين أو بالجاذبة الدينية إن كان التسلط بين مختلفين ديناً وهذا الذي يدعو المسلمين لتألمهم من وقوع الهند تحت أيدي الإنكليز وتونس تحت أيدي فرانسا وبخاري ومرو وما وراء النهر تحت أيدي روسيا كما يدعو المسيحيين لتألمهم من وقوع مسيحيي الشرق تحت أيدي الدولة العلية والحكومات الشرقية. وقد حكمت جاذبتا الجنس والدين على اليونان ورومانيا والصرب والجبليين والبلغار بالنفرة من جاذبتي الترك والإسلام فرضيت بالخضوع مدة الضعف حتى بدا له تلاصق جاذبتها الدينية بدول أوروبا فتحركت حركة الاستقلال بدافعة الجاذبة وإعانة الدين ولو أن الترك حولوا أصولهم إلى الصبغة الدينية لبقي بينهم وبين هؤلاء من الألفة ما يوجب التوحيد الديني فكم جنسيات سترت أميالها بالصبغة الدينية كما هو مشاهد في رجال الدينين الإسلامي والمسيحي وإذا تأملنا في الأمم الشرقية الحاضرة ورأينا أفراداً مائلة إلى الأمم المتغلبة على أوطانهم كالإنكليز والفرنسيين مع مماثلة الدين في البعض أو مخالفة المذهب أو الدين ومع
بعد الوطنين واختلاف اللغتين علمنا أن الجاذبة الأصلية الآتية من الاختلاط هي التي تحول المرء عما عليه قومه وتلجئه إلى الانحياز إلى الأب الأصلي وأن كان على غي دينه الآن أو لا يعرف من لغته ولا كلمة
وبهذا التجاذب تقع الثقة من الدولة المتغلبة بهذا الابن المربي في غير وطنه فتعطف عليه وتستعين به على مقاصدها في قومه وبني وطنه. وليس المراد أن الجنس الباقي على طهارته من أخلاط الغير ينفر من كل جنس يخالطه فإن التأنس في نوع الإنسان فطري لا يحتاج إلا إلى مسالمة خفيفة وإنما المراد أن كل جنس خلص من أمشاج الأغيار لا يجنح إلى الغير التجاءً واستحساناً لسلطته عليه بل يعاشره بقدر ما تدعو الضرورة فإذا جاء وقت التسلط نفر وشذ فلا يقع تحت قهره إلا بحكم الضعف والهزيمة. وكل من خالطت أصوله الأخلاط لا يختلط بالجنس الخالص إلا بقدر ما يرى أصوله حلت بين يديه فتطير طباعه إلى جو الجنس بحكم الجاذبة ولهذه العلة امتنعت أوروبا من توظيف غير جنسيتها في وظائفها العالية وسلمت جميع أعمالها خصوصاً الحربية على رجال خلصت جنسيتهم من الخليط خوفاً من رجوعهم بالغرائز إلى الأصول وقت الحروب فتذل الدولة أو وقت السلم فتقع في الفتن الداخلية فإذا بحث خبير في اختلاف أهواء الشرقيين ورجع بأفكارهم إلى ما يميلون إليه أمكنه أن يرد الدماء على أصولها بالحنين الأصلي. وكذلك لو بحث هذا البحث في الأمم الأوروبية لرد الخليط فيها على أصله بالسحنة والفعال وكما توجد الألفة بين الأقارب مع اختلاف الآباء توجد بين الأجناس المتقاربة وطناً المتحدة ديناً كما يرى ذلك بين دول أوروبا فإن قرابة الجنسية ووحدة الدين قضيا عليها بالائتلاف في وقت مقاتلة أمة شرقية فلا تشذ دولة إلا بداعية ملكية مع كراهتها انتصار الشرقي على الغربي وكذلك نرى ذلك بين الأجناس المسلمة من عرب وترك وفرس وهنديين وغيرهم فإنهم لا يفرق كلمتهم إلا المظهر الملكي
ومع ما بينهم من التفرق فإن كل قسم يتألم من أجنبي يحكم قسماً يماثله فإن الصبغة الدينية تجذبه عن وجهة الأجنبي بحكم التلاحم الديني. وأقرب الأماكن إلينا مصر التي نحن فيها فإنها بلاد إسلامية مختلطة بقليل من الأقباط الذين تجذبهم الجنسية إلى كثير ممن تولدوا ممن أسلم من سابقيهم وتدفعهم الوطنية إلى التلاصق بالجموع بجاذبة الوطنية والألفة وطول المعاشرة التي قامت مقام اتحاد الجنسين وقد طرأ على المجموع المصري الجنس الإنكليزي
فإذا ساورنا الناس وسألنا كل واحد على انفراده عن ميله الحقيقي رأيناهم على الفطرة لا يقطعون حلقة من حلق التجاذب الجنسي والوطني ورأينا دماءهم بعيدة عن مشابهة الدم الإنكليزي. ثم نرى بني هذه الألوف المؤلفة أفراداً آحاداً أو عشرات لا يبلغون العشرين يميلون للإنكليز بحكم الجاذبة الأصلية التي كان يسترها بعد الجنس عنها وقد أظهرها الاحتكاك فيه الآن وكذلك غيرهم من الأجناس الشرقية فإننا لا نجد فيمن يميل إليهم ميل حنو وانعطاف ويستحسن ما هم عليه من القسوة وحب إذلال الشرقيين واستعبادهم الآت من ماءٍ إنكليزي وإن لم يعرفوه ولا يعلموا له أبا منهم الآن والحكم على أبناء الإنكليزي الشرقيين هو الحكم على أبناء الفرنسيين وأكبر شاهد على التجاذب ما رأيناه من المصريين في العهد الأخير فإنهم بضعف السياسة السابقة بتقلب الأفكار الأجنبية ناموا تحت سوط الأجنبي مدة الضعف فلما رأوا محافظة أميرهم الأفخم على عز الجنسية ومجد الحرص على الخصائص الوطنية ظهر كمين باطنهم من حبهم استقلال أميرهم بإدارة حكومته برجاله وقابلوا همته بالنداء باسمه والالتجاء إلى بابه ولم يشذ عنهم إلا من جاء من ماءٍ أجنبي فأقعدته الجاذبة عن الالتئام
بمن كان يراهم أخواناً له قبل أن يجتمع بآبائه الأولين. وكما في الجوانب الجنسية والدينية والوطنية من أسرار تظهر عجائب وغرائب والناس تنسبها للظواهر السياسية والأطماع الذاتية أو الخطاء في القول أو عدم الأحكام في العمل ولو أمعنوا النظر وأعطوا هذا المقام حقه لما حكموا على شيء من عوارض الأمم ولوازمها إلا بحكم التجاذب جنسياً كان أو دينياً أو وطنياً فمن هذا السر هو الكهرباء المتطايرة في الأقطار لتجمع كل شريد على أصله وترد كل غريب إلى وطنه ولعلنا نعود لهذا المقام ببسط أوسع مؤيداً ببراهين أقوى وأوضح ليعلم الضعفاء مثلي سر جاذبة الجنس والدين ولا يقفوا عند مرئياتهم وظواهر العالم الإنساني بعد وقوفهم على الحقيقة ومعرفتهم قانون الفراسة بما يسمعونه بالآذان ويرونه بالعيان. ولا يعترض على هذه الفذلكة بما يرى من التئام سياسي شرقي بسياسي غربي فإن الدواعي تدخل هذا في حكم الضرورات خصوصاً في المخالطة السياسية فإنها تلجئ المتخاطبين أو المخالطين إلى التظاهر بمظاهر الأخوة والأحباب كما لا يعترض بمخالطة المستوطنين والمجتازين في كل قطر من أقطار العالم فإننا قلنا أن ائتناس الإنسان بمثيله فطري لا يحتاج إلا إلى مسالمة خفيفة كما أن هذه
المخالطة لا تدوم إلا بقدر الضرورة إلا تراها كيف تذهب وتعدم عند محاربة أمة لأرض استوطنها أجنبي من تلك الأمة المحاربة فإنه يعود على أمته ويحمل السلاح على من كان جاره أو شريكه أو أكيله أيام السلم والسكون وبالجملة فإن هذا بحث سهل التناول عند إمعان النظر يلذ لكل عاقل شأنه الوقوف على حقائق الأشخاص وملاعب الأمم التي تقدمها الجاذبة الجنسية أو الدينية لقوم يعقلون.