الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة
هذه الرسالة بقلم الفاضل المهذب قاسم أفندي هلالي المهندس المصري
لا يخفى على البصير العاقل والمتحقق الناقل أن العلوم الرياضية (بما فيها العلوم الطبيعية والفلكية) أجل العلوم شأناً وأدقها بياناً وأجملها تبياناً حيث بها يعرف الكائنات بأسرها ونسبتها إلى بعضها فيكون على ثقة من خصائصها ومنافعها ومضارها فنحسن له بها الزراعة وتتسع دائرة الصناعة وتحصل الثروة وتكشف الأمور النافعة المفيدة للإنسان فيستخدمها في قضاء حوائجه وأوطاره ويعلم بها كيف يجب أن تخدمه في ضروراته من حرفته وحراثته وأعماله وكيف تقوم بأمر غذائه ودفائه وغير ذلك ويعلم بها أيضاً ما يضر منها وكيف يتجنب أو يقاوم المحذورات التي تنجم عنها فهي من العلوم الضرورية للإنسان ولا حرج والحالة هذه إذا قلنا إن الإنسان ربما بلغ بها درجة فيها يستعمل سائر ما في الدنيا لفائدته بما يمنحه الله تعالى من العلم وبالجملة فهي من أجل طرق النجاح خصوصاً في هذا الزمان الذي اتسع فيه نطاق الحضارة والعمران لجميع البلدان فمنها اختراع جميع الآلات الصناعية التي عليها مدار الهيئة الاجتماعية حيث توصل بها الإنسان إلى درجة سامية من الرفاهة ورغد العيش وأصبحت مصدراً للمنافع وقانوناً للتدبير والتوفير وكنزاً للفوائد وصارت أحسن هادٍ إلى السداد وأفضل عاصم عن ارتكاب الفساد.
وغير خافٍ على كل من حركته الغيرة ونظر إلى مثل هذه الأمور بعين البصيرة أنه إذا أثبت العقل منافع علم لم يحتج لإقامة البرهان على لزومه. هذا بخلاف ما يقوله بعض الذين يقرون بمنافع هذه العلوم ولكن يزعمون
أنها ضارة بالدين.
فيا حبذا لو نظروا غليها بعين الاعتبار وأنزلوها ولو بمنزلة القصص الوهمية أو بعض الأخبار مع أنها وقيم الله أسمى من ذلك بكثير إذ هي للصانع والكاتب والحاسب والشاعر خير أنيس وجليس وهي لازمة أشد اللزوم لمن يريد أن يعتمد في حياته على إشغال العقل وأعمال الفكرة مهما كان البحث الذي يشتغل فيه.
ألا ترى الذي تثقف عقله بها واستنار بسناها يسير على طريق الهدى في سواها من المعارف والعلوم بخلاف غيره فإنه يخبط خبط عشواء في الليلة الدهماء حيث يخلط بين الثابت والمتغير والمتمرن على طريقتها يسرع على البحث عن العلل ومعرفة ثابتها من متغيرها وتعيين التغيير الذي يلحق بالمعلول من تغيرها.
فإذا نظرنا إلى قول الطبيعي الرياضي عن حرارة الشمس مثلاً لوجدناه يقول إن الله تعالى جعل حرارة كل يوم من الأيام تابعة لأمرين وهما موقع الشمس في السماء والعوامل الجوية وأخصها جهة الريح الهابة يومئذٍ ومن نظر إلى الأرض يرى الحر والبرد يتعاقبانها وأجزاؤُها تجتمع ثم تتألف وتتفرق والجذب والدفع متسلطين على كل ذرة منها فالحرارة تمدد دقائق الأجسام وتفرقها وتصيرها بخاراً بخلق الله والجذب يقرب هذه الدقائق ويرجعها سائلاً يكون الأمطار التي تملأُ البحار والأنهار بأمر الله والهواء والماء يخترقان الصخور ويفتتانها والجواذب الطبيعية والقوى الكيماوية والحيوية تجمع هذا الفتات وتعيده صخراً صلداً بتكوين الله. والأرض في حركة مستمرة واضطراب دائم بين قوتي الجذب والدفع والتخالف والتضاد ومهما ظهرت ثابتة فإنها تدور على محورها في كل أربع وعشرين ساعة فتسير بالبلدان التي على خط الاستواء
سبعة عشر ميلاً في الدقيقة وتدور حول الشمس مرة فتسير بنا كل يوم أكثر من مليون ونصف من الأميال وكل ذلك بتقدير العزيز العليم وخلقه لا بطبع تلك الأشياء فإنها مخلوقة له تعالى بعوارضها. وإذا نظرنا إلى قوله عن كسوف الشمس لوجدناه يقول كسوف الشمس على ثلاثة أنواع كلي وجزئي وحلقي وسبب هذه الأنواع أن القمر قد يقترب من الأرض حتى يظهر قرصه أكبر من قرص الشمس للواقف على سطح الأرض وقد يبتعد عنها حتى يظهر قرصه أصغر من قرص الشمس وقد يكون بين بين بحيث يظهر قرصه مساوياً لقرص الشمس فإذا اتفق أنه مر أمام الشمس وقرصه أكبر من قرصها كسفها كسوفاً كلياً بالنسبة إلى الواقف في حركة ظله وجزئياً بالنسبة إلى الذين على جوانبه وإذا مر أمامها وقرصه مساو لقرصها كسفها كسوفاً كلياً عمن تحت رأس ظله حال مروره أمامها وكسوفاً جزئياً عمن حاد عن رأْس الظل وإذ مر أمامها وقرصه أصغر من قرصها لم يصل ظله الأرض والواقف تجاه رأس ظله يرى الشمس المكسوفة حلقة مضيئة فيكون الكسوف عنده حلقياً وأما الواقف منحرفاً عن رأس ظل القمر فيرى جزءاً من الشمس مضيئاً والباقي مكسوفاً. وإذا نظرنا إلى قوله عن الشمس لوجدناه يقول الشمس أهم لنا من جميع النجوم وهي أكبرها منظراً وأوسعها نوراً وأشدها في أرضنا تأثيراً بفعل الله تعالى وتقديره وهي مركز النظام الشمسي وحولها تدور أرضنا والسيارات رفيقاتها ومنها تستمد النور والحرارة وبها تقوم حياة ما فيها ويحدث الله كل
التغيرات التي تطرأ عليها من برد وحر وصحو ومطر الخ ولا يصلنا من نورها وحرارتها إلا جزء واحد من ألفين وثلاث مئة ألف ألف جزء لأن أرضنا لا تعترض إلا لهذه الأشعة من
كل أشعة الشمس المنتشرة في الكون والظاهر أن الشمس هي الكتلة الأصلية التي فصل الله تعالى منها جميع السيارات فهي بهذا الاعتبار أمهن تقوتهن بنورها وحرارتها وتمسكهن حولها بالجاذبة التي خلقها الله تعالى بينهن وبينها فهن يدرن حولها في نواحي السماء وقرص الشمس لا يبقى على حال واحدة بل يكبر في الشتاء ويصغر في الصيف وسبب ذلك أن الأرض لا تدور في دائرة تامة حول الشمس بل في دائرة اهليلجية (أي قطع ناقص).
ومن الأمور الواضحة أنه إذا اقترب الشج إلينا كبر وإذا ابتعد صغر حتى يختفي بصغره فالمر يظهر بقدر الشمس وهو أصغر منها كثيراً لأنه أقرب منها إلينا وصغر الشمس عندنا هو لبعدها الشاسع فالسيارات التي هي أقرب منا إلى الشمس أكبر ما نراها نحن والتي هي أبعد نراها أصغر. وإذا نظرنا إلى قوله عن القمر لوجدناه يقول القمر جرم كروي مظلم يستمد نوره من الشمس ثم يعكسه إلى الأرض فيرفع ظلام الليل عنها وهو أقرب الكواكب إلى الأرض وأوضحها منظراً وأكبرها بحسب الظاهر إلا الشمس غالباً وهو أصغر من الأرض تسعاً وأربعين مرة في الحجم ويتبعها دائراً حولها مرة في نحو تسعة وعشرين يوماً ونصف يوم من هلال إلى هلال وبعده عنها نحو 239000ميل فلو سار إليه مسافر سيراً متواصلاً ليلاً ونهاراً على معدل ستة أميال في الساعة (وذلك مضاعف السير الاعتيادي) لبقي على الطريق نحو 1660 يوماً ودورانه حول الأرض ظاهر لكل مراقب إلا ترى كيف أن الهلال يغيب في أول ليلة مع الشمس ثم يتأخر عنها ليلة فليلة حتى إذا صار بدراً شرق عند مغيبها فذلك إنما كان من دورانه حول الأرض من الغرب إلى
الشرق وأما شروق القمر والشمس وسائر الكواكب وغيابها كل يوم فذلك من دوران الأرض على محورها مرة في أربع وعشرين ساعة لا من دوران الأجرام نفسها فدوران القمر حول الأرض هو الظاهر في تأخره عن المغيب يوماً فيوماً وهو غير دورانه المماثل لدوران بقية الأجرام بالظاهر ومن الغرائب التي حملت الأقدمين على مراقبة القمر اختلاف شكله من يوم إلى آخر فتراه تارة رقيقاً أعقف وتارة قرصاً مستديراً يضرب به المثل في الجمال
وتارة بين بين وتارة أقرب إلى الهلال وتارة أقرب إلى البدر وهو على كل ذلك قمر واحد ولو لم نكن قد اعتدنا مشاهدة ذلك لعجبنا منه غاية العجب فإذا كلمنا إنساناً في هذا الموضوع ولم يكن له إطلاع على علم الفلك والرياضة لقال إن هذا حديث خرافة فسبحان الصانع الحكيم الذي حارت الأفكار في صنعته وعجائب مخلوقاته. وإذا نظرنا إلى قوله عن المطر لوجدناه يقول إذا عملت الحرارة في الماء لطفته فيخف فيصعد في الهواء وإذا عمل البرد به تكاثف وانضغط وعاد إلى ما كان عليه وذلك نتيجة الظواهر الجوّية فالبحار والبحيرات والأنهار ونحوها كلما أشرقت الشمس عليها عملت بها الحرارة فتسخنها فيتلطف ماءُها ويصعد وينتشر متخللاً دقائق الهواء شفافاً لا يرى فيبقى فيها إلى أن يشاء الله فيطرأ عليه عارض وإذا كان الماء قليلاً جف وترك ما فيه ألم تر الملح يبقى في نقر الصخور بعد جفاف ماء البحر منها وعلى ذلك تتبخر المياه ويحي الجو بخارها لسكب الرحمة وأحياء الأرض والحوادث الجوية في المطر كقوس قزح والهالة وكيفية الأنباء بالطقس متوقف على قياس آلات المطر ومعرفة مقدار الرطوبة من الجوّ واقتراب الأنواء والصحو. والهواء سيال كالماء يضغط مثله بالسواء
على كل الجهات ويختلف عنه بأن ينضغط إلى مالا نهاية له وأما الماء فقليل الانضغاط ونريد بالانضغاط أنه إذا زحم الهواء صغر حجمه تحت الزحم وبذلك قد اخترعت الآلات الهوائية والمائية وهي الذما في الكون من بائع الأحكام وغرائب الانتظام فإن العلم بها خير من العلم بأقاصيص الحب والغرام وأحلى من نوادر الاتفاق بين الأنام فسبحان القادر الحكيم الذي لم يدخل العبث شيئاً مما خلقه وكوّنه.
وهذه أقوال عليها براهين ساطعة يوّيدها العقل ويعضدها الإنصاف وتسلمها البداهة نظرها من ارتفع له في مراتب العلم ذكراً وقال أنها لا تمس عقيدة ولا تنقص أصلاً من أصول الدين على أن الذي يراها مغايرة الدين لم تظهر له مغايرتها إلا لعدم اشتغاله بها فلو اشتغل بها لأمكنه أن يردها إلى أصولها بالتأويل أو بالقياس أو يدافع عن أصولها ببيان الفساد الذي يراه فيها أما رده لها دفعة بلا نظر ولا استدلال فإنه تعصب للجهل لا للعلم والدين فإنه لا يمكنه أن يقيم حجة على فسادها وهو لم يشتغل بها كما قال الأستاذ مع أن المتقدمين من علماء العرب اشتغلوا بها وبينوا الصحيح منها والفاسد علماً وعملاً قولاً وفعلاً والآن
نفتخر برممهم البالية وأيامهم الخالية.
فكيف بنا إذا قام من قبره ابن رشد والغزالي والفارابي وفخر الدين الرازي وابن سينا وأبو القاسم والبنساني والطوسي والنيسابوري والبيضاوي وأبو العلا المعري والخفاجي والكندي والجلد كي والعضد وغيرهم من فطاحل هاتيك الأزمان الذين صرفوا حياتهم الطبية في خدمة العلوم وتنوير العقول وتوسيع العمران بمؤلفاتهم وتعاليمهم ونظروا أن بعضاً من ذرياتهم لم يزل
يقول أعوذ بالله من شر علماء هذه العلوم بحجة أنها تخالف ما أنزله الباري بأدلة واهية وبراهين سفسطية خالية من الصحة والثبوت.
تالله لقد وقفت أنوار فنونهم التي تبدد شملها وتلاشت وفنيت آيات مجدها بعد أن أشرقت عليها شمس المعارف والتبيان أيام كان الغرب يخبط خبط عشواء في ظلمات الجهالة لا يميزه من الحيوان سوى خاصة اللسان يتخذ الكهوف والأكواخ مسكناً وجلود ما يقنات به من الحيوانات لباساً وشعاراً والآن صارت فنونهم لها الاعتبار الأول عند الغربيين نظراً لتعلقها بنجاح بلدانهم حتى صار درسها من الأمور الإجبارية ليكون فلاحها متعلماً مهذباً عارف أصول حرفته حق المعرفة وضبطت قواعدها وألفت فيها كتب لا تحصى وجدوا في سبيل ترقيتها وزادوا الاختراعات فيها وسهلوا وسائط ممارستها وأتقنوها في هذا العصر إلى درجة يكاد لا يكون عليها مزيد فعند ذلك يندبون سوء حظهم ويوجهون إلى أبنائهم نبال زجرهم وملامهم ويقولون لهم ملكم جئتم بعدنا وضيعتم ما دوناه لكم من معارف العلوم ولطائف المعقول والمفهوم مما كان سبباً لترقي من كان يذهب مع الوحوش في خلواتها والطيور في أوكارها والآن أخذت العلوم تنتشر في بلدانه حتى أصبحت اليوم نبراس الهدى ومشكات الحكمة فيا أيها الأبناء أنتم الوارثون لنا من لغاتنا واعتقادنا أنتم الأولى بالمحافظة على ما وضعناه في أزماننا من علومنا فانهضوا اليوم نهضة الحكيم العارف وأطلبوا تلك العلوم من البقية التي هي بين أيديكم والكتب التي تركناها لكم والكتب الحديثة التي ترجمت إلى جميع اللغات وهي بين أيديكم تحيون بدراستها ما فات من تلك العلوم وتدونون بها الحقائق حتى
ينفي من الأذهان ما هو قائم بها من تحريم دراسة العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية التي لا تمس عقيدة ولا تخالف السنة وبذلك تكونون قد خدمتم الأمة وأحييتم السنة ومن شق منكم عباب بحار أو جاب مفاوز قفار حملته سفن الرجاء
وأوصلته مطايا الثبات والصبر على ما يؤمل. واتركوا ما فات واشتغلوا بما هو آت وهذه أقوال ذكرناها لكم على سبيل الاستطراد إذا كنا نود أن تكونوا الوارثين لنا في العلم العارفين بفضله حتى لا تكونوا مثلة بين الأفراد بأنكم لا تعرفون شيئاً منها على أنكم منسوبون لنا إذ ما من أحد فات منا إلا وله في جميع العلوم من معقول ومنقول وطبيعيات وفلكيات وغيرها مؤلفات استنارت بها الأمم التي سبقتكم في مضمار الجد والاجتهاد. وهذا مطلب سهل وصوله لا يتوقف إلا على جمعية علمية عظيمة تتركب من علماء جهابذة ذوي خبرة وبصيرة ومعرفة يعرض عليها كل أحد أقواله فمن وجدتها حسنة مقبولة قرظتها وأذنت له بنشرها وأن كان على خلاف ذلك منعته وبينت له وجه فساده وخطأ اجتهاد فإن مثل هذه الجمعية إذا امتدحت قولاً وأقبلت عليه الخواص والعوام عمت فائدته وعظمت عائدته وأقبل كل أحد على إبراز ما عنده وبذلك جهده بتربية أهل الوطن وتعليمهم ونشر ما يجدي في نفعهم ويؤثر في طباعهم ويحثهم على الاجتهاد والتقدم والتمدن وفيكم من ذوي المعارف والفضائل كفاية.
(الأستاذ) إن ما أشار إليه الفاضل من عقد جمعية تنظر في الكتب المؤلفة في الرياضية والطبيعيات حتى إذا رأتها لا تخالف الدين بشيءٍ صدقت عليها هو عين الصواب الذي ينبغي أن يعول عليه في هذا الباب حتى لا تفسد العقائد بمؤلفات الغير من أهل الزيغ والضلال.