الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 26
- بتاريخ: 14 - 2 - 1893
العلماء والتعليم
العلماء في كل أمة وجيل هم أئمة الناس في السير إلى المدينة وقادتهم إلى الانتقال من ظلمة الجهل إلى نور العلم فهم أعضاد الملوك ودعائم الملك وأسس النظام وحفظة الأمم وحصون الأوطان. ولا يخرجهم من هذه الدائرة التي وقفوا فيها وقوف المسؤل عن الأمة إلى دائرة الاختصاص العلمي الذي لا تعلق له بالملك ولا بنظام الأمة إلا من جهل أدوارهم التي حملتهم فيها الحياة على تحمل مشاق الأعمال ودفعهم العلم إلى قطع مضيق الموانع والصبر على وعر الوقائع وتقويهم بقواهم العقلية ومظاهرهم العلمية على الصوارف عن الاشتغال بمعارفهم وجذب القلوب إليهم بتلطفهم في التعليم وتساهلهم في المعاملة فهم والملوك في رتبة الأبوة بالنسبة إلى الأمم هم الآباء الذين يؤهلون الملوك للقيام بوظائفهم المحاطة بجيوش الأوهام والأخطار. فالرتبة العلمية هي الرتبة العليا في العالم الإنساني وأن رؤي بعض أهلها في ثوب الضعة ومشية الخمول فإنه عند نزول الحوادث بالأمم يرجع أرباب
الكساوي المقصبة والنياشين المجوهرة والسيوف المحلاة إلى ذي الثوب الخلق من العلماء يسألونه جواباً عن معضل أو حلا لمشكل أو عملاً يقاومون به أو معملاً ينتفعون بما يعمل فيه هنالك يتبين الفضل ويظهر المجد وتعلم الرجال بالأقوال والأفعال. وقد قضى العلماء أدواراً في العالم ولهم في كل دور أعمال ومبتكرات مرت عليها القرون الطويلة التي ذهبت بأجسامهم وهي تحدثنا عن تواريخ رجالها وفضل أهليها فأفلاطون وفيثاغورث وبقراط وسقراط وجالينوس والناتلي وابن سينا والرازي والفارابي والكندي وابن رشد والجلدكي وجابر وابن عربي والسهروردي والغزالي والصولي والباقلاني والشهرستاني والكسائي وسيبويه والجرجاني والبيضاوي والعضد والطوسي والزمخشري والطبي وابن منظور والشريف الأدريسي والجوهري والفيروزابادي وغيرهم ممن صرفوا حياتهم الطيبة في خدمة العلوم وتنوير العقول وتوسيع دوائر العمران بمؤلفاتهم وتعاليمهم هم الآن بين أيدينا لم يموتوا مع فناء أجسادهم وبعد ما بيننا وبينهم. وقد وضعوا قوانين علمية جري عليها العالم الإنساني وما زاد عليها إلا شروحاً وحواشي دعته إليها الضرورة وهدته إليها تلك الأصول المقررة فقد فتحوا أبواب الاستنباط والقياس والابتكار فدخله الناس أفراداً واجتمعوا فيه أفواجاً فازدحم عليهم عالم المتعلمين ومن هذا الباب دخلوا إلى ساحات الاختراع والابتداع حتى زين العالم الأرضي بنتائج ما خطه العلماء من النقوش.
وفي هذه الأدوار لم يقتصر العلماء على القعود في محل التعليم منصرفين عن السياسات والإدارات بل داخلوا الملوك وخالطوا الأمراء وشاركوهم في الأعمال فكان
منهم الكتاب الذين لا يكون الوزير الأول ألا منهم. والقضاة الذين يسوون بين التابع والمتبوع في مجلس القضاء والحكم والتنفيذ. والسفراء الذين ربطوا الدول بالمعاهدات والمهادنات والمخابرات السياسية وحفظوا وحدة النظام الدولي بمبادلة المكاتبات الودية ولا نقول كان منهم المهندسون والكيماويون والأطباء وعلماء الهيئة والحساب وتقويم البلدان (الجغرافية) والتاريخ والسياسة فغن هذا غير محتاج إلى بيان بعد أن وصلنا الألوف المؤلفة من كتبهم التي دونت في أكثر من سبعين عاماً. وبقبض العلماء على أزمة الدين من جهة ومقاود الأحكام من الأخرى صاروا عصبية قوية بين أيدي الملوك لا تعمل في هيئتها الأسلحة لما لهم من المنزلة العليا والمحبة الكبرى في قلوب الأمم فاستمالهم الملوك ولا ينوهم واستوجهوهم إليهم حتى تمكنوا بهم من إخضاع الرعايا وتسكين الفتن وتأليف النفوس النافرة وتوحيد الكلمة الجامعة وتأييد الممالك بوضعياتهم وتربية الأمم بآدابهم. وكانت العالمية عامة في خلفاء وملوك الصدر الأول الإسلامي فكان الخلفاء يحاجون العلماء ويعلمون الجهلاء حتى قال المنصور الخليفة العباسي للإمام مالك رضي الله تعالى عنهما لم يبق عالم إلا أنا وأنت. وبمعرفتهم قدر العلم وذوقهم لذة العقليات والنقليات سعوا في توسيع دوائر العلم وترجمت الكتب وبنيت المدارس العظيمة ورتبت للعلماء المرتبات الكافية ووقفت عليها العقارات والمزارع وهرع إليها الناس من كل إقليم وناحية حتى نبغ ألوف ألوف وصاروا أساتذة لغيرهم وانتشروا في البلاد داعين إلى الله تعالى معلمين علومهم. وامتد النمو العلمي والتحسين التعليمي إلى زمن التتار حيث
تصدوا لقتل العلماء وإحراق الكتب وإلقائها في الأنهر لعلمهم أن القوة العلمية هي القابضة على القلوب والأرواح وبهذا حصل تقهقر عظيم في عالم العلم واختفى العلماء في الزوايا خوفاً من القتل ثم ذهبت تلك السحابة التتارية وقبض الملوك المختلفون جنساً على أزمة الممالك الإسلامية واستغلوا بالحروب والمغالبات ولكن العلم أخذ في التقدم والانتشار مع تلك الموانع القاطعة وتقلبت صور التعليم بحسب الضرورات والمكان ومحدثات الزمان التي يهدى إليها التأنق في الأعمال إلى أن أنزوت التعاليم البغدادية والكوفية والبصرية والإشبيلية والفاسية والقرطبية
في البقعة المباركة المصرية المسماة بالأزهر.
وصار الأزهر المبارك مدرسة المسلمين الجامعة فهرع إليه أهل اليمن والحجاز والهند والجاوة وسناودرفور وبربرة وكوردفان وبرنووتمبكتو وفلاتة وجبرت والشام والعراق والمغرب والأناطول وبنيت لأهل هذه البلاد أروفة مسماة بأسماء ممالكهم ووقفت الأوقاف العظمية للطلبة وقرئت فيه كتب التفسير والحديث والفقه والتوحيد ومصطلح الحديث والأصول والقراآت والتجويد ومرسوم الخط والنحو والمنطق والبيان والبديع والمعاني والعروض والحساب والتاريخ والهندسة وتقويم البلدان والوضع والصرف والاشتقاق واللغة والهيئة والطب والعقاقير والإنشاء والفلسفة وتهذيب الأخلاق والزراعة والحيوان والإنسان واشتغل بعض العلماء فيه بعلوم الأوفاق والرمل الزايرجة والكيمياء والدخن والأبخرة والنارنجيات والسيمياء والطلاسم والتعاويذ والرقي وفنون كثيرة من فنون الشعبذة. واشتغل الناس كذلك بالتعليم والتعلم في أسلامبول (مدينة الإسلام التي هي الأستانة) ودمشق وبغداد ومكة المكرمة وفاس
ومراكش وغيرها ولكن على الاختصاص بأهل كل بلد فلم يرحل لجهة من هذه الجهات أناس مثل الراحلين إلى الأزهر من جميع الأقاليم والبلدان الإسلامية. ومع كون القوة العلمية كانت تلاشت أيام التتار فأنها عادت وتقوت أكثر مما كانت وعظمها الملوك وخافوا من رجالها حيث كان العالم الضعيف يدخل على الملك فيعظه وينهاه ولا سلاح معه ألا تعففه عن ماله ولا قوة معه إلا أخلاصه النصح ولا باعث له إلا قيامه بواجب وظيفته التي ناب فيها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التبليغ وتعليم الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع كثرة الدخلاء في العلماء إذ ذاك حافظوا على أصول دينهم وقواعد فنونهم وميزوا المدسوس من المنسوب وفرقوا بين من أسلم الله عن طهارة نية ومن أسلم لا فساد كتب المسلمين وعقائدهم أو لمعرفة أصولهم وحدود بلادهم وقوى ملوكهم وطبائع أقوامهم فكانوا حرص الناس على حياة علومهم وأبعد الناس عن الاغترار بالمتظاهرين بالدين معهم وأعلم الناس بضروب السياسة وأحوال الأمم. وهذا الذي أعطاهم المقام الأول عند الملوك خصوصاً في العهود الأخيرة قبل الألف عندما فوضت الممالك إلى طوائف جهة ممن تغلبوا على ساداتهم وهم كذلك فوضوا الأحكام إلى أجهل منهم فكان العلماء مرجع المخابرات السياسية ورسل الصلح وسفراء الملوك بيدهم
الحل والعقد وكلما رأوا حاجة الملوك إليهم ازدادوا بحثاً في ضروريات الممالك واجتهدوا في خدمة الأمة بالتآليف النافعة للسياسة ككتب الأخلاق وترتيب البيت وتنظيم المدن والعوائد وتربية البنين والبنات والفلاحة والمعادن والمياه والحروب وتحديد الممالك والتخوم وغير ذلك مما هو من لوازم
الاشتغال بالسياسة. ثم أخذت هذه القوة العظيمة في التنازل والضعف بوقوف العلماء بباب الأمراء لغير حاجة وتوسلهم إليهم ببعض الحاشية والجلساء ومدحهم بالقصائد طمعاً في الجوائز وكتابة الكتب بأسمائهم تقرباً منهم والخضوع إليهم إظهاراً للطاعة وموافقتهم على الأهواء أحياناً طمعاً في وظيفة حتى انعكس الموضوع فبعد أن كان الأمراء يركبون لأبواب العلماء صاروا هم يركبون إليهم أو يذهبون إليهم مشاة من المسافات البعيدة وهذا الذي سلطهم عليهم بالنفي تارة والتكدير مرة والسجن حيناً والقتل يوماً كأنهم من الأفراد الذين لا حق لهم في التعظيم والإجلال وما جلب عليهم ذلك ألا تهاونهم ونزولهم من ذروة العفة إلى حضيض الطمع وعدم محافظتهم على مجدهم وشرف وظائفهم ومراكزهم العالية الجليلة. ثم أخذت الحالة في التقهقر حتى فقد الأزهر كثيراً من العلوم واقتصر فيه على تعليم النحو والفقه طول السنة وبعض رسائل من التوحيد والمنطق والبيان في بعض الأيام وندر أن يحضر طالب شيئاً من التفسير والحديث وأصول الدين ألا أن عزم على أن يمضي عمره في الأزهر انتظاراً لشيخ يقرأ شيئاً من هذه العلوم أما علوم التاريخ واللغة والفلك والحساب وغيرها مما تمس الحاجة إليه فقد ذهبت بذهاب أهلها ثم تنبه بعض العلماء في العصر الحاضر لقراءة بعض العقليات والآليات توسيعاً لنطاق العلم فيه ولكنه بعض ضعيف في كل قوي كان ينبغي أن يأخذ بحظه من الرياضيات والآليات التي لا تمس عقيدة ولا تنقض أصلاً من أصول الدين. على أن الذي نراه مغايراً للدين لم تظهر لنا مغايرته إلا بعدم الاشتغال به ووصوله إلينا على يد من يخالفنا ديناً فلو
اشتغلنا به لأمكننا أن نرده إلى أصولنا بالتأويل أو بالقياس أو ندافع عن أصولنا ببيان الفساد الذي فيه وأما رده دفعة بلا نظر ولا استدلال فإنه تعصب للجهل لا للعلم والدين فإننا لا يمكننا أن نقيم حجة على فساده ونحن لم نشتغل به. والمتقدمون من علمائنا وأن اشتغلوا ببعض هذه العلوم وبينوا الصحيح منها والفاسد ولكنها الآن انتقلت من صورها إلى صور أخرى فبعد أن كانت تعلم بالفكريات صارت تعلم بالنظريات أيضاً وإجراء العمليات تطبيقاً للقول. على
أننا لا نريد أن يخرج من الأزهر أطباء ولا مهندسون ولا بياطرة ولا كيماوية وإنما تريد أن يكون لعلمائه أو بعضهم إلمام بهذه العلوم التي هي من ضروريات العلماء بحثاً ومناظرة تعميماً للنفع وليكون طالب العلم في الأزهر مؤهلاً لتلقي هذه العلوم بالمدارس الأميرية عند الحاجة إليه. وحيث قد وصلنا هذا المقام لزمنا أن نبحث في طريقة التعليم الجارية الآن فيه أن كانت نافعة مفيدة أو هناك طرق أسهل منها وأنفع للطالب فنقول. هذا الجامع المبارك يتفق أن يوجد فيه من عشرة آلاف طالب إلى عشرين ألفاً فاجتماع هذه الأعداد الكثيرة في بقعة واحدة مع عدم وجود أطباء للكشف عليهم مما يوجب انتشار العدوى بالأمراض المصاب بها بعضهم ويلزم من ازدحامهم وخامة هواء المسجد وقذارة أرضه. ومع عدم وجود خدم لهم في الأروقة واشتغالهم بالمطالعة والحضور تبقى أماكن نومهم على أوساخها متعفنة بفضلات الطعام وما تحمله النعال. ولكونهم لا يتعلمون شيئاً من علم الأخلاق وترتيب المنازل تبقى ثيابهم وسخة وأجسامهم منتنة بما يتراكم عليها من الإفرازات الجلدية وما يلصق بها من الهباء الجوي والغبار
الأرضي ويغلب على معظمهم الفقر والحاجة فيكون المانع له من تغييره الثوب عدم وجود غيره عنده ولا يمتلك شيئاً يذهب به إلى الحمام ومع عدم تنبيههم على آداب الطالب في حضرة الشيخ يرى أكثرهم نائماً على وجهه في الدرس ويبقى كذلك ساعات ويستمر اليوم بعد الآخر حتى تنصب المواد في عينه فتضعف أو يذهب نورها فضلاً عن خروج هيئة قعوده عن حد الأدب. أما كيفية القراءة فإنها ضارة بالطالب من وجوه الأول أن الدروس تذهب في بطالة الشهور الثلاثة والجمع والأعياد ومولد السيد البدوي وسيدي ابراهيم الرفاعي والبيومي وسيدنا ومولانا الحسين وموت عالم ويوم المحمل وقطع الخليج ومرض الشيخ وعدم مطالعته وغير ذلك مما لا يكون عذراً في تأخير طالب قطع القفار وارتكب مشاق البحار آتياً من جاوة أوزنجبار أوسنار أو الغرب أو برنو أو اليمن أو الأناطول أو أفغانستان أو بغداد وما لهذا المسكين والموالد وماذا على الأشياخ لو قرأوا فيها ومن يقوم بنفقة من يأتي للتعلم إذا اضطرته حالة الأشياخ إلى الإقامة بالأزهر سنين. الثاني أن الطالب قد يحضر نصف الكتاب على شيخ ويتركه ويذهب إلى غيره مبتدئاً عليه من الثلث أو آخره وربما حضر كتاب كذا على هذا إلى آخر المقدمة ثم تركه وذهب إلى غيره يحضر عليه كتاباً أرقى منه من غير استعداد
إليه إذا لا رابطة يرجع إليها الطلبة ولا مفتش عليهم في الدروس وهذا من أكبر أسباب تأخرهم وعدم نجاح معظمهم. الثالث الشيخ الذي يقرأ للطالب قد رخص له في قراءة عشرين علماً فأكثر أو أقل فكأنه رخص له في المطالعة فقط إذ بتشتيت فكره في هذه العلوم واحتياجه
لمراجعة مواد كثيرة في كل علم عند قراءته يفقد القوة التي تمكنه من درك حقائق الفن وفهم معانيه فهم تدقيق ولا يعترض على هذه العلة بوجود عالمين أو ثلاثة متمكنين من هذه العلوم فإنهم ما تمكنوا منها إلا بعد الاشتغال بها أكثر من أربعين سنة تعلماً وتعليماً وليس القصد أن يقطع كل طالب في الأزهر هذه السنين حتى يساويهم في الرتبة بل القصد حصول كل طالب على درجة في فنون مخصوصة يحصلها في وقت لا يقطعه عن الاشتغال بمصالحه الدنيوية والانتفاع بحياته ونفع العامة بما يعلمه من العلوم الضرورية لهم والكتب التي تقرأ ليست مقدرة دروسها أو مقررة ككتب الشافعية والملكية ولكن الأشباخ لا يعتنون بها فيقرأ الشيخ ما ارتحت نفسه للقراءة ويتركها متى شاء ويبقى الطالب تحت رحمة الشيخ وتعطفه وهذا من أسباب التأخير وموانع تقدم الطلبة. ولعدم امتحان الطلبة سنوياً لا يبالي الطالب بانقطاعه عن كثير من الدروس معتمداً على أنه عند الامتحان يقدم رسالة في المبادىء يتبادل فيها المطالعة والمباحثة مع غيره حتى يحسن السؤال والجواب عنها ليستحق بذلك الشهادة القاضية بأنه صار من صف العلماء ورخص له في التدريس. ونرى معظم الطلبة لا يحسنون الإملاء ولا مرسوم الخط ولا يقدرون على إنشاء رسالة أو تنميق مقالة في غرض مخصوص اللهم إلا إذا سهر لها الليالي يسود ويبيض حتى يصل إلى المقصود لا على ما ينبغي وذلك لعدم وجود من يمرنه على الإنشاء ويعوده على تحرير المطالب فهو عالم غير عالم كمن يعرف علم العروض ولا يستطيع نظم بيت لعدم محاولته ذلك. كما نرى كل مشتغل، لا زهر منصرفاً عن
الدنيا وما فيها فلا يقرأ الجرائد العلمية ولا السياسية ولا يعرف شيئاً من أحوال الممالك ولا يقرأ تقويم البلدان (الجغرافيا) ولا علم له بشيء من الجاري بين الملوك والطوائف ولا وقوف له على حوادث الحروب واختلاف الأمم ولا إلمام عنده بصنعة أو زراعة أو أصول تجارة ولا يبحث في مخترع يسمع به ومقترح يرد عليه كأنه في جب لا سكان فيه إلا من ماثله في هذا التجرد الشنيع مع أنه يعلم أنه يطلب العلم ليكون مؤهلاً للإفتاء والقضاء وهاتان الوظيفتان أرقى وظائف السياسة
القضائية المتصلة بكثير من الفروع الإدارية. وبهذا الأعراض عن الضروريات الدولية والمعاشية وقع كثير من العلماء في الخطاء اغتراراً بغاش يزين لهم الألفاظ الأسئلة ليقيم عليهم الحجة بأجوبتهم وأبعدت جموع العلماء عن مجالس الأمراء لعدم اقتدارهم على مشاركتهم في تبادل الأفكار إذا لا يعلمون من لوازم الدولة شيئاً. ثم أن طريقة الامتحان التي ربطت أخيراً هي طريقة لقطع العلماء وإقفال الأزهر وما أظنها إلا دسيسة دست على العلماء ولم يتفطنوا لها فإنه إذا كان في الأزهر عشرة آلاف رجل ولا يخرج منهم بالامتحان إلا ستة رجال مثلاً كل سنة ففي كم من القرون تعطى الشهادات للباقين فضلاً عن أن الواردين يزدادون كل سنة وإذا ضاق الطالب من طول الزمن وسافر إلى بلاده بلا شهادة منع من التدريس والدخول في عداد العلماء لأن عمله لا يفيده شيئاً ما دامت يده خالية من الشهادة فإذا تأملنا في قانون الامتحان الذي وضع أخيراً تحققنا أنه سيف قاطع للعلماء من الأزهر بضيق الطلبة وعلمهم أنهم لا يعطون الشهادة إلا بعد انتهاء الأعداد
المتقدمة عليهم وذلك مما يحتاج لقرون وهو لا يعيش هذه المدة فلا سبيل لأن يكون عالماً رسمياً فانقطاعه أولى من اشتغاله بما يضيع العمر فيه سدى ولا نري كيف ساغ لواضع هذا القانون أن يضيق على الناس هذا التضييق مع علمه بالراحلين إلى الأزهر من الأقطار البعيدة الذين لا يمكنهم التخلف عن بلادهم بعد انتهاء مدة الطلب ويغلب على الظن أن واضعه أجنبي أو أنه أدخل على العلماء بواسطة أجنبية في الحقيقة وإلا فإن هذا أمر منكر شرعاً وسياسة إما شرعاً فلأن الشرع يأمر بإعطاء كل ذي حق حقه ومنع الضرر عن عباد الله تعالى خصوصاً الفقراء وأخص منهم الغرباء والطالب المستحق للشهادة إذا منعها وألزم بالإقامة لانتظارها فقد منع حقاً وجلب عليه ضرر. وأما سياسة فلأن الحكومات النظامية كمصر وضعت قوانين لمدارسها بها يحفظ الطالب حقوقه ولا يظلم أحد فمتى أنهى مدة التعلم امتحن ومت أجاب وأجاد أعطيت له الشهادة سواء كان الطالب للامتحان واحداً أو ألفاً أو أكثر. وهذا الذي وضع القانون الأزهري لم يراع الجانبين فأولى أن يبادر السادة العلماء بإلغائه والإسراع في وضع غيره مما يناسب الشرع والسياسة. فإن قيل أن العلماء لهم كساو أو مرتبات وإعطاء الشهادات بأعداد متلاحقة وينتظر أصحابها موت ذي كسوة أو راتب ليدخلوا مكان الذاهب الأول فالأول على أن من يريد السفر إلى بلاده لا يطلب كسوة
ولا راتباً وما يريد إلا أخذ شهادة من سماحتلو شيخ الجامع تعلن بأنه من العلماء الذين تخرجوا على أفاضل الأزهر وبها يمكنه
التدريس في بلده والسعي في وظيفة من وظائف العلماء هناك وليس هذا من قبيل الطعن في طريق التعليم الأزهري ولا إنكاراً لفضل أشياخنا الذين برعوا فيه وانتهوا إلى درجة التأليف والاستنباط وإنما هذا من باب النظر في الانتقال من الحسن إلى الأحسن والنافع إلى الأنفع ولا فمنكر فضل الأزهر كمنكر نور الشمس في اليوم الصائف. وقد اقتضت الأحوال السابقة أن يكون التعليم على تلك الصورة وكانت أحسن ما يتخذ ويتبع أما وقد وصلت الأفكار على اتخاذ طرق أسهل وأقرب وأنفع للطالب فلم يبق إلا عرضها على الحضرة الخديوية الفخيمة والوزراء الكرام والعلماء الإعلام حتى إذا وقعت موقع القبول جرى العمل عليها أو إذا احتاجت لتنقيح أو زيادة أو حذف كانت أنموذجاً للنظر وأعمال الأفكار. أولا يلزم أن توزع طلبة الأزهر على المدارس المخصصة لطلب العلم كمدرسة السلطان حسن وشيخون وقلاوون ومحمد بك وكمساجد المؤيد وسيدنا الحسين والسيدة زينب والأشرف والغوري وغيرها مما يناسب وضع الطلبة فيه فإنه يوجد كثير من المدارس لها أوقاف حية تستغل ولكونها خالية من العلماء والمتعلمين لم يصرف من غلتها شيء على أهل الأزهر لمخالفة ذلك لشرط الواقف بل بقيت في خزينة الأوقاف فلو استعملت هذه المدارس كان أهلها ريع ينفق عليهم وعلى معلميهم فيعينهم على الطلب فضلاً عن دفع الضرر الصحي ثانياً. أن يجعل الأزهر مدرسة عليا لا يدخلها إلى من قضى ست سنين في المدارس التأهيلية فيتم علوم التفسير والحديث والأصول فيه. ثالثاً. أن ينظر إلى العلماء وقواهم في العلوم فيخصص لكل فن أو فنين علماء معينون
ويحجر عليهم التدريس في غير ما خصصوا له من العلوم ليتقن العالم الفن ويحرر مطالبه ويحل مشكلاته بانقطاعه إليه فينتفع وينفع الطالب لتمكنه من الفن بإحسان النظر فيه وعدم تشتيت الفكر في غيره. رابعاً. أن تخصص الكتب اللازمة في كل فن مدة الطلب وتعين للطالب وتقدر دروساً ويلزم الشيخ أن يقرأ الدرس المقدر من غير أن يزيد عليه أو ينقص منه خامساً. أن تقدر أيام البطالة وأيام العمل بحيث لا تزيد أيام البطالة عن مائة وخمسين يوماً في السنة وبقية الأيام يشغلها الطالب بالتعلم فلو فرضنا أنه يأخذ في السنة مائتي درس وكانت المدة المقدرة له عشر سنين لأخذ فيها ألفي درس وهذا لا يحصله
الآن في عشرين سنة. سادساً. يضرب للطالب أجل تعليم عشر سنين يقضي منها ستة في المدارس التأهيلية الخارجة عن الأزهر والأربع الأخيرة يقضيها في الأزهر لتلقي العلوم العالية كالتوحيد والتفسير والحديث والأصول والكتب التي يختم بها المذهب. سابعاً. يحجر على الأشياخ قراءة الحواشي ويلزمون بقراءة الشروح فقط لمنع تشتيت ذهن الطالب. ثامناً. ترتب العلوم التي يأخذها الطالب بحيث لا يجوز للشيخ أن يقرأ علوم السنة الثانية لمن هو في الأولى وبالعكس ولا يجوز له أن ينقطع عن قراءة فن ويقرأ غيره في غير الوقت المعين له. . تاسعاً: يتخذه سماحة شيخ الجامع مفتشين على الطلبة والمشايخ بحيث يفتشون أوراقهم ويكتشفون أحوالهم وأخلاقهم ويبحثون معهم فيما أخذوه ويلاحظون أماكن نومهم وملابسهم وسيرتهم مع الناس ويقدمون كشفاً لشيخ إلا كبر بما يرونه عاشراً. لا يقبل في هذه المدارس إلا من حفظ القرآن الشريف وجوده وحفظ
المتون اللازمة للسنين الست فإنه يحفظ القرآن ليتسع ذهنه ويستعين به على البلاغة ويحفظ المتون يسهل عليه الفهم والتعلم وتبق القواعد راسخة في ذهنه وأما الطالب الذي لا يحفظ القرآن ولا المتون فقل أن ينجح
(11)
أن تمتحن تلامذة كل مدرسة في آخر السنة وتعطى لهم شهادات بدرجاتهم التي وصلوا إليها كشهادات المدارس الأميرية طلباً لتنشيطهم وحثهم على التقدم (12) أن يخصص طبيب أو طبيبان للكشف عن الطلبة وقتاً بعد وقت ومعالجة المصاب منهم في مستشفى يخصص بهم وتكون نفقة المستشفى والمرضى والصيدلية من الأوقاف الخيرية التي لم تقيد بقيد (13) على كل شيخ أن يبعث بياناً كل أسبوع لشيخ الجامع يتضمن أسماء الذين واظبوا طول الأسبوع والذين انقطعوا أياماً منه ليقطع جرايتهم في أيام الانقطاع وينقص من درجاتهم بقدر ما فاتهم من الدرس (14) إذا أمضى الطالب عشر سنين ولم يتحصل على الدرجة المطلوبة لدخوله في فريق المدرسين يرفت من الطلب وتقطع جرايته ومرتباته فإن رغب الاستمرار على نفقة نفسه بعد ذلك فهو حر فيما يشاء وذلك؟؟؟؟ الكسالى على الطلب والاجتهاد في التعلم فإن الكسلان إذا علم أن جرايته مستمرة اجتهد وإلا بقى على كسله سنين قانعاً بالجراية وفي ذلك من ضياعه وضياع الجراية ما لا يخفى (15) إذا دخل الطالب في السنة الثالثة اتخذ له الشيخ يوم الخميس للتمرين على الخطابة
بحيث يكلفه أولاً أن يكتب خطبة في موضوع يعينه له ثم لا يزال ينقله شيئاً فشيئاً حتى يخطب ارتجالاً على القواعد الصحيحة وبهذه الطريقة يمكنه أن لا يتقيد بدواوين الخطباء ويخطب في الناس بما يناسب الزمان والمكان.
(16)
لا تعطى شهادة التدريس لمن لم يقم عشر سنين في هذه المدارس ومن أراد أن يعيد الكتب مرة ثانية بعد مضي تلك المدة يكتب له ذلك في شهادته (17) بامتحان الطالب بعد مضي المدة ينظر للعلم الذي أتقنه أكثر من غيره ويكتب في شهادته أنه من مدرسي فن كذا وكذا بحيث لا يرخص له شيخ بغير الكتب التي قرأها وأما ما جرت به العادة من إجازة الطالب بكل مرويات الشيخ ومؤلفاته وأن لم يرها فلا يرجع إليه ولا يليق أن يأذن به عالم بعد علمه أن من يجيزه ربما لم تكن فيه أهلية لفهم تلك المرويات فضلاً عن قراءتها والطامة الكبرى أن الرجل يلقي الشيخ من المشايخ ويجلس معه ساعة فيجيزه بكل ما أجازه به شيخه وهي طريقة سيئة جداً إذا يلزم أن لا يأذن الشيخ إلا بفن مخصوص امتحن الرجل فيه وعلم أنه أحاط بأصوله وفروعه إحاطة فهم وتدقيق (18) يرتب ديوان الأوقاف لكل مدرسة جملة من الجرائد العلمية والسياسية لاشتغال الطلبة بها وقت الفراغ من الدروس ويكون معهم من له إلمام بالأحوال فيفهمهم ما يغيب عنهم من الأحوال التي لا تعلق لهم بها ليحيطوا علماً بما عليه الدول وما هو حاصل في بلادهم توسيعاً لملكهم وتمريناً لهم على السياسيات التي يسوقهم العلم للدخول فيها عند توليتهم الوظائف (19) يدخل في قانون الدراسة علم الهندسة والحساب وتقويم البلدان (الجغرافية) والهيئة والحقوق والتاريخ واللغة العربية فيستأجر الأوقاف معلمين للعلوم التي لا يقرها العلماء كالهندسة والحقوق حتى يتأهل أناس من الطلبة للقيام بتدريسها فيستغنى الحال عن غير الأزهريين (20) يعين ديوان الأوقاف لكل مدرسة خطاطاً أو خطاطين
لتعليم الطلبة الخط الحسن وعلى الشيخ أن يعطي الطلبة كل يوم إملاء جملة طويلة ويراجع كتابتهم ويصحح أغاليطهم ليتعودوا على الكتابة الصحيحة ويتقدموا في الإنشاء (21) يمنع الطالب من التنقل من شيخ لآخر قبل مضي السنة كما يمنع من حضور علم لم يعين له في السنة التي هو فيها لمنع تشتيت ذهنه وضياع وقته (22) على سماحة شيخ الجامع أن يجعل فرعاً للأزهر المنيف في كل عاصمة مديرية فيعين أشياخاً لقراءة علوم مخصوصة لمن يتعذر عليهم الانتقال من
بلادهم وعلى الأوقاف أن ترتب لهؤلاء المنتقلين للتعليم ما يفي بمؤنهم توسيعاً لدائرة العلم ونشراً للمعارف في البلاد (23) كل من أراد الدخول في الطلبة يقدم طلباً لشيخ الجامع وبعد الكشف عليه من الطبيب المعين إذا ظهر أنه خال من الأمراض المعدية وبلغ الثانية عشر من سنة يمتحن في القرآن العزيز والمنون ثم يحال على مدرسة من المدارس التأهيلية (24) لا يقيم بالأزهر من العلماء الأرجال الطبقة العليا الذين تفردوا بالتبحر في العلوم ولهم اقتدار على قراءة كتب التفسير والحديث والأصول والحكميات التي يدعوا إليها علم الكلام.
هذه أفكار وآمال نعرضها على أولي الأمر والسادة العلماء رجاء الوصول بعدها إلى انتشار القلم والتزام الطرق السهلة لتعليمه وليس بعزيز على الحكومة العباسية أن توجه العناية إلى تنظيم هذه المدرسة وترتيب الطلبة على هذا الأسلوب أو أحسن منه ووضع هذه العصابة الشريفة تحت قانون نظامي ومساعدتهم بصرف ما يلزم لهذا العمل المبرور. وإذا كانت الحكومة تصرف لمعلمي اللغات الأجنبية وبعض العلوم الرياضية والطبيعية الخمسين جنيهاً
والمائة راتباً لشخص واحد فماذا عليها لو خصصت للأزهر ودوائره مبلغاً تساعد به الأوقاف فإن تعليم علمائه عائدة منفعته إلى الحكومة فمن الطلبة يخرج القضاة ونواب البلاد والمفتون وطلبة دار العلوم وهؤلاء كلهم تابعون لإدارة الحكومة لا لإدارة الأزهر فالأزهر مدرسة من المدارس التي يجب أن تنفق عليها الحكومة لعود المنفعة إليها غاية ما في الباب أنه مستقل بإدارته تحت رياسة شيخه لا تعلق له بالمعارف ولا سلطة للمعارف عليه ولكن ذلك لم يخرجه عن رعاية الحكومة ومسؤليتها عنه مساعدة وتنظيماً. إنما قلنا يجب على الحكومة أن تنفق عليه لأن به كثيراً من المدرسين الفقراء الذين يستعينون على معاشهم بالسهر في الليالي القرآنية وقد حتمنا عليهم قراءة دروس معدودة في أوقات محدودة فمنعناهم من السهر الموجب لتخلفهم عن القراءة فلزمتنا نفقتهم بمساعدة الأوقاف على ما تعطيه لهم ليقوم المجموع بمؤنتهم والذي يظهر أن هذه الطرق توصل الطالب إلى النجاح ويكثر بها عامل العلم وتتنفع الحكومة بمن يتخرجون على هذه الطرق أكثر من انتفاعها بمن تخرجوا على الطرق القديمة. وعسى أن تحل هذه الآمال لمحل القبول فنرى القول مشفوعاً بالعمل وإن أبى الناس إلا بقاءهم على ما هم عليه تركناهم وما يريدون وعدنا إلى
ديوان المعارف لنبسط الكلام عليه فإنه أشد احتياجاً لبيان ما فيه وأن كانت آلات التعليم فيه متوفرة والنظام على أحسن ما يكون ولكن فيه من الدخيل ما أوجب خلل بعض مدارسه أو دروسه والصمت على ذلك ضياع للعلماء والتعليم.