الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 8
- بتاريخ: 11 - 10 - 1892
اللغة والإنشاء
وما المرءُ إلاّ قوله وفعاله
…
وباقيه حظ للتراب إذا ماتا
اختلفت عبارة العلماء في اللغة إن كانت توفيقية أو اصطلاحية ولسنا بصدد هذا البحث فقد سبقنا إليه ألوف من العلماء وأفعمت الكتب بأقوالهم وبراهين كل فريق. ولا نتكلم كذلك على اللغات المتداولة بين الناس البالغة أكثر من ثمانمائة لغة غير فروعها وإنما نتكلم على لغتنا العربية الشريفة التي يتكلم بها الآن أكثر من مائة مليون من الناس ويسعة كثير من الناس المحبين للغاتهم أو لذتهم في إناتة هذه اللغة وتحويل الألسنة عن التكلم بها إلى التكلم بغيرها لنفقد بفقدها المجد والشرف معاً. معلوم أن العرب تكلموا بلغات شتى ولهجة عربية وبقيت لغاتهم مستعملة في قبائلهم إلى أن جاء الإسلام على يد أبي الفصاحة والبلاغة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وجمع القبائل وألّف بين العشائر واختلط العرب بعضهم ببعض وتناولوا لغاتهم فيما
بينهم وكان الغالب على الألسنة لغة قريش فأفرغ كثري من لغاتهم إلى هذه اللغة بالمخالطة والمجاورة والمعاملة والمشاركة في الأعمال الاجتماعية والمجامع الكلامية حتى توحدت اللغة وصار لا يشذ عنها إلا بعض أحياء من اللازمين للعراء أو التائهين في القفاز. فلو تكلمت بعبارة طويلة أمام خبير باللغة لقال لك هذه الكلمة أصلها لتميم وهذه لطي وهذه لهذيل وهذه لجدهم وهذه لحمير وهذه لعذرة وهذه لثقيف وهذه للأزد وهذه لمذحج وهذه لكذا حتى يريك اللغات التي تغلبت عليها اللغة المصرية القرشية وصيرتها من مفرداتها ثم بنتقل العرب للتجارة بين اليمن والعراق ومصر والشام والعجم والروم جرى على ألسنتهم كثير من لغات تلك الجهات وعربوها باصطلاحهم حتى صارت كلمات عربية. وبهذا اتسعت اللغة العربية اتساعاً عظيماً بادئ بدء ولما انتشر الإسلام في العالم ودعت الحاجة إلى استعمال أشياء كثيرة لم تكن العرب تستعملها وتنوقلت أسماؤها عن أهلها وضمت إلى اللغة الأصلية اتسعت اللغة اتساعاً غريباً وكثرت موادها وعز على آحاد الأمة أن يحفظوا كل ما هو من اللغة وبدخول غير العرب في الإسلام وتلقيهم اللغة عنهم قصرت همتهم في درك جميع اللغة وحفظها فصار العالم باللغة إذا تكلم بين المستعربين احتاجوا إلى مترجم يترجم عبارته. كل هذا وألفاظ اللغة صحيحة وعبارات الناس فصيحة فلما عز على المستعربين النطق بكثير من الألفاظ التي لم تساعدهم فطرتهم على النطق بها حرفوها بقدر ما يسهل عليهم لأداء المطلوب بها ولكثرة الداخلين في
الإسلام غير الغرب كثر التحريف واستبدال بعض الحروف ببعض مما يساعد على النطق بها تعود المتكلم عليها في لغته حتى
تولدت لغة لا هي عربية ولا هي عجمية وسميت باللغة العامية ولضرورة اختلاط العرب بالمستعمرين وتوحيد المعاملة بينهم تناقلوا عنهم بعض كلمات محرفة أو مصحفة أو تغير بعض حروفها وبتوالي الفتح والاختلال ومزاحمة اللغات للغة العربية وأخذ العرب ما ليس من لغتهم بضرورة الاجتماع المدني كادت اللغة أن تفقد وتذهب شذر مذر فقام لحفظها وتدوينها أناس خصصوا أنفسهم لخدمة هذه اللغة الشريفة وكتبوا فيها الكتب الكثيرة وأفردوا بعضها بكتب فمنهم من كتب في الأفعال ومنهم من كتب في الأسماء ومنهم من كتب في الأضداد ومنهم من كتب في الاشتقاق ومنهم من كتب في أوصاف الخيل ومنهم من كتب في المترادفات ومنهم من كتب في أصل اللغات ومنهم من كتب في الدخيل ومنهم من كتب في الفصيح ومنهم من كتب في الصحيح ومنهم من كتب في الشعر الجاهلي ومنهم من كتب على أمثال ومنهم من كتب على لغة القرآن ومنهم من كتب على لغة الحديث ومنهم من كتب في طرق الرواية ومنهم من كتب في رسوم الخط ومنهم من كتب في قرآات القرآن حتى حيطت اللغة وكتابتها بالحصون المانعة من سقوطها ولا نحصى المؤلفين فيها وإنما نخص بالذكر من اشتهروا وتداولت كتبهم كالجوهري فإنه جمع في صحاصه أربعين ألف مادة والمجد الفيروز بادي فإنه جمع ستين ألاف مادة وابن منظور الأفريقي فإنه جمع ثمانين ألف مادة ولا أدري كم جمع محمد ابن الحسين الزاغولي في كتابه قيد الأوابد فإنه أربعمائة مجلد في التفسير والحديث والفقه واللغة وقد خص اللغة منها حكاية مجلد فصدق قول المجد أن لغة الغرب ذهبت شماطيط أي متفرقة شيئاً فشيئاً ولما كان حفظ المفردات
لا يمكن من النطق بها على طريقة العرب الأولى سعى إمام المؤمنين سيدنا علي أبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه في وضع قواعد تحفظ اللسان من الخطأ وكتب مقدمة لهذا العلم فدخل عليه أبو الأسود فوجد في يده رقعة فقال له ما هذه يا أمير المؤمنين قال إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم فأدرت أن أضع شيئاًَ يرجعون إليه ويعتمدون عليه ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنباء عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى وقال له انح هذا النحو و؟ أضف إليه ما وقع إليك
وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمرو واردا بذلك الاسم المبهم ثم وضع أبو الأسود أبواب العطف والنعت والتعجب والاستفهام وأن وأخوتها وصار كلما وضع باباً عرضه على إمام رضيا لله تعالى عنه وكرم وجهه حتى أتمك الأبواب فقال له ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت فلذلك سمي النحو وسبب وضع الإمام إنه سمع رجلاً يقرأ. لا يأكله إلا الخاطئين، وهي إلا الخاطئون فوضع النحو وتصدر أبو الأسود تلميذ الإمام لإقرائه فأخذ عنه عنبسة بن معدان الشهير الأقرن ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج (دفين أسكندرية بجامع أبي سن بسكة رأس التين على يسار الذاهب إليها) ويحيى بن يعمر العدواني ثم جاء بعدهم الخضرمي وأبو عمرو بن العلا فكان البحر الزاخر في القراءة واللغة والنحو وهو القائل ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ثم شيبان التميمي ثم هارون بن موسى وحماد الراوية والقطامي والفراء
وقطرب والأخفش والضبي وسيبويه والكساءي والأصمعي وأبو زيد وأبو عبيد والجرمي وابن الأعرابي والأثرم وسلمة بن عاصم وعمارة بن عقيل والجاحظ وابن حمدويه والرياشي والزيادي والمبرد وثعلب وابن السكيت والزجاج وابن دريد والصولي ودرستويه والسيرافي وابن خالويه والرماني وابن الحاجب والمعري وابن شيطا والجرجاني والحريري والضحاك والزمخشري والميداني والأصفهاني وغيرهم ممن لا يحصون كثرة فاشتغلوا بالنحو واللغة وألفوا في العلمين كتباً كثيرة ثم انتهى الأمر بإنشاء مدرستي البصرة والكوفة وتصدى رجال كل مدرسة لتحقيق العلوم الآلية والشرعية ووقع الخلاف بينهم في كثير من القواعد فظهر من اجتهادهم علماء أفاضل أجلاء وكتب كثيرة في فنون عديدة وانتشر عنهم من العلوم ما استنار به أهل تلك العصور الأولى وعنهم وصل إلينا ما وصل. وقد انتهت بهم المناظرة ومبادلة الأفكار إلى تدوين علم التفسير والسنة والرواية والدراية والجدل والمناظرة والفقه وأصول الدين والعقائد واللغة والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي والتاريخ وتقويم البلدان (الجغرافيا) والمنطق والهيئة والفراسة والحساب والسياسية وخصائص الأقاليم والملل والنحل والقرآات والرسم وطرق اختلاف الرواة والمصطلح والوضع وأنساب العرب وغريب اللغة وطبقات الشعراء
والمفسرين والمحدثين والفقهاء والنحويين وجعلوا هذا كله مادة للإنشاء وأوجبوا على المنشئ معرفة طرف من الطب والتشريح والبيطرة والبزدرة والهندسة والحرب والنجوم والأوزان والمقاييس والمكاييل وعلم الآلات والصناعة والفلاحة والملاحة واصطلاحات أهل الشعوذة والسحر
والطلمسات والسيمياء وغير ذلك مما يستدعيه مقام الإنشاء الذي هو مقام الفصاحة والبلاغة والوعظ والزجر والأمر والنهي والحل والعقد والعزل والتنصيب والعقوبة والعفو والحرب والسلم والخداع والإرهاب والتهديد والاستعطاف والفخر بل هو مقام الملوكية لترجمة المنشئ مطوية سلطانه بلسان قلمه وبهذه المواد والاشتغال بها ارتقى الإنشاء إلى أعلى ذروة التقدم ونبغ في الشرق الوفد من الكتاب المضلعين من العلوم وكان مقام الإنشاء أرقى مقام في دار الخلافة فلا ينتخب للوزارة إلا كاتب عالم بأساليب الكتابة وفنون الإنشاء وضروب التعبير فسمي الوزير أولاً كاتباً ثم صاحباً ثم وزيراً.
وبقدر اجتهاد أهل المشرق في هذه الفنون كان اجتهاد الأفريقيين في المغرب بل أنهم اجتهدوا في الإنشاء والشعر حتى كأنهم هم الواضعون لهما إذ كانوا يتصرفون في الإنشاء تصرفاً غريباً ويكتبون فيه الرسائل البديعة والأوامر المريعة والنواهي الخالعة للقلوب والاستعطافات المؤلفة بين المتخاصمين والرقائق التي تستميل الطباع الصلبة وتحرك الجبلة الساكنة وتستميل النفوس العاتية فكانت المسابقة بين الغرب والشرق في ميدان ركضت فيه فرسان البلاغة على جياد الفصاحة فأدركوا المضمار وهم على ظهور العز والسيادة ولا يخفى أن الخلفاء والملوك كانوا مستقلين بآرائهم في الأمم فكان يلزمهم اتخاذ الوزراء المحيطين بهذه العلوم ليستمدوا من أفكارهم ما به قوام الأمة ونظام الملك وهذا الذي دعا المتقدمين إلى الجد في طلب العلوم وسهر الليالي الطوال في حفظ القواعد والتضلع من الآداب والتواريخ وتقويم البلدان
وتدبير المدينة والمنزل والأخلاق تطلعاً للترقي إلى الرتب العالية والمناصب الرفيعة وكان الخلفاء والملوك ناظرين لفريق الكتابة بنظر العناية فكانوا يولونهم الأعمال الجليلة وينيطون بهم الوظائف المهمة ويرتبون لهم الرواتب الكثيرة تكثيراً لعدد الكتاب وتنشيطاً للمتعلمين ولما انتهى الدور الأول وأراد الله تعالى رجوع اللغة والإنشاء القهقري كثرت الثوار والمتغلبون وامتدت الحروب متواصلة في داخلية الشرق وخارجيته وانتهى كل متغلب بقتل العلماء وإبادة الكتب حتى كأن للواحد
منهم عند العلم ثاراً يطلبه من أهله فوقفت الحركة العلمية وأقفلت الخزن على ما فيها وانتهى الأمر بخراب بغداد والبصرة والكوفة وتخريب مدارسها وتشريد علمائها الباقين ونهب الكتب فلم يبق في الشرق مدرسة تحفظ فيها العلوم العربية إلا الأزهر الشريف فرحل إليه الناس من سائر الأجناس وقصدوه للتعلم والاستفادة قروناً ولضعف الهمم عن الطلب بطلت منه دروس كثير من العلوم الرياضية ثم انتهى الأمر بالاقتصار على العلوم الآلية كالنحو والبيان والمنطق ثم العلوم الشرعية وهي التفسير والحديث والفقه والعقائد. وبهذا التقهقر صار الكتاب القائمون بإدارة أعمال الحكومة قسماً من العوام غاية الأمر أنك لو قلت له أكتب كلمة كاتب مثلاًَ كتبها فإن قلت له أنشء لي كتاباً في موضوع كذا ذهب إلى الكتب المؤلفة في الرسائل وأخذ منها رسالة وزاد فيها بعض كلمات دالة على المقصود وكلامه العادي ككتابته وربما كانت عبارته العامية أفصح من عبارته في كتابته. وبهذا التقهقر الشنيع رأينا رئيس الكتاب الجليل من يكتب هكذا.
وردت أفادتكم بتاريخ نمرة وما بها صار معلوم والحال أنه ولو كان لازم النظر في التأثير الذي في هذه الخصوص ولم كان لازم التشبث بهذا الكيفية وحيث الأمر كذلك فالمصلحة لم أخذت حقوقها وأن يكون حاصل في الترتيب خلل فلازم يفادنا عما ترأى وبوقته أجرون مفعول ذلك بالدقة الكافية والحذر من التأخير وهذا إنشاء بالهذيان أشبه.
وكان استعمال اللغة التركية في المخابرات الرسمية من أسباب تقهقر اللغة العربية فإن الدولة العثمانية مدت سطوتها على جميع البلاد العربية ورتبت الدواوين ووظفت فيها الترك فاضطر الأهالي لتعلم اللغة التركية لقضاء أشغالهم عند الحكام بها مخاطبة وكتابة ولم يحصل التفات في المدة السابقة لفتح مدرسة كبرى أو مدارس أولية لتعليم اللغة العربية بل كان الناس يتلقفونها من أفواه آبائهم وأهليهم ولم يبق على الطريقة العربية في مخاطباته إلا الغرب ولذا بقيت فيه اللغة حية ولولا وجود الأزهر بمصر لعدمت اللغة العربية في تلك الفترة وقد أدرك المرحوم محمد علي باشا مصر واللغة في آخر رمق الحياة والمستعمل بين الكتاب عبارات اصطلاحية مستهجنة بخطوط تشبه الرموز والرسم فاقد بينهم ولم يبق من كتب عبارة صحيحة إلا النبهاء والعلماء من أهل الأزهر فاجتهد في تنظيم الأوقاف التي يحفظ إيرادها انتظم الأزهر وهرع إليه الناس من جميع الأقطار حتى عمر بالطلاب
وعيدت إليه دروس في علوم كانت ماتت وتركت الناس طلبها ثم قرب إليه العلماء وخلع عليهم الخلع وأخذ يلاطفهم ويعاملهم معاملة التكريم إظهاراً لشرف العلم وأهله حتى عشقا لناس الأزهر وتهافتوا على طلب العلم فيه ثم أعفى أهله من الجهادية ففر إليه كثير من أبناء الفلاحين
والعمد ليتخذوا العلم حماية وبهذا نبغ ألوف من المسلمين في الأزهر وانتشروا في البلاد. ثم فتح المدارس وحشد إليها الكثير من أبناء المصريين واستحضر إليهم المعلمين والمؤدبين حتى عشق الناس المعارف وأخذت أماكن التدريس تعظم وتتعدد إلى أن فتحت المدارس في المدن والأرياف وتزاحم الناس بأبنائهم على أبوابها فتربى فيها جانب عظيم من المصريين وانتشرت اللغة بعد انزوائها وتقدمت بعد تأخرها. ثم لما تركت الأفلام التركية وصارت المحررات الرسمية كلها عربية تقدمت اللغة تقدماً غريباً ونبغ ألوف من المتعلمين في الأزهر والمدارس حتى صار يوجد أمامنا عدد كبير من المنشئين والمحررين الذين أضافوا إلى علوم المتقدمين محسنات المتأخرين ومبتكراتهم ومخترعاتهم فترقى الإنشاء وعلقت بأفكار الأمة شرارة حب العلوم والكتابة فكل من نراعهم في الإدارات الآن من القضاة والكتاب والمأمورين والمديرين والمعاونين من العرب والترك والجركس والأرنؤد والأقباط إنما هم أبناء المدارس المصرية وتربية الأساتذة الوطنيين من أهل الأزهر والمعارف. وأكبر مساعد على تقدم هؤلاء المنشئين والفضلاء كون الكتب التي يقرؤونها بلغتهم العربية فاتسعت بها ملكات الطلبة وتربت لهم مخيلة المبتكرات العربية بما رسخ في أذهانهم من أصول اللغة وقواعد الفنون. ولتقدم أهل الأزهر على أهل المدارس في الإنشاء سبب واحد هو حفظ الأزهريين للقرآن الكريم في الصغر فذهن الواحد منهم محشو بمادة البلاغة وقاموس الفصاحة وأبدع أسلوب إنشائي وقف الفصحاء والبلغاء بين يديه وقد ألقموا حجارة في معارضته فلما بلغ بليغ أدنى مرتبة من مراتب الإنشاء في جانبه ولا أفصح فصيح عن معنى بديع يضارع به ركناً من أركان البلاغة التي
صحبته من الفاتحة إلى الختام.
ولا يرجع باللغة القهقري ثانياً إلا أمران الأول كثرة استراق الكلمات الأجنبية واستعملاها في مخاطباتنا الكتابية والخطابية فقد قال سيدنا علي لأبي الأسود أني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم. وقال له زياد بن أبيه يا أبا الأسود أن
هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من السن العرب فلو وضعت لهم أشياء يقيمون به كلامهم فكلام الإمام وزياد أكبر حجة على أن الدخيل من لغة الغير مفسد للغة محول لأهلها عن طباعهم ومألوفهم إلى طباع أهل اللغة التي ينتقلون إليها ومألوفاتهم وقد بلينا بالنقل عمن خالطناهم حتى كثر الدخيل في كلامنا الدارج والرسمي فترى الواحد يكتب الكتاب يقول فيه.
في 17 ديسمبر سنة 72، بناء على الكونتراتو المأخوذ بفرمتكم بعقد اتفاق بينكم وبين بنك الخواجات فلان بشحن الوابورات تعلق القومبانية الشرقية عند وقوفها بالمرلص ورمي الهلب وتفريغ شحنها باتفاقكم مع القومندان عند ما يتراكب على الجمرك يلزم أن تقدموا الدبوزيتو اللازمة بإدارة الفنارات للمعاملة بموجبها ـ ويقول العامي في خطابه مثله ـ توجهت اليوم للدكتور وأعطيته وزيته فأعطاني ريشته للفرمشية بقطرة لودنم وزجاجة جلسرين وثلاث حباب من حبوب هوت وأمر لي بصبغة يود للدهان وبالتعاطي وجدت الرمد تلطف والروماتزم خف وهو اليوم يريد أن يعطيني يودور الحديد ويغير اللودنم بالنترات وأنا الآن شايف أني ماشي على التل توار وواقف أمامي رجل ببنطلون وجكيته وجزمة وبرنيطة وفي
يده رفلفر وجوانتي وفي رقبته كرفيت أسود ومستند على بسطونة والعربية المارة فيها واجحد باش ينيشان وخلفه حنتور فيه مدام أفرنجية وبعدها فيتون كرباجه بيد البك والقمشجي قاعد خلفه وهم ذاهبون لجهة البوسطة مارين بجهة التلغراف والتلفون أمام اللوكاندة تعلق انطون المجاورة لهوتيل شبرد المحازي للنيوهوتيل ولما كنت واقفاً معك عند الجران بار مر علينا موسيو علي والمنشير مصطفى ومعهم الدركتير حسن راكبين لاندوه ووراءهم المستر وليم في دوكار. فالحمد لله الخستكة خفت من يوم عملت البهريز وربنا يشفي.
فهذه كلمات متداولة بين الخاص والعام تقهقرت بها اللغة تقهقراً عظيماً والسبب الثاني الموجب ملون اللغة نقل اصطلاحات العلوم أولاً إلى اللغات الأجنبية ثم نقل التدريس من اللغة العربية إلى أية لغة أجنبية فمتى حصل هذا في أية أمة فقد فقدت لغتها وتبعها الدين والتاريخ الوطني فإن اللغة مرتبطة بالدين ارتباط الروح بالجسد والمرء يعقل اللغة برسولين رسول لسمع ورسول البصر فالسمع متى امتلأ بالكلمات الأجنبية فقد ملأ المخ بها
ونزع منه قدرها من اللغة الأصلية بدليل المسموع الآن من العوام مما دخل بطريق السمع حتى صار كأنه من اللغة الأصلية. والنظر متى رأى الجرائد والكتب ممتلئة بالكلمات الأجنبية لوصلها إلى الذهن أيضاً فيحوله إلى ما طرأ فيه.
وأما نشر فصل في جريدة كالأستاذ باللغة العامية فإنه لا يؤثر هذا التأثير لأنه عبارة عن حكاية حال متكلم بلغته العادية لأنه شيء طارئ على السمع والبصر إلا ترى أن العلماء والأساتذة عند تدريسهم العلوم يعبرون عن القاعدة النحوية باللغة العامية في غالب الأحيان وكذلك بقية العلوم ولا يؤثر
ذلك في ذهن السامع لكونه لغته المعتادة. فالذي يضرنا من طريق اللغة العامية نقل كتب العلوم إليها والاقتصار عليها في التكلم والتعليم والكتابة فهذا محو للغة من أصلها ونعوذ بالله تعالى من ذلك.
فعلى القائمين بأمر الأمم الشرقية أن يحولوا بين اللغة وموتها بأحداث جمعية من علماء الأزهر وأفاضل المدارس الذين جمعوا بين لغتهم العربية أو التركية وبين اللغات الأجنبية ليضعوا للاصطلاحات الطبية والكيماوية والهندسية ومفردات الكلام أسماء عربية بها تدرس تلك العلوم فأننا لو جئنا الآن بكيماوي تعلم الكيمياء بالاصطلاح الأفرنكي وقلنا له ما الذي حصلته في هذه السنة وقال تحصلت على معرفة أزوتات الكلس والاسترونسيان والباريت، والليتين، والصود، والزئبق، وبي أوكسيد البلاتين، والبالاديوم، والسيريوم، والتيتان، والبيزموت، والرصاص، والفضة، والمغنيسيا، والأولومين، والأيتريا، والميتيلين ويمككنني أن استحضر التنين والكؤل، والايتير كبريتيك، والأيتيركلورايدريك، وايتيراوومتيك، وايتيرخليك، كما يمكنني استحضار المورفين، والبروسين، والاستنزكين، والأيمتين، وتحصلت أيضاً على استعمال الكهربائية، والفوسفور، واليود، والكلور، وأوكسيد البوتاسيوم، والياريت، والمركبات الأنتيمونية، والبلاسم، والبيكروتوكسين، والتريداس، والسالسين، والسولاتين، والكينو والويراترين، وكذلك حصلت على معرفة أكاسيد الأوسميوم، والأيريديوم، وأوكسيد الأيدروجين، والاسترونسيوم، والألومنيوم، والأوران، والايتريوم، والباريوم، والبلاديوم، والبلاتين، والبوتاسيوم، والبسموت، والتللور،
والتوبخستين، والتوريوم، والتيتان، والحلوسينيوم، والروديوم، وزيركونيوم، والسلينيوم، والسيربوم، والصوديوم، والفاناديوم، والكادميوم، والكربون، والكالسيوم، والكلور،
والكلومبيوم، والكوبالت، والليتيوم، والمغنيسيوم، والمولبدين، والنيكل، واليود، فهذه الأوكسيدات كلها وقفت عليها وحصلت كذلك على تحضير الأياتيد كلها فيمكنني أن استحضر ايتيرالاوكساليك، والأزوتيك، وبروم أيدريك، وجاويك وسيانوايدريك، وفتروبوريك، وموسفوريك، وكبريتكي، وكلورايدريك، ويودوايدريك، وتحصلت على معرفة بوارات البوتاس. والصود ومعرفة الأحماض بحيث أعرف حمض الأزوتيك، والأزوتي سيكونيك، والأوسميك، والاستريكينيك، والاستياريك، والأكوستيك والانتيمونوز، والانتيمونيك، والأمينيوتيك، والأوسميك، والأوشنيك، والألميك، والأوكساليدريك، والأيبوريك، والأيبوبيكروتوكسيك، والباراسيانوريك، والبروم ايدريك، زالبروميك، والبكتيك، والبوريك، والبوليك، وتحت أزوتوز، وتحت فوسفوروز، وتحت كبريتيك، والتنيك، والكلوروز، والتللوريك، والتنيك، والتوتيك، والتونجسنيك، والتيفانيك، والتيسيك، والجاويك، والسيباسيك، والسليسيك، والسلينيوز، والسلينيك، والسلين أيدريك، والسيانيك والسيانوريك، والسيانيليك، والسيانوايدريك، والسيواديك، والفتورايدريك، والفتوريوريك، والفتورسليسيك، والفرفوريك، والكبريتوز، والكاهنسيك، والفوسينيك، والكبريتيك، والكبريتوايدريك، والكيريتوالكوليك، والكبريتونفتاليك،
والكراميريك، والكبريونيك، والكلوراوكساليك، والكروتونيك، والكروكونيك، والكورايدريك، والكلوروز، والكلورسيانيك، والكلوستريك، والكومبيك، والكينيك، والكينوفيك، والكهربائيك، واللينيك، والماليك، والمنقنوز، والمنقنيزيك، والمولبديك، والميتاميكونيك، والناري كينك، والناري موسيك، والنيلوتيك، والورداتيك، واليهوديك فهذه الأحماص جميعها أتقنت معرفتها. وكذلك تحصلت على معرفة سليسات الكلس وسليسات المغنيسيا وسليسات الليتين والساسيوم، والسلينيور، والسلينيوم، والسنيكوتين، والسوسين، والسولانين، والسيانور، والسيتريوم، وتحصلت على معرفة الفوسفات كلها فاعرف فوسفات الاسترنسان والباريت والألومين، والمنقنيز، والباريت سيسكوى قاعدي، والبوتاس المتعادل، والرصاص، والصود المتعادل، والكويلت سيسكوى قاعدي وكذلك الكبريتات كلها ولا حاجة لبيانها والكربونات كلها وذكرها يطول. والكلورات كلها وصرت عالماً بكل ذلك فهل يحكم على هذا بشيء غير أنه صار يحكى أجنبياً محضاً لعدم معرفته لغته خصوصاً في فنه فلو فرض وكانت هذه الأسماء لا مقابل
لها فالجمعية العلمية تضع لها أسماء وجموعاً وما يلزم لتصريف الكلمة ومشتقاتها ولو سألنا الطبيب لأجابنا بأسماء أجنبية في فنه والمهندس كذلك وهذا باب أمانة اللغة وتحويلها إلى ما أفرغت إليها من اللغات. فهذا الذي نحث الأمة المصرية على مداركته وتوحيد التعليم لئلا يطلع الأبناء لا هم مصريون ولا أجانب ويكونون من هذا امتزاج العجيب لغة جديدة في العالم لا قاعدة لها ولا ضابط ويعز على الآتي بعدنا من أبناء المسلمين أن يعرف دينه أو كتابه
لاحتياجه إلى مترجم يترجم له العربية إذ ذاك. وقد وقع الشرق بأجمعه في هذا التيار فينحدر معه رجال الغرب الأفريقيين ورجال الشرق من مصر إلى الشام إلى سواحل العرب إلى العراق إلى الهند إلى الأستانة وأخذ كل ينقل عن الأوروبي بلسانه وتعبيره من غير نظر في العواقب الوخيمة والأمل عظيم في عناية السلطان الأعظم والخليفة الأكرم فقد وجه همته العلية الآن لفتح مكاتب ابتدائية في جميع القرى ليتعلم كل أهل قرية بلغتهم عربية كانت أو تركية ونود أن لو حصل تعليم أفراد من أبناء الترك والكرد والجركس باللغة العربية ليكونوا مؤهلين لولاية الأقضية والولايات العربية في الشام والعراق واليمن والحجاز فيسمعون من الخصوم شكواهم ومقضون بينهم بلغتهم دفعاً لتحريف المترجمين أو أخبارهم بغير الواقع تبعاً للغايات والذتيات فحياة اللغة العربية في بني الترك خصوصاً وفي بنيا لعرب عموماً حياة للدولة من طريق معنوي أما نحن معاشر المصريين فإننا واقفون بين أيدي سيدنا وأميرنا الخديوي الأفخم باسطين أكف الضراعة ملتمسين توجيه عنايته إلى لغة البلاد الرسمية لحفظ آثار أبيه وأجداده الكرام التي صرفوا في انتشارها تسعة عقود من السنين وما ذلك إلا حياكة اللغة والمحافظة عليها بفريق من العلماء ورجال المدارس ونشر ما يقررونه أولاً فأولاً وإلزام التلامذة والمجاورين بالأخذ به واستعماله وتدريس العلوم بها في جميع مجامع التعليم وتعيين فريق من حفظة اللغات لترجمة الكتب التي تلزم التلميذ حتى يتأهل للأخذ من الكتب الأجنبية بعد إتقانه لغته وتمكنه منهل ولا نعدم من فخامته حسن توجه به تحيا هذه اللغة حياة أبدية فيجدد تاريخ مصر بل تاريخ العرب أجمع بعنايته وحسن