الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب الحرب
بقلم الأديب المجيد محمد رفيق بك العظم الدمشقي
أسباب الحرب هي بواعثها الجوهرية وتنحصر في أمرين الأول مجرد حب التغلب والثاني العداوة السابقة أما حب التغلب الذي هو ثمرة الطمع فإنه ملكة تدفع صاحبا إلى استجلاب المنفعة إلهي بالخروج عن دائرة السكون إلى براح الحركة طلباً للمزيد على ما لديه من القوة والسلطان والممالك والبلدان كما هو شأن المجتمع الدولي المنتظم من هيئة الدول العظام بخلاف الشعوب المتبربرة والأمم المتوحشة ممن يؤثرون الرحلة على المقام فإنما منفعتهم عبارة عن مجرد السلب والنهب اللذين هما مادة ارتزاق أولئك الأقوام. ويحسن أن نسمي الحرب الناشئة عن هذا السبب حرباً مجردة.
وأما العداوة السابقة فهي أما أن تكون ناشئة عن تعدٍ قديم يوجب إيغار الصدور حتى إذا جاء ألقت المناسب للانتقام وأمكنت الفرصة استحال السكون إلى حركة تضطر للتألب سعياً وراء الأخذ بالثأر واسترجاعاً للحق المغصب أو الشرف المسلوب فإن الإنسان مطبوع على إباء الضيم والأنفة من اهتضام الحقوق ومن هنا نشأت المخاصمات والمنازعات التي كانت علة لوضع القوانين بين الناس. وأما أن تكون منبعثة عن حب الرآسة والرغبة في الاستئثار بالمنفعة مما لا مصدر له إلا الحسد الذميم الذي يتولد في عناصر الأمم فيدعو إلى البغضاء ويبعث على الشحناء ويهيج النفوس لحب إزالة النعم ويناسب أن تلقب الحرب المنبعثة عن هذا السبب حرباً غير مجردة.
فهذه هي أسباب الحروب المستمرة التي فطر الإنسان على إثارتها فجرّ
على أبناء نوعه بها الهلاك ودوام الارتباك فليته لم يكن شيئاً مذكورا.
ولما كانت الأمة المحاربة لا تَقدم على الحرب إلا إذا تيقنت من نفسها الفوز والغلبة على عدوّها كان لابد لها من قوة تستند عليها وتعوّل في نوال النصرة عليها. وتلك القوة تختلف باختلاف الدول والأمم فإنها أربعة أقسام قوة المال وقوة الرجال وقوة الموقع الجغرافي وقوة المركز السياسي.
فقوّة المال مرجعها تقدم الأمة في التجارة والصناعة والزراعة وما يتبع ذلك من العلوم والفنون التي عليها مجار التقدم في الثروة والغنى. وقوّة الرجال مرجعها عمارة البلدان
واتساعها ووفرة السكان وانتظام الجند وصبرهم على تحمل مشاق الحروب ودُرْبة القوّاد وأمانتهم. وقوّة الموقع الجغرافي الصدفة. وقوّة المركز السياسي مرجعها انضمام أطراف المملكة وخلوّها من الاضطرابات الداخلية وتوفر دواعي الأمن والانتظام فهيا واتفاق أهليها على المصلحة الوطنية وإن اختلفوا فيها طرقاً وانقسموا احزاباً وفرقاً مع ما يلحق ذلك من عدم طموح الدولة إلى طلب المزيد على ما لديها محافظة على مركزها ودفعاً لأسباب العداوة مع سواها وقد ينضم إلى مراجع هذه القوّة الأخيرة كون وجود الدولة في العالم السياسي فيه مصلحة لدولة أو عدة دول ترى نفسها مراعاة لمصلحتها مضطرة عند مسيس الحاجة للمدافعة عن تلك الدولة حسياً أو معنوياً.
ولكل من هذه القوى الأربع دخل عظيم في الظفر والانتصار فإذا اجتمعت لدى دولة كانت إلى الربح أقرب منها إلى الخسران والعكس
بالعكس ومثله ما إذا كانت الدولة ذات قوة جندية يسعها بواسطتها أن تحشد لساحة القتال عدداً عظيماً من الرجال فإنها أن لم تكن مصادر القوة المالية متوفرة لديها فلن تستطيع القايم بمؤونة الجند إلا بالتقتير أو جلب المال من أوجه المظالم وذلك مما يفضي بداخليتها إلى الوهن والضعف بخلاف ما إذا اجتمع لديها قوتا الجند والمال مثلاُ فإنها تنفق عن سعة لتتأهب بما يجعلها ترجح سواها.
وعلاوة على ذلك فإن لكل قوة من هذه القوى على انفرادها فعلاً خاصاً لا تنكر أهميته كقوة الموقع الجغرافي مثلاُ فإن المملكة التي تكون محصنة الجواب بالمضائق البرّية والبحرية ممنعة الأطراف لا يقدر العدوّ إن يأتيها إلا من طريق واحدة ليست كالمملكة التي تكون متفرقة الأجزاء والقوة محاطة بالأجزاء وقس على ذلك بواقي القوات وفعلها بالنسبة لحال المتحاربين.
ثم أنا لو قابلنا بين الحروب القديمة والحديثة لوجدنا الحديثة أشد بلاء وأقوى خطراً وأدعى إلى الهلاك وإن كانتا كلتاهما سبباً فيه فكم من أمم تلاشت ودول دخلت أخبار عظمتها في خبر كان بما جنته عليها الحروب التي يسعى إليها الإنسان مجداً في كل زمان كأنما نسي أن الحروب من أعظم مصائب النوع الأناني فأصبح عاملاً على حتفه بيديه يخترع لذلك الآلات المهلكة ويعد المعدّات التي لم تقف به عند حد معلوم بل كلما ترقى في المدنية درجة ترقت معه مثلها حتى كأن المدنية الحديثة عدوّة للإنسان أقامت عليه رقيباً بتأثره إنّي ذهب
وكيفما صعد حتى إذا أصاب
منه غرة ألقاه من أعلى درجات المدنية إلى مهاوي الهلاك وذلك بحكم القياس على من تولى من الأمم القديمة التي أبادتها الحروب وذهبت بحضارتها وعمران ممالكها أيدي الغارات كالمصريين والفرس والرومان واليوانان وغيرهم من الأمم العظيمة التي كانت لها المنعة والسلطان.
فقد ذكر بعض المؤرخين أن أقدم دولة رتبت جيشاً خاضعاً لقوانين منظمة فرقت بها بينه وبني طبقات الناس دولة الفراعنة في مصر. وأعظم من أعتنى من الفراعنة بالجيوش وتنظيمها وإحراز معدات الحروب هو رمسيس الثاني فإن بعوثه وصلت إلى ممالك الهند والتتار والآشوريين وغيرهم.
فلو تأملنا تدويخه معظم هذه الممالك لوجدناه بلا ريب أعظم قواد المصريين القدماء ومع هذا العظم وذلك الاقتدار وما وصلت إليه المدنية في تلك العصور كما تدل عليه الآثار الخالدة إلى هذه الأيام لم يكن السلاح إذ ذاك إلا من السهام والفؤس سيوف النحاس ولم تكن الدروع إلا من اللبد. وكذلك أمة الفرس التي فاقت بنظامها الحربي من تقدمها من الأمم لم يكن سلاحها إلا كسلاح المصريين وقد أبادتهم جميعاً الحروب وأتت على مدنيتهم الغرات حتى لم يبق لهم إلا أثر يبصر أو خبر يذكر.
ولا جرم فإن عقول رجال العصور المتمدنة الأولى لم تتوصل إلى اختراع آلات وإبداع أدوات لإهلاك الإنسان الضعيف أكثر مما ذكر فماذا يقال في شأن المدنية الجديدة الغربية وما هي عليه الآن من التقدم كيف يتفنن رجالها في اختراع الآلات الحربية المهلكة للإنسان كالمدفع الرشاش والارمسترنغ والكروب والبندق السريع الطلق والبارود غير ذي الصوت
وغير ذي الدخان والتوربيد والديناميت والمنطاد الحربي إلى غير ذلك من الأسباب التي تسدّ في وجه المدنية المذاهب وتفضي إلى اضمحلالها وصيرورة أهليتها أخباراً تحار عند ذكرها الأذهان.
فلا ريب أن مضار هذه المدنية على النوع الإنساني أكثر من نفعها بل أيّ نفع يرجى ن مدنية صيرت العالم على شفا جرف هار من البوار وفتحت على الممالك أفواه البنادق والمدافع كمن ينتظر إشارة ليلهب الأرض ومن عليها بنيران الهلاك والتدمير.
ولا عجب فالحرب أخت الإنسان نشأت معه وتربت بين يديه فلما لم يتق شرها انقلبت
بالوبال عليه.
ومن يجعل الصِل الخبيث ربيبه=ويأْمل منه الخير بشره بالشر
وهل يرتجي ممن نشا طبعه الأذي=سوى بثّه سمّ الأذية والضرّ
والحمد لله الذي جعل البلاد المصرية في مأمن واق من الحروب وحصن حصين دون الكروب وجعل بأسها عباسها فدفع له عنها كل محظور فنسأل الله تعالى لمقامه العالي تأييداً وإعزازاً حتى تصل به مصر إلى معنى التقدم الحق والكمال المطلوب أمين.
انتهى المولد الأحمدي الصغير وكان خفيفاً قليل الزوّار بائر التجارة لم يربح فهي إلا بعض الخمارات فإن معظم أصحاب الأطيان بأع7وها أو رهنوها ولم يبق بيدهم ما يشترون بضاعة أو يضيعون به شرفاً ومالاً وديناً أم أصحاب الطرق وأهل الخير فكانوا على أحسن ما يكون من الهدوء والنظام والاشتغال بأنواع الطاعة والقربات ولنا في هذا الموضوع كلام نؤجلهُ إلى فرصة أخرى.