الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 22
- بتاريخ: 17 - 1 - 1893
لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا
هي كلمة أوروبا التي ترددها على أسماع الشرقيين كلما فعلت فعلاً يحملها عليه الاستعمار الملكي أو الانتشار الديني وقد أحكمت التأليف بين القوتين الدينية والملكية فجعلت الأولى سفير وداود والثانية فارس جِلاد وقد أضاف كل ملك أوروبي إلى عنوان الملك حماية الدين فيقول في مخاطباته ملك أو إمبراطور كذا وحامي الدين المسيحي أو عبارة أشد وقعاً في النفوس من هذه ليعلم الأمم أنه القابض على زمامي السياسة والدين فيؤيد رجال السياسة بتنفيذها يرونه من لوازم تأييد الملك وأتباعه ويساعد رجال الدين على نسق واحد كل فيما فوض إليه لا تفتر لهم همة ولا ترقد لهم عين عن وظائفهم التي فيها حياة الدين والملك وزيادة شرف الأمم. والأمم لكونهم أدركوا ما قصده الملوك ورجال السياسة وخدمة الدين اندفعوا معهم اندفاع السيل في
المنحدرات فعقدوا الجمعيات الدينية والعلمية والصناعية والتجارية والزراعية والسياسية وأخذ كل فريق في إحسان ما كلف به نفسه وأوجبه عليه مجاراة جاره في الملك ومباراة نظيره في العلم أو العمل ومسابقة غيره ممن قصدوا قصده فاشتغلوا بما اشتغل به. وقد بلغوا القصد في بلادهم وخرجوا من بلادهم محمولين على قوتي الدين والملك سائرين على نور العلم والصناعة فدخلوا الأقطار الشرقية سائحين ومتجرين واستوطنوها مراقبين ومتغلبين وجرائدهم الكثيرة العدد برزت تتسابق في ميادين الإنشاء بمواضيع مبتكرة ومقالات مطولة وعبارات مزينة فأصبحت ناقلة للأخبار ناشرة للآداب معلمة للعلوم مؤيدة للمبادئ حاثة على المقاصد منشطة للهمم مرشدة للأمم منبهة على الأغاليط محذرة من التقاعد والتكاسل والغفلة عن وثبة الجار أو معاكسة المتاخم ناشرة للفضائل مؤرخة لرجال الفضل والعمل وحافظة لسير الملوك داعية أفراد الأمم إلى ما فيه خير البلاد وتأييد الدين خادعة للشرقيين لاعبة بأفكار رجالهم خاتلة لعظمائهم مقبحة لما هم عليه من دين وسير ومعيشة وانتماء وصناعة وتجارة وزراعة منادية بينهم بأن الغرب محل التشريع ومنبع العلم ومرجع الفضائل لا حياة للأمم إلا بما تأخذه عنه ولا مجد لمن لم ينتم إليه ولا فضل لمن لم يتعلم فيه ولا شرف لمن لم يتكلم بلسانه ويتعبد بعبادته ويتقيد بعاداته، هذه كليات تحتاج لبيان جزئياتها التي لا تحتاج لبرهان بعد ظهورها للعيان ،
قالت أوروبا أنكم متوحشون لكونكم لا تحسنون صنع الأثاث واللباس وأنكم في حاجة إلى مصنوعنا ولا تصلون إليه إلا بعقد المعاهدات التجارية
وبذا تمكنت من إدخال مصنوعها
في الشرق لنحول الثروة إليها فأماتت ما كان يصنعه الشرقيون وحجرت على ما لا بد منه من صناعة الشرق الهندية وغيرها فما يصنع في الهند والصين والعجم والأناطول وغيره إنما ينفق ويباع على يد الأوروبي كما يباع وينفق مصنوع بلاده فالشرقيون أُجراء يزرعون ويحصدون ويصنعون ليروّجوا تجارة أوروبا ويعظموا ثروتها ويؤيدوا قوتها الملكية بالإيرادات المالية فلا حظ لهم في الوجود ولا رغبة لهم في الملك كأنهم أمام أوروبا جنس خلق لخدمتها لتقاعدهم عن مجاراة أهلها ومما زادهم بعداً عن الصناعة وثمراتها وجود دخلاء أُجراء يزعمون أنهم نصحاء يثبطون الهمم ويرمونهم بالضعف ويوهمونهم عدم صلاح بلاده للصناعة ويغرونهم بتعذر ذلك لتعذر المعدات والآلات وهم يعلمون أن كثيراً من المماليك التي لا آلات فيها استعانت بآلات اشترتها من الغير وأحيت صناعتها الوطنية وحتمت على أهلها شراءها لرواج صانعيها ومنعت دخول مصنوع الغير حفظاً لثروة أهلها فهم بصرفهم الهمم بهذه الترهات يريدون بقاء الشرقي في قبضة الغربي احتياجاً إليه وترك الشوق ميداناً لمسابقة رجال أوروبا فلا يجدون مصنوعاً يعطل عليهم ولا معرضا عن صناعتهم فتبور. وضعفاء العقول يغترون بخداع هذا الدخيل ويظنون أنه من المخلصين فلا يتحركون لعمل من الأعمال لوقوعهم في اليأس والقنوط بالمفتريات ورجال أوروبا تتعجب من تقاعدهم وتقول لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا
قالت أوروبا أن وقوفكم عند عاداتكم الشرقية وتخلقكم بأخلاق آبائكم بقاء على الهمجية والتوحش فلا بد من مجاراتنا في حركاتنا المدنية لتساوونا
في الرتبة وفتحت لنا البيرَ والخمارات والمقامر وأباحت الزنا والربا ووسعت دائرة اللهو والخسران فغفل الشرقيون عما وراء ذلك من ضياع الدين والملك والمجد والشرف وانكب الأغبياء والغفلون على الخمور فساءت أخلاقهم وضعفت عقولهم وفسدت عقائدهم وتحولوا إلى المومسات فارتكبوا الإثم بارتكاب المحرم والعار باتخاذهم اختهم الوطنية آلة للفحش وجعلها عرضة للأجنبي بعدم غيرتهم عليها فهم في رتبة القواد بل هم هم ومال فريق إلى القمار فباع الغيط والدار واضطر لبيع حلى زوجته برضاها أو بسرقته منها والكل عطف على المرابين يقترض ويصرف في الملاهي ومتلفات العقل والجسم والملك حتى أسكن الأوروبي مكانه وصار له خادماً بعد أن كان عظيماً محترماً وكلما تهالك الشرقيون على الخمور والملاهي واصلت
أوروبا رسائل الخمر وارتحل إليهم المومسات وأرباب الملاهي تحويلاً للثروة وإزهاقاً لروح الدين حتى أصبح المتلبسون بهذه القبائح والفضائح لا شرقيين ولا غربيين واتخذتهم أوروبا وسائل لتنفيذ آرائها ووصولها إلى مقاصدها من الشرق وهي تحثهم على المثابرة على عملهم باسم المدينة وما هي إلا التوحش والرجوع إلى الحيوانية المحضة إذ لو كان الانغماس في الملاهي ومفسدات العقل والدين من المدينة لما تحاشته أوروبا وعدت مرتكبه همجياً جاهلاً مجنوناً ولما وضعت القوانين الشديدة للمسكرات ومنع التلامذة منها ولما كتبت الرسائل العديدة في ذم الخمر والفسوق وحرمان ضعفاء العقيدة والمتقاعدين عن العبادة وحضور الكنائس وإنما هو إشراك وفخاخ تنصب في طريق الشرقي حتى لا يخطو خطوة إلا وقد وقع في حبالة أوروبا. ولما رأت أوروبا أن الشرقيين
لا ينتبهون من غفلتهم ولا يعقلون مقاصد الدولة ولا يدركون مكايد الملوك ولا يسعون في صالح بلادهم ولا يحافظون على دينهم ولا يعرفون شرف لغاتهم ولا يحفظون كراسي ملوكهم ولا يهمهم ضياع أوطانهم اتخذتهم كرة تلعب بهم كيف تشاء وهي تقول لهم لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
قالت أوروبا أن الشرق في حاجة لتداخل أوروبا لإصلاح إدارته وماليته وتجارته وتهذيب أُممه بالتعاليم الأوروبية وأجمع رجال أوروبا على جعله قسماً مقابلاً لها وربطوا عزمهم على ضمه إليهم الجزء بعد الجزء والقطعة بعد القطعة على اتفاق معقود بين الدول هذا لي وهذا لك ثم تلووا في الدخول فيه تلوى الأفعى وملكوا بعضه بالتجارة والبذل المالي وبعضه بدعوى مس حق دولة أو إهانة بواب قنصل أو حفظاً لطريق مملكة. والداهية الدهياءُ إن ملوك ق مملكة. وا في الدخول فيه تلوى الأفعى وملكوا بعضه بالتجارة والبذل المالي وبعضه بدعوى مس حق دولة أو إهانة بواب قالشرق وعظماءه ملأُوا قلوب أُممهم بالأوهام وخوفوهم من الأوروبي وأرهبوهم باسم اللورد والبارون والكونت والمركيز والجنرال والأميرال والسير والمأجور حتى خيلوا لهم أن الأوروبي ملك يمكنه قلب المملكة أو جنيٌّ يقدر على حرقها فامتلأوا رعباً وخوفاً ولبسوا ثوب ذل وهوان وذلك بسبب المعاملة التي يعاملونهم بها في وقائعهم مع الأوروبيين وقد اضطروا كثيراً من الوجهاء والنبهاء الذين ينتفع بهم الوطن والملك إلى الاحتماء بالغير تفادياً من تلك المعاملة فكانوا أقوى يد للأوروبي في تداخله واستيلائه على ممالكهم فلوربوا رجالهم على الحماسة ومرنوهم على
الأعمال وبعثوا فيهم روح الحمية بالمحافظة على حقوقهم وترقيهم بحسب استعدادهم وساعدوهم على انتشار الصناعة والتجارة وهذبوهم بالأدبيات وصانوهم من المفاسد العقلية وعلموهم
العقائد الدينية وعودهم على الشعائر الملية ونبهوهم بجرائد وطنية صادقة اللهجة صافية النية عارفة بما يقدمهم وينفعهم وأوقفوهم على تواريخ آبائهم ومسابقات الدول في بلادهم ودسائس أوروبا وحذروهم من رجال الفتن والأُجراء الذين يخدمون أوروبا باسم المصلحة الشرقية أوجدوا أمامهم رجالاً وأي رجال ولكنهم أهملوا ممالكهم وأهدروا حقوق رعاياهم فأصبح ملوك أوروبا يفخرون عليهم ويعيرونهم بما صاروا إليه من الضعف والاضحلال ويقولون لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
ولا لوم على الأوروبيين في ذلك فإنهم إنما يسعون في مصالحهم واتساع ممالكهم وتجارتهم والشرقيون يرونهم يعملون الأعمال العظيمة في بلادهم وهم ينظرون إليهم نظر المغشي عليه من الموت ولا يتحركون لمجاراتهم أو لإيقاف تيار تداخلهم ويرونهم يسلبون أعمال أمرائهم وولايتهم عملاً فعملا وهم ناكسو الرؤوس منكمشون في ثيابهم. تسمع منهم أصوات عالية في خلواتهم يظنها السامع أصوات أناس حريصين على المجد والشرف فإذا خرجوا إلى الطرقات ساقهم أضعف أوروبي بعصاه وهم بين يديه كأنهم قطعان الأغنام تساق إلى الحظائر. بمن نقيس الجزائري إذا شاركه التونسي والهندي والمصري والقبرصي والعدني والمسقطي والزنجباري والبرنوي والبخاري والمروي والطاغستاني والتركماني والسرخسي وقابله المراكشي والأفغاني برعدة الخائف الوجِل ونظر إليه العجمي والعراقي واليمني والحجازي والنجدي والشامي والسوري والطرابلسي والأناطولي نظر المتوجس الحذر الذي تبعثه الهمة وتقعده القلة كلما شموا رائحة السلم من دولة جاءهم إنذار
الحرب من أخرى سعياً خلف الدين لا طلباً لسعة الملك فإنه لو كانت الدولة العثمانية مسيحية الدين لبقيت بقاء الدهر بين تلك الدول الكبيرة والصغيرة التي هي جزء منها في الحقيقة ولكن المغايرة الدينية وسعي أوروبا في تلاشي الدين الإسلامي أوجب هذا التحامل الذي أخرج كثيراً من ممالك الدولة بالاستقلال أو الابتلاع. وأننا نرى كثيراً من المغفلين الذين حنكتهم قوابلهم باسم أوروبا يذمون الدولة العلية ويرمونها بالعجز وعدم التبصر وسوء الإدارة وقسوة الحكام ولو أنصفونا لقالوا أنها أعظم الدول ثباتاً وأحسنها تبصراً وأقواها عزيمة
فإنها في نقطة ينصب إليها تيار أوروبا العدواني لأنها دولة واحدة إسلامية بين ثماني عشرة دولة مسيحية غير دول أمريكا وتحت رعايتها جميع الطوائف والأجناس والأديان وكثير من اللغات والفتن متواصلة من رجال أوروبا إلى من يماثلهم مذهباً أو يقرب منهم جنساً وكل دولة طامعة في قطعة تحتلها باسم المحافظة على حدودها أو وقاية دينها مع اتساع أراضيها وعدم وجود السكك الحديدية المسهلة للنقل والتحول وعدم وجود أنهر مستمرة الفيضان في غالب أراضيها ووجودها تحت رحمة الله تعالى إن شاء الله أمطرها فأخصبت أو منعها فأجدبت وهذه أمور لو ابتليت بها أعظم دولة أوروبية ما قاومت هذه الصواعب أكثر من عام أو عامين وتسقط أو تتلاشى. ولكنها تلام على إعطاء السكك الحديدية التزاماً للأوروبيين بواسطة أناس يزعمون أنهم من رعيتها ظاهراً وهم فرنساويون أو إنكليز باطناً فإن السكك الحديدية بالنسبة إلى المملكة كالشرايين بالنسبة إلى الجسم فهي من أعظم
العلل التي ستتخذها أوروبا وسيلة للتداخل باسم وقاية أملاك أتباعها ومن لنا بكف يد الوزراء عن مثل هذا التهاون ويكفي ما جرى وما ذهب منا سدى فإن ارتكنا على الشروط فقد ارتكنا على أوهن من العنكبوت فإننا لم نقدر على تنفيذ عهدة برلين فيما يختص بنا وقد وقع عليها الدول فكيف تنفذ شروطاً بيننا وبين رجال جعلتهم الدولة ذرائع للتداخل ووسائل لا سوء المقاصد. ولقد أذهلتنا أعمال أوروبا التي لم تسمح لشرقي بامتلاك شبر في أرضها وهي تخرجنا من مساكننا وتقيم فيها بلا شروط معقودة ولا حجة مسجلة ولكنها معذورة فإنها لم تجد من يعارضها أو يجاريها فهي لا تعترف إننا معها في ثوب الإنسانية بل تقول لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
إن دولة من دولة أوروبا لم تدخل بلداً شرقياً باسم الاستيلاء وإنما تدخل باسم الإصلاح وبث المدنية وتنادي في أول دخولها أنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد ثم تأخذ في تغيير الاثنين شيئاً فشيئاً فلا تقدم على العمل بل تفعل الشيء على قبول التجربة فإن نفذ فقد مضى وإن عورضت فيه التزمت والتأويل كما تفعل فرنسا في الجزائر وتونس حيث سنت لهم قانوناً فيه بعض مواد تخالف الشرع الإسلامي بل تنسخ مقابلتها من أحكامه ونشرته في البلاد واتخذت لتنفيذه قضاة ترضاهم ولما لم تجد معارضاً أخذت تحول كثيراً من مواده إلى مواد ينكرها الإسلام توسيعاً لنطاق النسخ الديني ولم نلبث أن جاريناها وأخذنا بقانون يشبه
أن لم يكن هو هو ولم ينتطح في إصلاح مواده المخالفة عنزان ثم تداخلت في الأوقاف واستولت على غلتها
ومنعت المستحقين وطردت كثيراً من خدمة المساجد اقتصاداً مالياً وتخفيفاً دينياً ثم رفتت ضباط العساكر الوطنيين الكبار واستبدلتهم برجالها خوفاً من ثورة يدفعونها بها عن بلادهم أو يحمون بها دينهم ثم حجرت على المدارس تعليم بعض علوم شرعية وألزمتهم بتعلم لغتها والأخذ بالطبيعيات والرياضيات حتى لا يشم الأبناء رائحة الدين لئلا يعلموا أنهم يغايرونهم ديناً فيثورون عليهم أو يلتجئون إلى دولة أخرى وهذه عواقب الالتجاء إلى دول أوروبا والاغترار بوعودها الخلبية وشروطها المكتوبة بالماء على صفحة الهواء. وهذه دولة الروسيا دخلت مرو وهراة وبخارى باسم حمايتها من أعدائها وبعثت إليها بتجارتها فنفذت ثم برجال يساكنون أهلها فمضوا ثم بعساكر في الحدود فأقاموا ثم بشروط تربطها بها فأمضيت ثم هي آخذة في تقدم لغتها هناك توصلاً لإعدام اللغات الوطنية التي يموت بموتها الدين وحمية الجنس والغبرة الوطنية وهذه إنكلترا دخلت مصر باستدعاء أهلها وأخذهم بناصرها بعلة تأييد المركز الخديوي الشريف ثم زيد على تلك العلة علة بث النظام ووضع حكومة ثابتة تشابه حكومات أوروبا وقد بذلت ما في وسعها في التحسين والتنظيم بما يتراأى لها ولم تجد غير آذان سامعة وأيد عاملة ولكننا مع كثرة سماعنا وتعليمها لنا لم نقلدها في شيء مما دخلت لبثه فينا بل تركناه تفعل أفعالها ونحن نتفرج عليها كأننا في ساحة سيماويٍّ يرينا من أعماله العجائب ونحن في حيرة من ألعابه المدهشة. ومن جهل أعمال إنكلترا في مصر بيناها له ليرى أنه حقيق بما يوجهه إليها من النكير. أولاً أطلقت حرية المطبوعات والأفكار فرأينا الجرائد الكثيرة تتكلم بما تريد وتتصرف في أفكارها كيف تشاء.
هذه تقول أنا وطنية أنادي خير البلاد وصلاحها موقوف على جعل الأعمال بيد المصريين تحوطهم عناية الحضرة الخديوية الجليلة تحت مراقبة بريطانيا حتى إذا رأتهم قاموا بحكومة ثابتة مؤيدة بالقانون الحق النافذ وقت وعدها وأجلت جندها وتركتهم يتمتعون بحريتهم في بلادهم كما تتمتع البلغار والجبل الأسود والسرب وغيره مما هو أقل من مصر بكثير والأمة مرتاحة لها. وهذه تقول مصلحة البلاد موقوفة على زيادة نفوذ الإنكليز ووضع الإدارات تحت أيديهم بمساعدة النزلاء حتى يتهيأ المصريون لاستلام أعمالهم لا تبالي رضي عنها المصريون أو غضبوا منها. وهذه مذبذبة
لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وهذه علمية تهذب النفوس وهذه تورد لهم من مصادرات الأديان ما يوقعهم في الشك والتردد وهذه دينية وهذه حقوقية وهذه طبية. ثم تركت المصريين يغدون ويروحون بين هذه المتناقضات وهم يتناظرون ويتجادلون لا رقيب عليهم ولا جاسوس ولما رأت أن كثرة المؤثرات الفكرية لم تنبههم على طلب حقوقهم وظهورهم أمامها بالتظاهرات الأدبية استدلالاً على استعدادهم للقيام بأعمال بلادهم تركت الجرائد تخوض في المواضيع المتضادة وتلعب بالأفكار الجامدة ونحن في بحار اللهو غارقون. ثانياً أنها كفت يدها من الأعمال عند دخولها مصر وسلمتها إلى المصريين ظاهراً لتقيم الأدلة لأوروبا أنها ما دخلت إلا لتراقب المصريين وتشير عليه بما فيه التوفيق بين مصالحهم ومصالح الدولة ولما لم تجد أمامها من يجعل هذا الظاهر باطناً بحصر السلطة في الذات الخديوية الفخيمة
والإدارات في الوطنيين أخذت تقول وهم يفعلون حتى أصبحت تفعل وهم لا ينطقون وكانت تتقي باسمهم المطاعن الأوروبية حتى خلا الجو وأمنت الاعتراض فأخذوا يذمونها ويرمونها بخلف الوعد ونكث العهد وعدم الصدق وطول الباع في الخداع وهم غير محققين فإنها ما دخلت إلا لتعمل عملاً أمام أوروبا فلما فوضوا إليها الأعمال استلمتها بهمة ونشاط. ومثلها ومثلهم كمثل لص دخل دار قوم وقال لهم حملوني ما عندكم من أثاث وحلي وآنية فأخذوا يحملونه ما يريد من غير معارضة فهل إذا دخل عليه البوليس وأهل الدار يحملونه بأيديهم يقول هذا لص كلا بل يقول أنه صاحب الدار وهؤلاء خدمه. أيرون أن الإنكليز هم الذين نشروا منشور المومسات ورخصوا للنساء أن يخرجن للبغاء تحت حماية القانون. أم هم الذين سنوا كشف الأطباء على البغايا وإعطاءهنَّ شهادات بأنهن صالحات للزنا فهتكوا حرمة القرآن والإنجيل والتوراة بتحليل ما حرمه الله تعالى في كل كتاب. أم هل قالوا للمصريين ستنفق ملايين في المقاولات والأعمال الهندسية من غير أن نسأل عما نفعل فيها فإياكم والسؤال عن مبالغ ستكونون عبيداً مكلفين بسدادها إلى روتشلد وغيره. أم هم الذين أعطوا الالتزامات الوابورية والأرضية ووسعوا نطاق المعاهدات إلى أن ضيقوا كل عمل مصري. أم هم الذين منعوا المصريين من زراعة الدخان والحشيش لتروج مزارع أوروبا بخراب بيوت هؤلاء الضعفاء. أم هم الذين باعوا مهماتهم وآلاتهم بغير ثمن وربما أعطوا من أخذها شيئاً يستعين به على نقلها حتى تركوا
البلاد محتاجة لمن يحرسها بالعصا أو النبوت. أم هم الذين أبعدوا المصريين عن الخدمة
يوحشروا الغرباء في المصالح حتى أصبح ألوف من المصريين لا يجدون القوت ولا يعرفون لاستخدامهم مرة ثانية سبيلاً. أم هم الذين قللوا من تلامذة المصريين في مدارسهم وأكثروا من استخدام الأجانب فيها وتدرجوا لأمانة لغتهم الوطنية بفرض المكافآت لمن ينبغ في الإنكليزية لتنسى لغة القرآن فينسى بها الدين الواقف عقبة أمام أوروبا كما يصرحون بذلك في مجالسهم وأندية شوارهم. لا والله ما نالوا أملا ولا قارفوا عملاً ولا أذلوا رجلاً ولا خربوا بيتاً ولا هتكوا حرمة إلا بالمصريين. ماذا على الإنكليز إذا سعوا في ربح تجارتهم واستخدام أبنائهم ولم يجدوا عائقاً أيرجعون وهم لهذا مرتحلون. ومن يلومهم إذا وجدوا طريقاً لتوسيع ممالكهم لا خوف فيه ولا عقبات أيتركونه وهم في جميع بلاد الدنيا طامعون. كانوا يرون أن المصريين إذا رأوا دولة حرة دخلت بلادهم لتأييد خديويهم وإصلاح بلادهم وتعريفهم حقوقهم بين الأمم تجمعوا حول أميرهم حاملين كرسي فخامتهم على رؤوسهم منادين باسمه قائمين بتنفيذ أوامره محافظين على حقوقه مستميتين في اختصاصهم بأعمالهم والقيام بشعائر دينهم مجاهدين في حفظ الأمن وخدمة البلاد حافظين لحقوق الأجانب والغرباء النزلاء والمجتازين جاعلين محافلهم التي استخدمتها أوروبا في مصالحها محافل وطنية تستخدم أوروبا في مصلحتهم فكانت تساعدهم على هذه الأمور التي تعهدت لأوروبا أن تعلمها للمصريين وتؤهلهم إليها ولكنها رأت غير ما ظنت فلا لوم عليها إذا وضعت قدمها على عمائمنا لتعلو جواد الفخر والخيلاء.
لماذا نتألم من أعمالنا وأمراؤنا اقتصروا على القعود في القصور وركوب
العربيات للتفسح في المنتزهات وعقلاؤنا صامتون لا ينطقون بكلمة رجاء أو صوت استصراخ وضعفاؤنا حيارى ينتظرون هؤلاء وهم عنهم لاهون ونبهاؤنا في المحافل يتحاورون ويتناظرون بما لا يفيد الوطن والملك شيئاً متعللين بأن محافلهم لا تتعرض للسياسة ولا للدين فإذا انصرف النبهاء عن وجهتي السياسة والدين فبمن تقوم الأعمال ويتقوَّم أود الحكومة ويبقى عمود الدين قائماً كبقية الأديان. أبالإخاء الذي ربطناه بين الأجنبي نتخلى له عن مرجع المجد واصل الشرف. وهل تريد أوروبا أن تنتصر علينا في حرب عوان بأكثر من صرف نبهاء البلاد عن النظر في الملك والدين ليخلوا لها الجو فتفعل ما تشاء وتغير ما تشاء مع أن
النبهاء يمكنهم أن يستخدموا محافلهم في مصالح بلادهم فيتمكنوا بقواهم العقلية مما لا يمكنهم منه سيف ولا مدفع من غير إثارة فتنة أو إراقة قطرة دم ويصلحون ما أفسده الاغترار والانخداع ويحدثون في البلاد عصبية وطنية لا تردها أعظم أمة عن مشربها المصري وسعيها المؤيد بربط القلوب على عزيمة واحدة صادقة. وما الذي استفاده النبهاء المصريون من الاخلاط والامشاج غير تقدم الغير وتأخرهم واتخاذنا بيت مال لفقرائهم وعجائزهم. دعونا من المجاملة في الكلام والتستر بما استهجنه العقلاء ما ابتدعت المحافل إلا لتصير الممالك دستورية وقد نجحت في ذلك وقلبت كثيراً من ممالك أوروبا وحيث أننا بين يدي حكومة دستورية فلم لم نؤيدها بعصبية وطنية ونظهر من أعمالها ما تفتخر به إنكلترا أمام أوروبا وإلا فإن بقي الأمراء في البيوت والنبهاء في المحافل على ما هم عليه والعقلاء صامتين والضعفاء طائرين حول أوهام الأجنبي وإرهابه
والخديوي الأعظم ينظر إلى هذا الجموع نظر الأب الرحيم إلى الأبناء العاقين فلا نعترض على بربر أفريقية فضلاً عن الإنكليز إذا جاؤوا وأخرجونا من مساكننا وأبعدونا عن عائلاتنا وتمتعوا بما نخلفه لهم من عرض ومال ومتاع وعقار. مضت والله أيام التقاعد والاغترار بالترهات وصرنا بين يدي خديوي يريد أن نجاري الإنكليز في الأعمال الإصلاحية والمطالبة بحقوقنا الوطنية ونحن عن إرادته السنية ساهون. ويجب أن نتقدم في التجارة والصناعة والزراعة والمعارف ونقبض على أزمة أمورنا ونحفظ عرشه المصري بالمصريين ولكننا عن نظره العالي عمون. يتالم من ضياع المصري والاستخفاف به وتركه في زوايا الإهمال أكثر من تألم المبعدين ولو أحسسنا بما عنده من الآلام لبتنا لمضاجعنا جافين. إن أوروبا تنظرنا من بعيد لترى أعمالنا وما نتقلب فيه من الأحوال وما تهدينا إليه إنكلترا مما نؤيد به الخديوي الأفخم كمنشورها التداخلي ونحن عن هذا كله لاهون. كفوا أيها المصريون عن القيل والقال فقد عيرتنا الأمم بأننا نقول ولا نفعل واظهروا بين يدي إنكلترا برجال يسرها تجمعهم حول أميرهم الذي جاءت تؤيده واطلبوا منه حقوقكم المقدسة واشكروا إنكلترا على ما أوصلتكم إليه من الحرية التي تركتكم تتظاهرون تظاهراً أدبياً طلباً للحقوق وسعياً خلف الحقائق والامتيازات الوطنية فإن كل إنكليزي يراكم في هذا التقاعد وهو يد أب في عمله الليل والنهار يقول لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
كلكم قائل ((بيدي لا بيد عمرو)) مضت السنين العشر التي قابلتم غرتها بالأفراح والزين وطرتم فيها حول الأوهام طرباً وسروراً وعميتم عن سوء
العافية فأنشد شعراؤكم الشعائر الطنانة الرنانة مدحاً وثناءً وشربتم الخمور جهاراً باسم من استعديتموهم على بلادكم ونصرتموهم بتثبيط إخوانكم وبذلتم أموالكم وأرواحكم في دخولهم البلاد والتخلي لهم عما بأيديكم من الأعمال. ولطالما طأطأتم الرؤوس وحنيتم الظهور وركعتم أمامهم تعظيماً وتسليماً وبصقتم على وجوه إخوانكم ولبستم أجمل ثيابكم تنتظرون يوما يقتل فيه مائة ألف مصري. فهذه الأيام تريكم كيف تدور الدوائر وكيف تتقلب الأحوال بالأهوال على من لم يقرأ العواقب ومن يلقي نفسه بين نيوب الضل خائفاً من العظاية (السحلية) فقد أبدلت المصائب الولائم الأجنبية بالمآتم الفقرية ودعتكم لتكسير أعواد الطرب والسرور وضرب دف الندب والرثاء. وهل تجزون إلا ما كنتم تعملون. مضى أمس بخيره وشره وجاء اليوم بتحذيره وإنذاره وقد سار المرحوم أفندينا توفيق باشا إلى جنة ربه. وزين عرش الحكومة المصرية الملحوظ بعناية الله تعالى أفندينا عباس باشا الثاني ولا عسكرية تطلب منه حقوقاً وطنية فيقال أنها تريد أن تستبد عليه أو تضعف سلطته فأولى أن يستعين بدولة كذا. ولا خوف عنده من أجنبي يهدده بمنشور ينشره ليجعله وسيلة للتداخل العدواني. ولا أحزاب بين يديه فرقتهم الضغائن الباطلة فشقوا عصا الجامعة الوطنية والوحدة الدينية بوسوسة جاهل ونزغ محتال. بل هو الهمام الحازم الصادق الوطنية المحب لجميع أجناس رعيته على اختلاف أديانهم الساعي في منح الوطنيين حقوقهم وتمتعهم بخصائصهم الإدارية وما يحتاج في تنفيذ إرادته إلا إلى رجال نبهتهم صدمة أوروبا إلى الرجوع عما هم فيه من الاعتزاز والاستغفال فحاطوا أميرهم مخلصين في انقيادهم إليه لينادي بهم
رجال إنكلترا قائلاً هؤلاء رجالي الذين تريدون أن تؤيدوا بهم حكومتي النظامية فضعوا الأعمال في أيديهم واختبروهم فيما يقومون به من الأعمال هؤلاء الذين ربتهم مصر وشهدت لهم أوروبا ووقفوا مع سابقيهم تسعين سنة يريدون الأعمال بأنفسهم ويصلحون البلاد حتى حاكوا بها مدن أوروبا الشهيرة بل ربما وجد الأجنبي فيها من الراحة ما لا يجده في أعظم مدن أوروبا هؤلاء الذين قلتم لأوروبا إذا وجدنا قوماً لهم قدرة على الأعمال وفيهم استعداد لحفظ الأمن ونشر المدينة سلمناهم بلادهم وودعناهم بسلام فهلا جربتموهم في عمل هؤلاء
الذين لا يحتاجون لمجاراة غلادستون في سياسته ولا بسمارك في خداعه ولا القيصر في شدته فأنهم يريدون أعمالاً بسيطة مكفولة بالقوانين والنظامات ليس فيها سعي خلف استعمار ولا اجتهاد في نشر دين ولا تحاليل على توسيع حدود فأية صعوبة في مثل هذه الأعمال. هؤلاء الذين جئتم لتأييدهم في مراكزهم ودفع يد العدوان الوهمي عنهم وقلتم في مصر من الرجال فلان وفلان ولا يحتاجون إلا إلى مراقبتهم مدة قصيرة في إدارتهم الجديدة. هؤلاء الذين درسوا أعمالكم وحفظوا نظامكم ووقفوا منتظرين تحقيق الآمال وصدق الوعود فعلام تتعبون في تهذيبهم إن كانوا لا يصلحون. وماذا ترجون منهم بعد تعليمهم أصولكم العسكرية والإدارية والمالية والقضائية إن كانوا لا يفلحون. هؤلاء الذين هم أحق وأولى من غريب تستخدمونه بأموالهم المتحصلة منهم وتنفقون عليه من ذهب ما دفعه أوروبي ولا حصله غير مصري. فأي مانع يمنع المصريين من المطالبة بحقوقهم بالتظاهرات الأدبية أصرنا أقل درجة من فعلة الإنكليز
والغزالين الذين تعصبوا لحقوقهم وتجمعوا لراحتهم وأذهلوا العالم بأفعالهم التي ما دخلها شغب ولا تخللها خلل. وكأني بدخيل يوسوس للأجانب قائلاً أن الأستاذ يدعو إلى ثورة مصرية بهذه العبارة فقد تعودنا سماع الأراجيف من الدخلاء وتسليط الأوروبيين على كل بلد نودي فيه بالمحافظة على وطنيته ونحن نضع حجراً في فم هذه الدخيل قبل أن يحرك شفتيه بكلمة إغراء. إن المصريين قد جربوا أنفسهم في التظاهر بالقوة فوقف شقاقهم بينهم وبين الظفر بالمقصود وهم شاكو السلاح كثيرو العدد والعُدد والآن لا قوة بأيديهم ولا سلاح وقادة الجند من الأجانب ولا يحمل العسكري إلا بندقية فارغة حكمها حكم عصا الراعي ولا موجب لحركة الأهالي حركة عدوانية بعد خضوعهم لأميرهم وانقيادهم إليه في السر والعلن وقد تأدبوا وعلموا دسائس أوروبا وتنبهوا لمقاصد الدول وسعيهم في اتخاذهم آلة لبلوغ مآربهم لا لمصلحة المصريين معاذ الله ولا لمنفعة المسلمين أستغفر الله فما من مصري إلا وهو يعلم الآن أن أوروبا لا تصدق في قول ولا تفي بوعد ولا تحب شرقياً ولا تسعى في خير مصري وإنما هي ملاعب سياسية يقدمونها بين أعين الجهلاء الذين لا خبرة لهم بدهاء الدول ومطامعها يستميلونهم بها استمالة الطفل بقطعة حلوى أو ثوب منقوش. ومن انتهى بهم الأمر إلى الوقوف على الغايات والمقاصد السيئة مع إفراغهم من المعدات الآلية وعدم حاجتهم إليها
يستحيل عليهم أن يكدروا صفو الراحة بشغب أصواتٍ فضلاً عن قعقعة سلاح. وما يدعوهم الأستاذ إلا إلى مجاراة الأوروبيين فيما هم فيه من معرفة قدر نفوسهم والمحافظة
على حقوقهم ولغاتهم وأديانهم وعوائدهم والدأب خلف الاستقلال بأعمال بلادهم فإنهم لا يجهلون كلاًّ من البلغار والسرب والجبل الأسود ورومانيا أقام تحت تصرف الدولة العلية أكثر من خمسمائة سنة وفي هذه المدة ما استطاعت الدولة أن تغير دينهم أو لغتهم أو عادتهم بل حافظوا على الأصلين العظميين اللغة والدين وزاحموا ولاة الترك في الأعمال والإدارات وأكثروا من الصياح والاستنجاد حتى وقعت الحرب الأخيرة واستقلوا فلم يحتاجوا لتجديد لغة أو عهد دين أو إعادة معبد ووجدوا أنفسهم هم الذين كانوا قبل ذلك بخمسمائة عام وقد قوبلوا على ذلك بمدح جميع أوروبا وثنائها عليهم وكان من أعظم المساعدين لهم بل المحركين لهم نفس إنكلترا التي نريد أن نجاريها في أعمالها أو نجاري من أنجدتهم من بعيد ونحن أقرب إليها من حبل الوريد. والأستاذ يعرض مقالته على كل عاقل متصف مصرياً كان أو غير مصري وأظنه لا يسمع إلا قول المخلصين إنها أخبار بحقائق وطلب بحقوق لا تمس شرف رجل ولا تتعرض لأمة ولا تطعن في سياسة وإنما هي محض درس تهذيبي لمن يسوءهم قول الأوروبيين لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
قضى المسلمون مع الأقباط ثلاثة عشر قرناً وهم في اختلاط أهل بيت ومعاملة عشيرة واتحاد عائلة ما جرى بينهم يوماً واقعة عدوانية مسببة عن اختلاف الدين كما نشاهد ونسمع من طرد اليهود من بلادهم وسلب أملاكهم وحليهم واستحلال تعذيبهم وسوقهم إلى سبيريا حفاة فيهم القيود والأغلال وتخييرهم بين الانتقال من دينهم أو الرضا بالأشغال الشاقة في سبيريا التي هي
جهنم العذاب أو جهنم شبيهة بها. ولا فعل معهم المسلمون مثل ما فعلته فرنسا مع الجزويت وهم إخوانها في الدين وإن اختلفوا في المذهب ولا مثل ما فعله البلغار مع المسلمين من هدم مساجدهم وقتلهم وهم في الجمعة يصلون ولا مثل ما فعله الروس في الشركس الذين اضطروا لترك أوطانهم وأثاثهم وماشيتهم وهاجروا إلى بلاد الدولة مشاة لا يحملون إلا أجسادهم. بل بقينا معهم كل هذه المدة نتبادل الوظائف والزيارات وامتلاك الطين والعقار فلم نسع في شق عصا اجتماعهم وتفريق كلمتهم لتتخذ ذلك ذريعة إلى أمر مطوي في باطن المستقبل ولهذا لم نجد دولة من الدول العدوانية علة دينية تتداخل بها في
شأن مصر باسم راحة المسيحي والمحافظة على المعابد المقدسة وإعطاء الأقباط حريتهم في عوائدهم الدينية بل كان ائتلاف المسلمين بهم حجاباً بين مصر وبين تلك الدعوة التي تعودتها أوروبا تغريراً وتضليلاً وفتحاً لباب الحروب بعلل وهمية لا وجود لها في الخارج. ولهذا نرى المسلمين متألمين من انشقاق إخوان الوطنية وحل رابطتهم التي مضت عليها القرون الكثيرة وهي أوثق رابطة عقدت عليها القلوب لا الخناصر والكل يهجس ويخمن في الباعث والعاقبة فقد أدبتهم مساعي أوروبا الخيرية ووجدوا تحت كل نصيحة من نصائحها أساليب شتى للإذلال والاستعباد على أن الأمر لو كان متمحض القبطية لساء المسلمين تنافرهم وهجرهم كنائسهم ومقابلة بعضهم بعضاً بصدور ممتلئة غضباً وحقداً بعد أن كانت وعاء ألفة ومحبة وهذه ثمرة المخالطة الأجنبية وحسنة من حسنات أوروبا التي تتصدق بها علينا. ولسنا نتكلم في الشقاق من حيث داعيه وإنما نتألم منه
من حيث هو شقاق بين طائفة صغيرة يكفي في فصل القضاء بينها أحد العقلاء حرصاً على الجنسية والجامعة الوطنية وجبرا لصدع قلوب كلها فروع أصل واحد ولا نتكلم على الباعث الديني بأكثر من أملنا في التوفيق بين الفريقين وسد الآذان عن سماع الأصوات الأجنبية التي تحرك النفوس وتظلم القلوب وتدخل المجموع تحت كلية اتفقنا واختلفتم لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
فيا بني مصر لم تبق قطعة في الأرض إلا والجرائد تنقل لكم أخبارها وتريكم أعمالها فإذا لم يكونوا أهلاً لاختراع كما قال لكم أحد الإنكليز فقلدوا عقلاء أوروبا في أفعالهم وكفاكم الاغترار بترهات المضلين واللياذ بالأجنبي الذي سلبكم ثوب المجد ولم يبق إلا أن يأكل لحمكم ويشرب دمكم غيظاً على أمة تدفعها الطوارئ إلى وهدة المصائب وهي قادرة على دفعها ولا تتحرك ولا حركة مذبوح. ليُعد المسلم منكم إلى أخيه المسلم تأليفاً للعصية الدينية وليرجع الاثنان إلى القبطي والإسرائيلي تأييداً للجامعة الوطنية وليكن المجموع رجلاً واحداً يسعى خلف شيءٍ واحد هو حفظ مصر للمصريين. أيكفينا من الثروة أن نرى أكبر تاجر منا لا تزيد ماليته عن عشرين ألف جنيه وإذا عددنا هذا القسم قلنا واحد اثنان فإذا انتهينا إلى التاسع وقفت بنا الأعداد، أما تتحرك الهمم الخامدة لفتح محال التجارة وشركات وطنية تجمع من سهام قليلة فتربح كثيراً وتفتح بيوتاً أغلقت أبوابها أو كادت أعجزنا عن مجاراة
الأمم حتى في هذا العمل الذي يقوم به الأميون والجهلاء الذين تبعثهم ضرورة المعاش إلى اتخاذ طرق الاتجار بالاتحاد. ألا تقدرون على عقد شركات تشتري أجزاء من أطيان الدومين أو الدائرة لتربحوا منها
وتستخدموا فيها أخاكم الفلاح وتعوضوا بعض ما أضاعه الإسراف في الملاهي والخروج عن الحد وصيره في يد الأجنبي. أفلا يحسن في أعينكم أن تفتحوا مدارس لأبنائكم تهذبونهم فيها وتعلمونهم وتحولون بينهم وبين الوجهة الأوروبية التي تغرسها ببلادنا مدارس أوروبا في أذهانهم تداركوهم قبل أن تفقدوهم. عرفوهم أنكم آباؤهم قبل أن ينكروكم. لقنوهم ما أنتم عليه من الدين قبل أن يخالفوكم. حفظوهم تاريخ بلادكم وأجدادكم قبل أن يجهلوكم. ردوهم إلى الوطنية قبل أن يحملوا سلاح العداوة ليتقربوا بدمائكم إلى من ربوهم وتبنوهم ((جاوزَ الحِزَام الطُبْيَيْن)) ومرق السهم من الرمية وأصبح لفيفهم ينادي غافلكم
فإن كنت مأكولاً فكن خيرَ آكالي
…
وإلا فأدركني ولمَّا أُمزَّقِ
وارحمناه لصبية وضعهم الله تعالى أمانة في أيدنا فخناه فيهم وأسلمناهم إلى أجنبيٍّ يسقيهم شراباً ما شربه الآباء ويسوقهم في طريق ما سلكه الأجداد وكلنا نعلم ذلك علم اليقين وفيه القدرة على حفظ ابنه من هذه النزغات السيئة ولا ندري ما يمنعنا من ذلك أأخذت أبناؤنا في الحديد وسيقت إلى هذه الساحات الأجنبية لا والله. أم أكرهنا الحاكم على إرسال أبنائنا إلى الفرير والأمريكان وغيرهم لا والله. أم جهلنا ما يتعلمونه من مغاير الدين واللغة والعادات لا والله. نحن الذين سلمناهم بأيدينا وصرفنا على إخراجهم عنا من مالنا ورضينا بما هم فيه من النقل وسوء التعليم فنحن عنهم بين يدي الله مسؤلون. نعلم أن أوروبا لا تعطي شهادة لتلميذ إلا إذا أحسن لغته كل الإحسان ولا تدخل تلميذاً يغاير التلامذة مذهباً إلا إذا صلى على مذهبهم أو
يبعدونه عنهم وتنقل لنا الجرائد أخبارهم وسعيهم خلف تعليمهم الوطنية وحقوق الجنسية فهذه إنكلترا الحريصة على جنسيتها المتعصبة لدينها أشد التعصب تطالب الأمة بتعليم أبنائها حقوق الوطن والجنس مع أنه ليس وراء ما هي فيه من ذلك مطلب لطالب. وهذه فرنسا تصدر المناشير إلى الكنائس تلزم الأمة جميعها بالصلوات لله تعالى رجاء أن يخلصها من العراقيل التي هي فيها وهاتان هما الدولتان اللتان تدعيان انحصار المدينة فيهما فلم لا نقلدهما في المحافظة على الوطنية والجنسية والدين وننادي
بذلك في القرى والمدن وحجتنا حجتهم حاجتنا حاجتهم. نرى كثيراً من الشرقيين بل المصريين يحومون حول حمى الأجنبي لياذاً به وطلباً لمعروفه فهل تناول منه إلا لقمة لو لم يجده لطرحها للكلب لكونها فضلة طعامه وفتات خوانه وهل جلس في حضرته إلا مهيناً مزدرى منظوراً إليه بعين الاحتقار بل الاستعباد وهل مكنه من أضعف الأعمال ألا يستعمله آلة في تنفيذ آماله وتحقيق أمانيه وهل بش في وجهه مرة إلا ليدخل عليه غفلة الرحمة والحنان ليصرف أنظاره عما يراه من سلب الحقوق. آن والله أن يتبصر المصري ويشابه رجال أوروبا في الأخذ بالحزم والاعتماد على صدق العزم حرصاً على ما بقى وطمعاً في فرص المستقبل وتحقيقاً لآمال الإنكليز في صلاحنا على أيديهم حتى لا يبكتونا بقولهم لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
((طول العمر يبلغ الأمل)) وبالرفق يستخرج الإنسان الحية من وكرها فلا يحملن الطيش إلا حمق منا على التهور والتخلق بأخلاق البهيم فإننا نعلم إن صيانة بلادنا موقوفة على حفظ الراحة ومعاشرة الأجانب والنزلاء
بالمعروف وبقائنا على الهدو والسكون وبعدنا عن الفتن التي يحركها الدخيل والأجنبي لمصلحة دولته فيجني ثمارها ويلحقنا عارها وناهيكم مذبحة الإسكندرية التي تعيرنا بها أوروبا إلى الآن وهي تعلم من أحدثها من رجالها بحيث تسميهم رجلاً رجلاً وتقدر ما صرف للأجراء جنيهاً جنيهاً وقد نجت من نسبتها إليها وجعلتها قوباء في غرة مصر ومصر بريئة منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ولا ننسى العار الذي ألحقه بنا بعض المأمورين في فتنة طنطا التي دفعته إليها اليد الأجنبية أيضاً فباء يجزي الدنيا وعذاب الآخرة ولحق ببيته غير مأجور على سعيه ولا مشكور على فعله وهذا جزاء ضعفاء العقول الذين يتجرأون على ضرر عباد الله وأهلاكهم في مصلحة من يرضيهم بما لا يساوي قلامة ظفرانسان تالله أنه لو جاز لمصري أن يصرح بكل ما يعلم لذكرنا من الحقائق العدوانية ما يكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون. وفي الإشارة ما يغني عن الخبر. فاعتبروا يا أُولي الألباب. ومن لم يقرأ العواقب وقع في المعاطب. والعاقل من اعتبر بغيره. فالله الله أيها المصريون في أنفسكم وأميركم وأعراضكم وأموالكم وبلادكم. جاهدوا أنفسكم في توحيد كلمتكم وارجعوا عجافلكم من أبواب أوروبا وفتنتها واخدموا بلادكم بظهوركم أمة واحدة واقفة على قدم الخدمة لأميرها والمحافظة على عقوقها
والمطالبة بخصائصها ولا تشغلكم المظاهر الأجنبية عن تصحيح أغاليطكم وتطهير بواطنكم ولا تطنوا أنكم عاجزون عن استرجاع مجدكم والقيام بأعمالكم فإنما أنتم بشر مثل رجال أوروبا ولكنهم تجمعوا وافترقنا وعرفوا حقوقهم وجهلناها ورفضوا نصائح الغير وقبلناها وحفظوا دينهم ولغتهم
وجنسيتهم وتهاوناً في البعض وتركنا البعض فإذا جاريناهم في طرقهم الوطنية ساويناهم في الخصائص والمزايا ودوّنَّا لنا تاريخاً جليلاً يفتخر به الأبناء وترحم بسببه الآباء عما قريب تنبش قبور آبائكم وأضرحة عبَّادكم وسادتكم لتؤخ تلك العظام النخرة إلى معامل سكر أوروبا حتى لا يبقى هناك أثر لذي مجد من الشرقيين فإن خفتم من ذلك فاتخذوا أعظم الوسائل لبقاء موتاكم متوسدي تراب قبورهم فإننا نرى الأوروبيين ينقلون عظام موتاهم من بلاد حاربوا فيها ليحفظوها في أوطانهم حتى يزورها الآتي ويقرأ تاريخا العجيب. لا تظنوا أن هذا لسان التخريف أو التنزيف فإنكم إن استبعدتم الأمر وأنتم على ما أنتم فيه من التهاون والإهمال فكل ما هو آت آت وأن تنبهتم لذلك وحافظتم على أوطانكم بالمحافظة على امتيازاتكم المكفولة ببقاء الخديوي الأعظم في منصة حكمه مؤيداً بخضوعكم إليه وتأييدكم مبادئه الوطنية وأعماله الإصلاحية رضي الله عنكم وإرضاكم وحفظت أضرحة ساداتكم وقبور موتاكم. وما زلك بعزيز على أمة خالطت كل الأمم وقرأت تواريخ الممالك وتعلمت كل ما يلزم للوطن وحكومته وساح فريق منها بلاد أوروبا وعرفوا طرق التقدم والإصلاح. أفيليق بمن هذه صفتهم أن يكون بالمذام والسعي في المضار لا والله أن هذا لمن أكبر العيوب وأعظم المصائب ومن لم تنبه الحوادث فهو الغافل ومن لم يؤدبه الماضي اضربه الآتي أفلا يحركنا قول أوروبا لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
((أنا أخوك فلم أنكرتني)) ما الشام ومصر إلا توأمان أبوهما واحد يسوءُ
الاثنين ما ساء أحدهم فلم تنافر أبناؤهما واتخاذ السوريون في جانب بعيد عن المصريين وإن ساكنوهم في مصر ألم يكن الأجدر بنا أن نصرف علومنا ومعارفنا وقوانا العقلية في صلاح بلادنا وبث روح العلم والحياة الوطنية فيها. أبراتب قدره عشرون جنيهاً يبيع المرء منا أخاه ووطنه بل جنسه ودينه أم بكلمة تغرير نصرف حياتنا في خدمة الأجنبي لنعينه على إخواننا لينتقم منهم بغير ذنب ويجني على غير جانٍ. بئس والله ما أوصلتنا إليه هذه الخزعبلات التي
نسميها بالعداوة في غير مصلحة جهلاً وحماقةً. فضحنا أنفسنا بنقل عوراتنا للغير سفاهةً وجنوناً. بعنا هيئتنا للأجنبي بلا ثمن خبلاً وبلاهة. ولو اجتمعت كلمتنا وائتلفت نفوسنا وصفت بواطننا وصرفنا هذه الهمم في حفظ الوطنيين وإعلاء كلمة الجنسين لحسدتنا المعالي ووقفت أوروبا تنظرنا بعين الإعظام والإجلال ولكن قضت شقوة الشرقيين أن يكونوا كحظب النار يأكل بعضه بعضاً لينتفع الغير بنارهم اصطلاءً وطبخاً واستعمالاً فيما يشأ. والعهد قريب والعود غير عسير فما نتكلف في جمع الكلمتين وتوحيدها أكثر من الانصراف عن شياطيننا الذين قاموا فينا خطباً ووعاظاً بدروس يتلقونها اليوم بعد الآخر عن الأجنبي وتبادل الزيارات والمسامرة في المجامع وإخلاص السير وما ذلك على الله بعزيز وإلا إذا بقينا على هذا التنافر والتضاد اتخذنا الأجنبي آلات لتنفيذ أوامره فيوقع بيننا العداوة والبغضاء وربما انتهى الأمر إلى ما لا تحمد عقباه بجهالتنا واعتمادنا على العضد الأجنبي وفي ذلك من الخزي والعار مالا تمحوه أكبر الحسنات. واأُسفاه رجال قضى أباؤهم الدهور الطويلة يتبادلون العمران والاستيطان
لا يفرق بينهم دخيل ولا يقطعهم عن بعضهم أجنبي فجاؤا من بعدهم وخالفوا سيرهم وحالفوا غيرهم وخدموا الأجنبي بمساعدته على التداخل في بلادهم بل على الاستيلاء عليها لا لعداوة بين الأمتين ولا الحرب جرت في الوطنيين بل برغيف يحصله الزبال وخرقة يملكها الشحاذ. وإن قيل إن جامعة الدين اضطرتهم قلنا إن عز الاستقلال بالوطنية خير من الإزلال بجامعة الدين فإن الأجنبي يغر الرجل منا حتى يوصله إلى غرضه ثم يلحقه بغيره عند تمام الاستيلاء ولا يعرف له حقاً غير خدمته ولا يفرق بينه وبين من غايره ديناً في الاستخدام والاستعباد. أنقول هذا وقتنا فنحصل به لذاتنا البدنية البهيمية ولا نبالي جاء المستقبل على أهلنا وإخواننا بالعز أو بالهوان. بئس ما يختاره الرجل لنفسه من أن يطعم لقمته مغموسة في دماء جنسه وإخوانه. أن البهيم ليدافع عن جاره فضلاً عن نوعه فكيف يرضى العاقل أن يكون أقل فضيلة من البهيم. إن كان هناك اعتقاداً بجنة ونار فتقربوا إلى الله بما يدخلكم به جنته وليس ذلك إلا بالبعد عن مساعدة الأجنبي على إخوانكم وإن كان الاعتقاد وجود الله وخلود النفس فقط أو لا رب ولا إله كما يقول الفريق المدني الأحمق فبيضوا صحائف التاريخ بمجد خالد وذكر جميل وإن كان لا اعتقاد رأساً ولا مجد ولا شرف وإنما هي بهيمة محضة تبعثنا الطبيعيات
فيها إلى ما لا تعلق للعقل فيه فيا سوء ما وصلنا إليه. وبالجملة فإن آخر الدواء الكي وقد بلغ السيل الرُّبى فإن رفاءنا هذا الخرق وشددنا إزر بعضنا وجمعنا الكلمة الشرقية مصرية وشامية وعربية وتركية أمكننا أن نقول لأوروبا نحن نحن وأنتم أنتم وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ بالأجانب فريقاً بعد فريق حق لأوروبا أن