الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 41
- بتاريخ: 3 - 8 - 1893
محمدةٌ عُدت مذمة
لا يخفى على أهل العلم أن الزجل من أبواب الشعر كالدوبيت والقوما وكان وكان والموشح موقد تناظر به كثير من الشعراء وافتخر بأحكامه بعض الأدباء حتى عدت صناعته أصعب من قرض الشعر إذا كان مشتملاً على المعاني الغريبة مسبوكاً في قوالب لطيفة فالتفنن فيه من محامد الشعراء لا من مذامّهم وقد كنت أحاول نظم شيء منه في الأيام الخالية فيتعاصى لعدم الباعث ثم اتفق لي أني كنت بمولد سيدي أحمد البدوي رضي الله تعالى عنه سنة 1294 هجرية وكان معي السيد علي أبو النصر والشيخ رمضان حلاوة والسيد محمد قاسم والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري فجلسنا على قهوة الصباغ نتفرّج على أديب وقف يناظر آخر فلما فطن أحدهما لانتقادنا عليهما استأنف أخاه إلينا وخصانا بالكلام فأخذا يمدحاننا واحداً فواحداً إلى أن جاء دورهم إليَّ فقال أحدهما يخاطبني
أنعم بقرشك يا جندي
…
وإلاّ اكسنا أمال يا أفندي
إلا لا وحياتك عندي
…
بقي لي شهرين طول جيعان
فقلت على سبيل المزح معه
أما الفلوس أنا مدّبشي
…
وأنت تقول لي ما مشيشي
يطلع عليَّ حشيشي
…
أقوم أملَّص لك لِودان
ثم أخذنا نتبادل الكلام نحو ساعة حتى غلباً عند ما فرغ محفوظهما فلما قمنا وتوجهنا منزل المرحوم شاهين باشا وكنا نازلين عنده جميعاً أخبره السيد على أبو النصر بما كان مني مع الأديبين فلما أصبحنا استدعى شاهين باشا شيخ الأدبية وطلب منه أن يستحضر أمهر الأدبية عنده ووعده أنهم أن غلبوني يعطهم ألف قرش وأن غلبتهم يضرب كل واحد منهم عشرين كرباجاً فرضي بذلك واستحضر الشيخ داود والحاج إسماعيل الشهيرين بعمل الزجل وإنشاده ارتجالاً في أي غرض واستحضر معهما ستة من أشهر الحفظة المقتدرين على ارتجالاً في أي غرض واستحضر معهما ستة من أشهر الحفظة المقتدرين على الارتجال أيضاً وعقد الباشا لذلك مجلساً إمام بيته بطنطا وأجلسني بينه وبين المرحوم جعفر باشا مظهر وقد وقف الناس أُلوفاً والعساكر تدفعهم عنا ثم ابتدأ الشيخ فقال:
أول كلام حمد الله
…
ثم الصلاة على الهادي
ماذا تريد يا عبد الله
…
قدَّام أميرنا وأسيادي
فقلت
أنا أريد أحمد ربي
…
بعد الصلاة على المختار
وإن كنت تطمع في أدبي
…
أسمعك حسن الأشعار
فقال
دعنا من الأدب المشهور
…
وأدخل بنا باب الدعكه
ندخل على أسيادنا بسرور
…
ونغنم الخير والبركه
فقلت
هياّ احتكم في البحر وشوف
…
فن النديم ولاّ فنك
دلوقت تسمع يا متحوف
…
أحسن أدب وحياة دقنك
فقال هات مدح في الحضرة على قد:
تعمل عمايلك يا منصان
…
يابو الشفيفه العسليه
يا صاحب الحجل الرنان
…
ودي الأمور الحيِليه
ماذا تريد من دي الولهان
…
قل لي وأسعف
أحسن أنا من خمر الحان
…
قصدي أرشف
وإن كنت تسمح يابو الخير
…
يبقى الوصال الدّواليه
فقلت
المجلس العالي محمود
…
فيه الأمارا والأعيان
واليومُ دا يومٌ مشهود
…
خلعت عليه حلة إحسان
شاهين باشا فيه موجود
…
حظو أزهر
أما المدير هذا المسعود
…
جعفر مظهر
فإنه في الناس معدود
…
من ضمن أرباب العرفان
دور
مجلس عليه حسن مهابه
…
كأنه مجلس سلطان
والحاضرين أهل نجابه
…
وينقدوا قول الإنسان
اترك بقي شرب الغابه
…
وأنشد نسمع
وإن كان تغني بربابه
…
تطرب مجمع
حسن الكلام مثل سحابه
…
تمطر على شجر البستان
فقال
القصد منك يانديمنا
…
تعمل زجل هِيله بِيله
إلا أنت دلوقت غريمنا
…
قصدي أحدفك بالفلفيله
وإن كنت تجهل تقريمنا
…
اسأل عنا
أوعا تعيب في تكليمنا
…
وأحذر منا
أحسن أوديك لعظيمنا
…
يشيّلك الفين شيله
فقلت
أننا صغرا له نُونُو
…
وفي الزجل منتش مجدع
اتبع نديم تلقى فنونو
…
تأتيك من المعنى الابدع
أما عظيمك وجنونو
…
يأكل نفسه
وإن كان يعارض بمجونو
…
يطلب عكسه
لأن فني وشجونو
…
لكل متعنطظ يردع
وبعد أن دار الكلام بيني وبينه في كثير من هذا الوزن قام الشيخ داود وقال:
قصدي أقولُ كلاماًيحكي لضمات الزهورهات أشجنا بنظام
من فن كان وكان
ادخل بنا لمعانكالبكر من خلف الستورفي قلب متحلٍّ
في النظم إلاتقان
فقلت
اسمع كلام نديممن طيه كل السرور وأعقل نصيحة حبر
يدعوك للعرفان
لا تستخف بخصم لو كان من أوهى الطيوروأصفح فكل صفوح
يعلو على الأعيان
وأخش اللئيم دواماًفاللؤْم داع للشرورواحفظ مودة حر
في عهده ما خان
لا تصطحب بوضيعينزلك عن سرج الظهوروأصحب أخيّ شريفاً
وأطلب رضا الأخوان
وأنزل ببيت كريمإن كنت ضيفاً في العبور واسمع سؤال فقير
أودى به الحرمان
هذى نصيحة حرقد جرب الدهر الجسورإن كان يعجب هذا
أولا فخذ تبيان
فالبحر بحر لآلٍإن قُلدت زانت نحوروالفكر فكر ذكيّ
لا يعرف النسيان
فأعرض عن كان وكان عجزاً منه وقال هات فخراً على؟؟
يا صبا نجد ورامه
…
هجت للمشتاق وجدا
كل صبّ في غرامهُ
…
ما اشتكى في الليل سهداً
عنفوني عذبوني
…
ذقت في التعذيب شهداً
والهوى أحرق ضرامه
…
كل أحشائي وقلبي
فقلت
فخر مثلي في بيانُه
…
والغبي يفخر بمالهُ
والأدب أحسن صفاتي
…
فالذكي حسنوُ كماله
واللبيب يظهر بعلمو
…
والغلام مجده جماله
كل قول المرء يفنى
…
غير محمود المآثر
فقال
فخر مثلي في نكايت
…
تضحك الشيخ العبوس
ألحس المعنى برجلي
…
وأشرب القول بالكؤُس
لا تلم من قال حظي
…
وائتناسي بالفلوس
لا تقل زيد وعمرو
…
ليس في النحو مفاخر
فقلت
الفلوس حظ المفلس
…
والجعيدي والحرامي
والعلوم روض الأكابر
…
لطفها في العقل نامي
والمضاحك والمساخر
…
مالها دخل فْ كلامي
كل مضحك بين قومو
…
مسخره للمجد خاسر
فقال
ساعة الحظ وحيده
…
عند محبوب وحان
لا أُبالي يوم أُنسي
…
بالمعاني والبيان
منتهى قصدي فلوس
…
تملأ البيت بالأوان
إن كيسي أن كيسي
…
مجمع الدنيا ولآخر
فقلت
كل ما في الكيس بفارق
…
يادَوُد فاسمع وفكر
والفخار والمجد كلوُّ
…
في العلوم فاطلب وبكّر
وإن تكن شيخ حق عالمٍ
…
فامش بين الناس وذكر
تحي كل الناس بعملك
…
بل ترى المجموع شاكر
وبعد مبادلة الكلام في هذا الوزن نحو نصف ساعة قال هات عزلاً على قد:
مدود حمارك مطرحو في الغيط
…
في جنب بستان الأمير
وإن كان يجي لك لدارك أربطو في الحيط
…
أحسن يبرطع في الحمير
وإن كان مكسر فأنو يمنعك مِن الميط
…
وقت السفر في الهجير
أوعا حمارك يا فتى أوعاه
…
أحسن ما تمشي عَ القدم
فقلت
من يوم عرفتك والفؤَاد ولهان
…
في حسنك الزاهي النصير
والخد من دمع العيون ريان
…
تجري عليه كالغدير
أبيت ليلي بالأرق سهران
…
بين الكراسي والسرير
وكل وِردي في الدجى آه آه
…
من يستطع من يصبرِ
دور
قلبي المعذب في لهيب الخدود
…
والوجد في الأحشا جحيم
بالله من أوراك باب الصدود
…
لقتل مضناك العديم
أين الوفا يا منيتي بالوعود
…
ورقة القلب الرحيم
أواه من نار الجفا أوّاه
…
لو يعشق الريم يعذرِ
دور
قد كان لي سعد السعود خدام
…
لما التقينا في الطريق
وقلت بالحاجب أروح قدام
…
وأنت ورايا يا صديق
فصرت أنظر للقوام القوام
…
وعادل القد الرشيق
حتى ملكت الروح وأروحاه
…
لو يرجع اليوم ينظرِ
دور
قال المدلَّع عاشقي ما الحال
…
جفني جرح منك الفؤَاد
طم من شجي مثلك سباه الحال
…
حتى غدا خصم الرقاد
قلت أرحمو من في التصابي مال
…
عن كل أبواب الرشاد
قال أن ترم مني الوصال وصفاه
…
هات اليمين الأكبر
ثم طلبت منه أن يأتي باليمين من هذا الوزن فوقف فقصدت الحاج إسماعيل فوقف فطلبت من الستة فوقفوا فقال المرحوم شاهين باشا نحسبها لك واحدة ثم قال الشيخ هات غزلاً بمعنى بديع على قد:
اهيف رشقني بقوام مثل المران والوجد عذبني بناره
فقلت له أقول تحميلة وتقولون أخرى من جنسها فقال هات فقلت:
يأهل الصبابا يا عشاق سلوا المشتاق فالعشق مالو غير أهلُه
فوقف الجميع ولم يستطع واحد منهم الدخول معي في هذا المضيق فقلت ومشيت إلى آخر الأدوار الآتية:
أشكو إليكم أحزانيبل هجرانيمن أهيف صادني نبُله
أهيف بنظره في خدهخدني عبدهوجت سقامي تشهد له
وأدمعي نزل تجريتنظر صدريرأت فؤَادي بيرقص له
قالت لو اتلفت عيونيقال سيبونيسيد الملاح يعرف شغله
ما دمت إني في رقهياخد حقهوأن مال لعتقي من أصله
أنا خديم ولاّ أكترالله أكبرالعشق ما ينكر فضله
العشق ترياق الأرواحوياّ الأشباحوَنضا الذي طاب لي نهله
ما يعرف العشق الأجلافياهْل الأنصافما للعذول يكثر عذله
عاقل رأى مجنون يشربحتى يطربفراح شعوره مع عقله
ومال لعذلي يتفرَّجبل يدّرّجللعشق لما حان قتله
ظن الغرام قصعة فنهفوقها حتهمن لحم قد طاب لو أكله
لما رآه سلب الألبابخاف الأسبابوراح يعضعض في نعله
وصرت وحدي متهنيأفضل أغنيللحب أن شخشخ حجله
أرى النجوم والنار تكويقلبي المشويوالوجد كتفني بحبله
قد بعت روحي للفتانمن غير أثمانوبعت ملكي من أجله
كيف الخلاص والقلب كسيروالصب أسيروالجفن يجرحني بنصله
والشهد في ثغر المحبوبهوّا المطلوبلكن أخاف قرصة نحله
خالو يلوح كالشمسيةفي الظهريهوالخد نايم في ظله
عزمت وجدي يتعشّىجوا الأحشافجِه بخيله مع رجله
والصدر وسع لو النادييا أسياديوالكبد قامت تطبخ له
والعين كبت خمرتهامن فرحتهاوالقلب قابلنا بطبلُه
قعد وربّع في صدريوالنار تجريمثل الصواريخ من حلوُله
لما رأى روحي وجديأتلف كبديبعث رساله مع رُسله
يقول يا مسكين مالكبين حالك عسى يكون عندي حله
فقلت يا سيد عبدكمن نار خدك حرق اللهيب جسمه كله
أخذت حبيب قلبي النخوهبعد القسوهوجا يغازلني بدلّه
خطر ولكن في قلبيبهجة لبيوجاد لمسكيغو بوصله
من فرحتي هرولت أبكيمن غير ما شكيوالدمع من كترو بلّه
حركت قلبو للرحمهمن دي الفحمهفجاد بياسمينو وفُلّه
فقلت أحييت الفاني يا إنسانيالله يجازيك بفضله
وكان ما يرجو العاشقغير الفاسقوالسر لا يحسُن نقله
وإلى هنا صفق الباش والحاضرون ثم عدنا للزجل المعتاد بما يطول ذكره فإن الشيخ رمضان كتب من زجل هذا المجلس خمسة كراريس وكله محفوظ عندنا لم يضع منه شيء وقد استمرت هذه المناظرة ثلاث ساعات فرجل تكون بديهته هكذا لا يذم بمجلس كهذا بل يمدح فإنه قل أن يدخل معه قوّال في هذا المضيق البديهي ولو أن أصحاب المقطم يعلمون حقيقة هذا المجلس ما قبلوه من المكاتب على أنه ذم فإنه من أحسن ضروب المدح والفخر أما مسألة المنصورة فسنأتي عليها في عدد آخر فإنها لا تقل عن هذه بل تزيد لما فيها من بداهة الشعر الجيد في مجلس خاص بالشعراء وما دعانا لهذا البيان إلا لكون هذه الحالة محمدة عدت