الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 2
- بتاريخ: 30 - 8 - 1892
الحياة الوطنية
يزعم كثير من الناس أن الحياة الوطنية هي الجَمْهَرة أي تجمع الأمة في مكان متكثّرين متضامّين وليس كذلك. فإن وفرة العدد والتجمع لا يغني شيئاً مع الفراغ مع العلوم والصنائع الموصلين إلى توسيع دائرة العمران وحفظ الوطن مع العاديات بما ينشأُ عن العلوم من احتكاك الأفكار وتبادلها في تناول بواعث الاختراع والإتباع وبث النظام الهندسي والتحفظ الصحي والتحصن العسكري والإصلاح الزراعي والضبط الحسابي والإبداع الإنشائي والتعميم التجاري والتسهيل الآلي وحفظ الوحدة الوطنية في الأجناس القاطنة فيما يسمى وطناً بتوحيد القضاء والمعاملة وتمكين الطوائف من إجراء عاداتهم في مجامعهم وأعيادهم كلٌّ بما هو حق في معتقده جميل في عادته بلا حجر ولا تضييق وإطلاق حرية الإنشاء والمطبوعات إلى حد لا يبلغ تشويش الأفكار ولا المطاعن الدينية ولا
الأهاجي الشخصية وفتح باب الاستيطان والمرور لمجاور ومعاهد وبعيد غير محارب وتبادل السياحة وتلقي المعارف بين الأمة ومعاهديها توسيعاً لنطاق الآداب والفنون وتعميم الأمن في أنحاء الوطن بضبط الوقائع والتضييق على الأشقياء واللصوص بالعقاب الشديد والتبصر ومراقبة أحوال الأفراد والالتفات إلى الأحزاب المضادة للوطن أو الدين أو السياسة وتبديد جموعهم أولاً فأولاً حرصاً على بقاء الملك وحفظاً للوحدة الوطنية من تجزيئها حول الأهواء والمقاصد المضرة أهلية كانت أو أجنبية.
وكل هذا لا يحصل بالتجمهر المجرد والتجمع البسيط إلا ترى أن هذا التجمع الخالي من المعارف لم ينفع فرانسا وانكلترة أيام مغالبة الرومانيين لهما واستيلائهم على المملكتين الأولى سنة 94 والثانية سنة 98 ولا نفع البروسية حين تغلبت عليها الطائفة التونيقية تحت رئاسة البرت البرند برغي سنة 1249 ولا أهالي اغرونلند حيث تغلب عليهم البرتوغاليون سنة 970 كما تغلبوا على الكاب سنة 1483. ولا أهل كندة (بريطانية الجديدة) حيث تغلب عليها البنادقة سنة 1498. ولا البرازيل حيث تغلب عليها الإنكليز سنة 1514. ولا بلاد الشيلي حيث فتحتها أسبانيا سنة 1514. كما فتحت بونس إيريس سنة 1515. وبلاد برغة سنة 1518. وبلاد المكسيك سنة 1521. وبلاد غوتيملا سنة 1523. وبلاد البيرو سنة 1524. وجزائر لوكيه وانتيلة سنة 1494. وبلاد كلومبيا سنة 1635. ولا نفع ايتاليا عند وقوعها في أيدي فرانسا ولا غير هذه من الممالك شرقية
وغربية فإن كثرة العدد مع فقد النظام والعُدد لم يفدها غير الدمار.
فلما تربت هذه القطع تحت أحضان بعضها البعض وتحلى أهلها بالمعارف وملكوا زمام الصنائع دعتهم الأنفة من ذل التابعية لطلب عز الاستقلال الجنسي وإظهار المجد الوطني فقامت الطائفة المسماة أفرنكة وخلصت غالة (فرانسا) من الرومانيين سنة 594 وقام الإيكوسكيون وخلصوا بريطانيا سنة 448 ثم قامت طائفة الانكلو سكسونه واستبدت على الايكوسيين. وتخلص البرتوغاليون من أسبانيا واستقلوا سنة 1640. وخرجت سيسيليا (صقلية) من يد فرانسا سنة 1283.
وخرجت اغرونلند من يد البرتوغال سنة 1408 ثم عادوا تحت سطوة الإنكليز سنة 1721. وخرجت البرازيل من يد الإنكليز سنة 1722 وامتدت الحرب بين انكلترة وايتازونيا (أمريكا المتحدة) من سنة 1775 إلى سنة 1782 حيث خرجت من يدها واستقلت ثم حاربت أسبانيا فخلصت منها افلوريده سنة 1803. وتخلصت ورتمبرغ من النمسا سنة 1806. وانفصلت سكس من النمسا سنة 1806. وتغلبت انكلترة على الكاب وطردت الفلمنك منها سنة 1806. واستقلت بونس ايريس من أسبانيا سنة 1810. واستقلت بورغة سنة 1811. واستقلت كولمبيا سنة 1811. واستقلت غوتيملا سنة 1812. واستقلت هانوفرة من النمسا سنة 1814 وانفصلت طسكانه من ايطاليا سنة 1814. وانفصلت برمة من النمسا سنة 1814 كما انفصلت مودينه وهسالراره منها في تلك السنة. وتغلبت انكلترة على جزيرتي موريغه وردريغه وأخرجت فرانسا منهما سنة 1814 وانفصلت ممالك جرمانيا المتعاهدة من
حماية فرانسا سنة 1814. وتغلبت انكلترة على جميع أراضي غيانة وطردت الفلمنك منها سنة 1814. واستولت الروسيا على مملكة له (بولونيا) سنة 1814. وتخلص الفلمنك والبلجيك من فرانسا سنة 1815. وتخلصت الشيلي من أسبانيا سنة 1818. وتخلصت المكسيك من أسبانيا سنة 1820. وتخلصت جزيرة انتيلة الصغرى من فرانسا سنة 1821. وتخلصت البيرو من أسبانيا سنة 1821. وتخلصت كلومبيا من أسبانيا سنة 1822. وتخلصت البيرو العليا من بونس ايريس سنة 1825 وكل ذلك بتربية الأمم تحت أحضان بعضها البعض وتعليم الجاهل وتنبيه الغافل حتى إذا انبعثت الحياة الوطنية في أمة سارت خلف شرفها بما يؤهلها به العلم للسعي خلف
الكمال. وبهذه الحياة تغلبت الدول وتلونت بألوان شتى وتشكلت فتوحاتها وتقهقرها ومدنيتها وتوحشها وانحطاطها وارتفاعها وتابعيتها واستقلالها أشكالاً يخرجنا استقصاؤها عن الإيجاز اللازم للجريدة.
وهذا الذي ساق الأمم المحكومة بالغير لطلب عز الاستقلال فكثرت الثوار في جميع الأقطار بالتقليد لا بالعلم والمادة وهل ينجح ثائر تجردت جماهيره من المعارف وبعدت عن الصنائع والتفنن في الآلات واندفعت خلف الأهواء يسوق بعضهم بعضاً لغاية شخص أو تعصب رجل وقد كان الشرق قبل الفتح الإسلامي أمماً وقبائل وممالك مندفعة خلف العدوان بباعث الهمجية والفراغ من المعدات الكمالية يورّث الكبير الصغير الضغائن والأحقاد بين أهل بيت يجمعهم أب وقبيلة ترجع إلى أصل
واحد فكانت أكف الشرقيين ملوثة بدماءِ الإنسان ونفوسهم جارية خلف التدمير والتخريب والحروب متواصلة تواصل أمواج البحار في الساحل كلما سكنت حرب قامت أخرى وكلما هدأت فتنة تحركت ثورة. لا يفتخرون في محافلهم وأشعارهم إلا بإزهاق النفوس وسبي الأبناء وثلم الأعراض وتخريب البلدان حتى كان يزين أميرهم مجلسه برؤُس الأمراء والعظماء والنبهاء الذين سقى الأرض دماءهم وخرب ديارهم. فكان الكل على التقاطع والتدابر ولا أمر على التجارة ولا وجود للسياحة ولا انتظام في السياسة ولا عهود للممالك والقبائل ولا وصول للمعارف مع هذه النيران الدائمة الوقود. فلما جاء الإسلام جمع هذه العشائر والقبائل وكثيراً من الممالك تحت سلطة واحدة وذلل النفوس العاتية وجمع الشعوب النافرة وألف البطون المتباغضة ووحد الحكم في محكوميه على اختلاف الجنس والدين والوطن وأنزل المجموع منزلة أهل بيت وجعلهم أعضاء لهيكل القوة الحاكمة فمالت إليه النفوس واتحدت الكلمة وائتلفت العشائر وجعلوا وجهتهم مساعدة هذه القوة بالنفس والنفيس يستوي في ذلك المسلم والمسيحي والإسرائيلي والمجوسي وغيرهم يدعوهم لذلك وحدة النظام وتمتعهم بأديانهم وعاداتهم ولغاتهم لا يجبرون على ترك اللغة ولا يلزمون بتعلم العربية ولا يكلفون بترك أديانهم ولا يقهرون على التخلي عن أملاكهم. أرواحهم وأموالهم تحت رعاية وكفالة وحراسة الراعي الأكبر والعلوم متبادلة بينهم تعلما وتعليما يأخذ كل عن وطنيه ما يراه من العلوم النافعة والأندية ملآى بالجموع المتغايرة جنساً
وديناً يتبادلون الحديث على اختلاف شجونه وشؤُنه.
ثم اعتنى القائمون بالأحكام بالمعلمين والكتب فاستدعوا كثيراً من أفاضل الدنيا وترجموا ألوفاً من كتب القدماء وربوا العدد الكثير حتى ظهر العلماء والفضلاء والحكماء والأمراء وتحلى الشرق بحلية علمية وتزين بزينة عمرانية لا يحفظ التاريخ مثلها عن المتقدمين وإن قيل بما يقرب منها ففي قطعة من الأرض صغيرة لا في هذه الممالك الواسعة والأقطار المتباعدة كل هذا تم لرعاة المسلمين والمواصلة متعذرة والتجارة ضعيفة والأمم متقاطعة والحروب قائمة والطرق مخوفة فلا وأبورات بحرية ولا برية ولا تلغراف ولا معاهدات تجارية دولية ولا آلات مخترعة بل بالحياة الوطنية وضعوا قدماً في آسيا وقدماً في أفريقيا وتخطوا لأطراف أوربا فتحاً واستيلاءً.
فسمع الغرب صدى صوتهم ورأى سيل الفتوح منحدراً نحوهُ وعلم أنه إني بقي على التخاذل الحاصل فيه وبقيت أقطاره ممالك ودوقات وكونتات وجمهوريات وكل يرى استقلاله وانفراده عن الغير أولى له من الانضمام والاتحاد لا بد وإن تربط خيول العرب في أواسط أوربا. فتنبه النائم وتراجعت الملوك والأمراء إلى المخابرات والمعاهدات وعملوا بما أخذوه من سياسة العرب من التجمع والأخذ بالمعارف والصنائع والاستماتة في وقاية أوطانهم بتوحيد الكلمة الدفاعية بالجامعة الدينية. ووقفوا أمام الشرق دفاعاً وحفظاً للوطن وقد احتكت أفكارهم بأفكار الشرقيين فتنوروا بما أخذوهُ عن مدارس العراق والغرب وتلقوا فنون السياسة والحرب من مبادلة الأحوال بينهم وبين الأمويين والعباسيين والأدارسة وأمويي الغرب والملثمين والترك
حتى تمت معدات الحياة الوطنية فتخلص كثير من الممالك إلى الاستقلال بعد التربية تحت أحضان الشرقيين. ثم كانت الحروب الصليبية فاختلط الفريقان ودام الالتحام الدموي بينهما قرنين أخذ الغربيون فيهما كثيراً من فوائد الشرقيين ونقل الشرقيون كثيراً من عادات الغربيين وأخذ كل يزيد وطنه بسطة وحسناً في العمران.
وعندما انعكست الدورة الشرقية وتقهقر العلم وأخذت الجهالة تنتشر في الأقطار الشرقية اشتغلت الأمم الغربية بالعلم والصناعة وبذلوا فيهما نفيس الوقت والمال وعقدوا لهما الجمعيات وفتحوا المدارس وجلبوا موارد الصنعة والتجارة من جميع الأقطار تعظيماً للثروة فحييت أوطانهم حياة طيبة وخيمت عليها السعادة فكانت رجال المعارف أرواحاً في
هياكل مجامع الأمة تحرك قواها للسير خلف المدينة والاستعمار. وقد تعلم الغربي طريق الشرقي التي بها جمع هذه الجموع وشقها من جذوع أوطانها وأجناسها فأخذ يلقي العداوة بين الملوك والأمراء ويغري الرؤُوس على الشقاق والثورة ليمزّق ثوب المجتمع الشرقي بيد أبنائه ويحفظ لنفسه حق الوثبة عندما تضعف قوى الجار وتتخاذل جموع التخوم. فانتشرت الفتن وثارت الحروب الداخلية وكثر الثوّار وضاع الأمر وانتشر العيث والفساد فنزعت العروق إلى أصولها وتراجعت الوحدات الدينية إلى مماثليها وحيطت التخوم بالأمم المهاجمة ووقع الشرق في الهرج والمرج حتى قامت الدولة العثمانية فتداركت بعضاً ثم ضمت الكل وجمعت تحت سلطتها ما تمكنت منه في ذلك العصر المظلم والوقت الضيق وقامت تقابل الدول وحيدة وتماثلها قوة وعصبية وتجاريها استرجاعاً وفتوحاً.
فبهذا نعلم ونتحقق أن الحياة الوطنية هي انتشار المعارف والصنائع في الأمة وأن التهور والتذمر مع الجهل والفراغ من المعدات لا يفيدان إلا الخذلان. إذ ليس لطالبي المعارف والصنائع سلم يُرتقى عليه إلى الحياة الوطنية إلا الهدوء والسكون وقطع الوقت في تحصيل المراد منها حتى تتهذب الأفراد وترسخ أقدام الآخذين بيد النظام هنالك يُعرفون بين الأمم وتُظهرهم الحياة الوطنية ظهور من جاروهم في الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم. وهذه حوادث الدول ووقائع الأمم تتلو علينا دروساً تهذب النفوس وتسكن الطائش وترد الأمم التائهة في فدافد الجهالة إلى رياض العلم والرفاهية. ولا ينسى هذه الدروس إلا غبي نسبته إلى الوطن نسبة البهيم العامل المسير بلا إرادة. وقد دخلت مصر والأستانة والشام والغرب تحت عموم الدورة فلعبت بها أيدي الجهالة حتى خرجت الديار وتدمرت الحصون وذهبت آثار الفاتحين ومعالم المبتدعين. ثم عادت تبحث في أمور الحياة الوطنية فافتتحت المدارس الكثيرة في الأستانة ودمشق والقدس وتخرج فيها كثير من الشاميين والترك والجركس والروم والأرمن وأخذت الحياة تدب في أرواح الهياكل السياسية والمجامع العلمية والأقطار الشرقية فظهر الكثير من الأمراء وتولوا مقاليد الدوائر داخلية وخارجية ملكية وحربية علمية وصناعية. ثم افتتحت المدارس في بيروت وضواحيها وإن كان بعضها فتح لغاية دينية أو ملكية ولكنها هذبت ألوفاً من أخواننا السوريين والشاميين وتخرّج فيها مئات من الأساتذة الأفاضل وأخذوا بعضد العلم وانتصروا له بالجد والاجتهاد
حتى بعث فيهم روح الرحلة خلف الثروة
اجتناءً لثمرة أتعابهم فتخللوا بين الأمم شرقية وغربية مظهرين معارفهم قابضين على حفظ وحدة الجنس باليمنى حافظين للحياة الوطنية باليسرى عاضّين على أسباب تقدمهم بالنواجذ حتى بهروا العالم بنشاطهم وهممهم وسرعة تقدمهم في المعارف وصبرهم على وعثاء السفر وصروف الزمان ثم عممت الدولة التعليم وجعلته إجبارياً في جميع القرى والمدن وهي حسنة من حسنات أمير المؤمنين أيده الله تعالى. وانتبهت رجال الغرب في مراكش وفاس وطنجة وغيرها فأخذت تتلقى دروس الحياة الوطنية من الملاعب السياسية التي تظهرها الأمم الغربية بداعية الأطماع وحب الأُثرة فأصبحت بلادهم مدارس أفكار ومجامع جدال وقد تحولت الأفكار من السكون والخمود إلى الحركة والاشتغال ووقفوا أمام رجال الغرب يبادلونهم الأفكار والمناظرة وكيف يجهلون أمراً تتناقله الكبار والصغار عن الجرائد غربية وشرقية.
وهل يغيب عنهم أنهم في مركز حرج محاط بالطامعين فيه لا يغيب عنهم ذلك فقد دلتنا حكمة مولاي السلطان الحسن حرسه الله تعالى على التفاته لبلاده وسعيه في بث الحياة الوطنية في أنحاء مملكته ولا نلبث أن نراهم حفظوا استقلالهم بجمع وحدتهم وحياطة بلادهم بحزم وعزم ناشئين عن الأفكار ونشر العلوم وتهذيب النفوس وقطع الأحقاد ومنع التقاطع والتدابر وسير الأمة خلف النظام العام بتبادل المعاملة والمساكنة بين الأمة والأمم المستوطنين والمجتازين مع المحافظة على الحقوق الوطنية والخصائص الدينية والروابط الجنسية لتحيا المملكة حياة لا تميتها التظاهرات ولا تضعفها المجادلات فإن القوة السلمية أسرع في تحصين الممالك وأحسن من القوة
الحربية ولا وصول إليها إلا بتعميم المعارف والآداب. خصوصاً والمغربة رجال الفضل ومنابع العلم وشجعان الكر وأهل الحزم قديماً وحديثاً يشهد بذلك العدو الطامع والجار الآمل والحبيب الراجي لهم الحفظ من تفريق الكلمة وشق عصا الاجتماع معاذ الله تعالى.
وقد انتهت مصر في أول القرن الثالث عشر إلى أمية كادت تعم آحادها إذ لم يبق فيها من يحسن العبارة إلا علماء الأزهر الشريف ولا من يكتب إلا كتاب الحكومة وصيارفة البلاد. فكانت الأمة في نهاية التقهقر المدني والفراغ العلمي وبقي ذلك إلى أن جاء ساكن الجنان المرحوم محمد علي باشا ففتح المدارس لتعليم فنون الهندسة والطب والحساب والحرب وما
يتبع ذلك من فروع العلوم الطبيعية والرياضية وأحضر إليها كثيراً من أساتذة الترك ومعلمي الأجانب وجمع فيها كثيراً من أولاد الأمراء والأعيان ومن فيه اللياقة من الآحاد فنتهى دورها الأول بتخريج كثير من الترك والجركس والمصريين وتولى الترك إدارتها وأخذوا في تحسينها بما تدعو إليه الحاجة وقد وجه عنايته إليها وجعلها مطمح عينيه لعلمه أن الحياة الوطنية موقوفة على حياة المعارف وانتشارها. ومع كون نهضتها غريبة في الديار فقد ثبتت على قدم الاستمرار والنجاح حتى تهذب فيها كثير من المصريين وبرعوا في الفنون والصنائع فوزعوا في الأعمال والإدارات وقام كل بما عهد إليه أحسن قيام ثم ظهر جهابذة صاروا أساتذة ثم مديرين ثم أمراء. وما زال الحال يتقدم نحو النجاح والهمم مصروفة في تعميم التعليم والتهذيب إلى
عهد المرحوم سعيد باشا ففترت بعض الهمم بإقفال بعض المدارس حيث كانت وجهته المدرسة العسكرية وتمرينها على النزال والدفاع فقد ألجأته أحوال وقته وعوارضه لزيادة القوة استعداداً لمفاجئ كان يرصدهُ وتهيأ لمصادمة طارئٍ ينزله عن إمارته أو يبتلع دياره ثم انقضت مدته بسلام. وجاء معمم المعارف وممدن مصر أفندينا إسماعيل باشا الأفخم خديوينا الأسبق فوسع نطاق المعارف ونشرها في المدن والقرى بفتح كثير من المدارس في المديريات واستحضر ما يلزم لجميع الفنون من الآلات والأدوات وبسط يده لبذل نفيس الذهب في تنظيم المدارس ومكافأة رجالها على أتعابهم فارتقت المعارف إلى ذروة التقدم والنجاح وكثر أهل الفضل والأدب وفتفت أذهان الأساتذة بالمؤلفات وظهرت مصر عروساً في الشرق. ثم جاء على أثره أفندينا المرحوم توفيق باشا فمشى على قدم أبيه الجليل في العناية بالمعارف وأهلها وتوسيع دائرتها ومع وقوف قانون التصفية بينه وبين صرف ما يلزم لزيادة المعارف لم يقصر في تنقيح بعض الدوائر الإدارية لرد ما فضل منها على المعارف فخدم البلاد بهمته وعنايته خدمة خلدت ذكره الجميل في أمراءِ المآثر. ثم جاء الملحوظ بعين العناية الربانية أفندينا الأفخم عباس باشا الثاني وهو ابن المدارس وأخو المعارف وأبو العلوم والأمل في همته أعظم لتلقيه علو الشرقيين والغربيين ومعرفته أخلاق الأمم وعادتها فالمرجو من فضله تعميم التعليم وبسط يد العلوم على أفكار الأمة حاضرها وباديها وهو رجاء مقرون بالتحقق إن شاء الله تعالى. وكان الفضل في هذه الدوائر العلمية
وانتظامها وتأسيسها لسعادة مختار باشا وأدهم باشا
وعلوي بك ودولتلو البرنس حسين باشا ودولتلو رياض باشا وعلي باشا إبراهيم وعبد الله باشا فكري ورفاعة بك. أما سعادة علي باشا مبارك فإنه شمس نور نظامها وقطب دائرة اتساعها فقد خدم العلوم خدمة جد واجتهاد فله القدم الثابتة والأثر الخالد ومحاسنه أكثر من أن تحصى ومن أجلها دار العلوم التي خرّجت للمعارف أفاضل حازوا فضيلتي الأزهر المنير والمعارف البهية ولله مشروعه في كتاتيب الأرياف لو تم. وقد أسند أمر المعارف الآن إلى سعادتي ذكي باشا ويعقوب باشا فبذلا في تحسين الإدارة الجهد ولكننا نرجوهما توسيع الدائرة التي منها تجري مياه الحياة الوطنية فقد شاهدا نجاح أبناء البلاد في دوائر الحكومة السنية.
فهذه دائرة القضاء التي هي أعز الدوائر وأرقاها قد امتلأت بأبناء البلاد من المسلمين والأقباط وكان ظن الغير أن تقعد بهم الهمم عن الصعود لمرتقى النظام والأحكام فقبضوا على زمام المحاكم بل الحكومة بقوة عزم وحسن تبصر ونزاهة نفس وعلو همة وظهروا بين ذوي الفضل بحكمة وأعمال بهرت كل من كان يقول المصري لا ينجح في عمل. وقد شاد هذا النظام سعادات حسين فخري باشا مؤَيد الهيئة القضائية وقدري باشا وفؤاد باشا وبطرس باشا وقد قرر ما سنّوه وأقر بحسن ما اعتمدوه حضرة الأصولي البارع المستر سكوت إذ وجد النظام ثابتاً على قواعد تضارع قواعد الدول العظيمة ووجد القائمين بتنفيذ القانون لا ينزلون درجة عن قضاة أوروبا علماً ونشاطاً وعفةً وتمسكاً بالعدل. ومن ينكر عليهم ذلك
وقد انتظم كثير من القضاة الوطنيين مع القضاة الأوروبيين في المحاكم المختلطة وشهدت لهم أعمالهم بأنهم مثل الغير في العلم والنزاهة وحسن التصرف في المواد القانونية لتضلعهم بالقوانين والشرائع وإحاطتهم بما يلزم لوظائفهم العالية.
وهذه دائرة الطب أنجبت الكثير الطيب من أفاضل الأطباء وجهابذة الكيماوية والصيادلة حتى صارت البلاد روضة علم بأبنائها الأفاضل الأجلاء ولا ينكر ذلك إلا من عمي عن الأطباء المنبثين في المديرات والمراكز والأقسام والألايات والمتقاعدين والذين يشتغلون خارج دوائر الحكومة والذين تربوا في مصر من السوريين وعادوا إلى بلادهم أساتذة ودكاترة. والفضل في هذه الدائرة للطبقة الأولى والطبقة الثانية من الأطباء مثل أصحاب السعادة المرحوم محمد علي باشا الطبيب ومصطفى بك السبكي وإبراهيم بك النبراوي
وأفضل الفضلاء سالم باشا سالم وعيسى باشا حمدي وحسن باشا محمود وجستنل باشا وأحمد بك ندى وكلوت بك وفوزي بك ودري بك وهاشم بك ومحمد بك عوف وبدر بك ومصطفى بك المجدلي وهراوي بك وقطاوي بك وعلي بك رياض وغيرهم ممن اعتنوا بتربية أبنائهم المصريين حتى ملأوا البلاد بالدكاترة والأساتذة وزادوا العلم بسطة بتآلفهم النافعة ومشاهداتهم الغريبة وتجاربهم المفيدة وشروحهم البديعة.
وهذه دائرة الهندسة قد امتلأت بالمهرة الذين عمت منافعهم وظهرت نتيجة تربيتهم بتكثير البحور (جرياً على التعبير العادي في تسمية الأنهر بحوراً) والترع والقناطر والجسور والحصون والقلاع وتنظيم المدن والقرى.
وكان الفضل في ذلك للمربين الأول مثل حكاكيان بك ولمبير بك وبهجت باشا ومظهر باشا وعلي باشا مبارك وثاقب باشا ومحمود باشا الفلكي وإسماعيل باشا محمد وعلي باشا إبراهيم وأستون باشا وحماد بك وأحمد باشا فائد وأحمد أفندي دقلة وأحمد أفندي طائل ومرعشلي باشا وأحمد بك كوجك وغيرهم ممن ظهرت ثمرة أتعابهم بتخريج كثير من المهندسين الملكية والحربية.
وهذه دائرة الحربية قد ربّت طبقات عديدة ودخلت بهم في الحروب والأسفار منفردة مرّة ومجتمعة مع دول أخرى. وكان الفضل في تربية الطوبجية لأصحاب السعادة سكورة بك وبورنو بك ومرعشلي باشا وعلي باشا وهبي وعلي باشا حمدي وعلي باشا رضا وقاسم باشا راسم وعلي باشا إبراهيم وخورشيد باشا محمد وحاذق باشا وسليم باشا الجزائرلي وراشد باشا حسني وعثمان باشا نجيب وغيرهم.
وكان الفضل في تربية السواري لأصحاب السعادة إبراهيم باشا الفريق ومحمد باشا رضا ووسيله بك يرأس هذا النظام العسكري سليمان باشا الفرنساوي ومعه من الرجال العظام شريف باشا ومراد باشا حملي وحسن باشا المناستيرلي ومصطفى باشا الكريدلي وأحمد باشا المنيكلي وجعفر باشا الكبير وإسماعيل باشا سليم الفريق وإسماعيل باشا عاصم وسليمان باشا الخربوتلي ومحمد باشا الخربوتلي وإسماعيل باشا أبو جبل وحسين باشا أبو أصبع وأفلاطون باشا وعلي باشا الأرناؤُود ودولتلو البرنس حسين باشا وشاهين باشا وراتب باشا وعاكف باشا وطاهر باشا وغيرهم من الأمراء كما كان الفضل في تربية
البحرية المصرية لأصحاب السعادة عبد اللطيف
باشا ومطوش باشا وصفر باشا وجعفر باشا مظهر وحافظ باشا خليل وحافظ باشا مصطفى وحسين شرين باشا وقاسم باشا ومصطفى باشا العرب وكامل باشا ورضوان باشا والأستاذ الأكبر سليمان قبودان حلاوة. والفضل الأعظم في ترتيب هذه المدارس لأصحاب السعادة مختار باشا ناظر المدارس ورئيس المجلس الأعلى إذ ذاك وأدهم باشا ومشيد أركان المعارف علي باشا مبارك وعلي باشا إبراهيم ودولتلو البرنس حسين باشا ودولتلو مصطفى باشا رياض ورفاعة بك وعلوي بك وعبد الله باشا فكري.
وهذه دوائر الإدارة ترقت من الحسن إلى الأحسن بحسب تقدم المدينة بتقدم المعارف وكان الفضل في وضع نظامها الإدارية والكتابية والحسابية لأصحاب الدولة والعطوفة والسعادة البرنس حسين باشا ومناستيرلي باشا ويوسف باشا كامل وكاني باشا وأبو بكر راتب باشا ورياض باشا وشريف باشا الكبير وفاضل باشا وراغب باشا وإسماعيل باشا صديق وشاهين باشا وقاسم باشا راسم ومصطفى بك رحمي وعريان بك وباسيلوس بك وتادرس بك ودميان بك وغيرهم ممن كان لهم في تنظيم الحكومة اليد الطولى وترقت الأعمال بعدهم بترقي الأفكار والمعارف حتى وصلت ما هي عليه الآن. وكل هذه ثمرات أتعاب الخديوين الفخام من أفندينا المرحوم محمد علي باشا الكبير إلى أفندينا عباس باشا الثاني المعظم ونتيجة أفكار الأمراء والمعلمين والمهذبين والكل تربى في مدارس البلاد ومنهم من أرسلته الحكومة إلى أوروبا فضمّ إلى علومه الوطنية العلوم الغربية وعاد فنفع الوطن بالعلمين وألف فيهما باللغتين ولا ننكر على الأوربيين سعيهم معنا في طريق التقدم
بمن استخدمناهم من أهل العلوم والصنائع حتى درّبوا أبناء الوطن فكانوا اليد الثانية في تقويم الحياة الوطنية. فنقدم لسابقهم ولاحقهم الشكر على هذا السعي المحمود كما نشكرهم على تعليمنا أنواع التجارة والمعاملات ونشر مخترعاتهم ومكتشفاتهم وتكثير المحسنات العمرانية فكم للغرب من آثار كانت زينة للشرق وزيادة في قوته العاملة والمدبرة.
ومن رأى أن مثل انكلترة أوقعها الفراغ من المعدات العلمية في يد الدانيماركا من من سنة 1017 إلى سنة 1041 ثم نظر إليها الآن وهي ناشرة جناحيها على مستعمراتها وأملاكها العظيمة في الشرق والغرب وعلم ما تبديه من الحكمة والثبات في سياستها ثم نظر إلى
فرانسا ومجاراتها لها في الاستعمار والفتوح شرقاً وغرباً ثم حوّل نظره إلى بقية الدول وعلم ما هي فيه من الجد في توسيع دوائر الاستعمار والقوى العاملة ورأى سير مصر أمام الدول لتضارع الأمم المتمدنة بالمعارف عرف مقدار نعمة المرحوم محمد علي باشا وسلالته الطيبة على كل مصري. فإن ما نحن فيه الآن أثرهم الجليل. وعلم أن اختلاط الأمم موجب لتربية الأمم تحت أحضان بعضها بالتقليد والتلقي فلا يتطرف لذم استيطان الغير من قبل أن ينظر إلى الفائدة الحاصلة منه حتى لو كان الغير قاهراً فإنه يتعلم بقهره كيفية تكوين العصبية وإحياء الوطنية وفي صدر الرسالة من البراهين ما يغني عن البيان. فإذا أقللنا من المدارس بعد أن عرفنا ثمراتها أو قصرنا التعليم على أفراد معلومة أو حولنا طريقة التعليم باللغة الوطنية الرسمية إلى التدريس باللغات الأجنبية فقد رجعنا بمدنيتنا القهقري إذ يموت العلم بموت أهله ويحيا الجهل في الطبقة