الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 33
- بتاريخ: 4 - 4 - 1893
بمن أقتدي إذا اختلفت الآراء
اقتد بمن إذا أسبغت عليكم النعم كان مهنئاً معك وإذا نزلت بك مصيبة كان معك معزّى فإن إخلاص النصح من غيره لا يتأتى إلا إذا عاد لبطن أمه وولد مرة ثانية في أرض مس ترابها جسمك وليداً وخدمت في إصلاحها شاباً ودبرت شأنها شيخاً. وكيف يقتدي العاقل بنازح عن داره وقد لطفت هواءً وعذبت ماءً وطابت مقرّاً وكثرت خصباً فلم يرض ما رضي به آباؤه واستهجن ما استحسنه أجداده وقطع رحماً تجب صلتها عليه وهجر عشيرة بين رجالها ولد ومن أظاهرها رضع وعلى عاداتها شب وبلغتها تكلم وخرج يضرب وجه الأرض بنعليه ارتحالاً لا يحمل غير كف الحاجة ووجه السؤال يتفيأ ظلال غني يستميحه أو وجيه يستجديه أو عظيم يخدمه أو أمير يتصيد بالانتماء إليه أو أبدا الثراء لا يبالي في أية بلاد رمى سهمه ولا بأية يد تناول قوته فإذا اختلفت آراء من استضافهم في نازلة تقدح فيها زناد الأفكار كان مع اليد التي تناولته من أيدي الحاجة وأنقذته من
مخلب الفاقة يتقرب لربها بأخيه بيعاً وإذلالاً ويسترضيه بصاحبه استخداماً وربما قرب إليه ذوي الأرحام خدماً وعبدانا طمعاً في دوام صلة واستعظام عطية. ففرّ من هذا فرارك من المجذوم لئلا تتقرح بالعدوى فينفر منك الأخ ويجفوك الصاحب وينكر العشير. وقد يكون هذا النازح ممن تجمعك وإياه أصول بعيدة أو قريبة أو روابط من روابط الأمم فيعطف عليك ويخلص في القول والعمل طمعاً في صلاح شؤُنه بصلاح شؤُنك ولا يمكنك سبرغور أفكاره إلا بعد قلبك أوجه التجربة وصور الاختبار حتى إذا وجدته ثابت القدم في صحبتك صادق اللهجة في مخاطباته وجهته وجهتك في كل حالة كنت عليها يتألم بألمك ويسر بسرورك اتخذته عضدا ونصيراً وناصحاً ومشيراً واعتمدت عليه في دفع صدور الحوادث بقوة الحزم واتحاد الكلمة وتفارصت معه الأوقات لبلوغ المراد حيث لا مانع ولا دافع. فإن اعثرتك الأيام بنزيل هذه صفته فذاك وإلاّ فعليك بمن إذا حلت المصائب وآب النازحون إلى مقارّهم فراراً من مشاركتك في همومك كان قسيمك في النكبات يتناوب معك حمل الخوب ويحملك إذا ضعف ويبرك إذا احتجت ويعودك إذا مرضت وينصرك إذا خذلت ويدفع معك عدواً يحاربك ويحفظ معك وطناً لزمته ويصون لك عرضاً تبذل الروح في حمايته. أليس المهاجر من وطنه خلف القوت أو الثروة كالدرويش الذي يقف أمامك يبكي تارة ويتأوه أخرى ويحلف أنه ما ذاق في يومه طعاماً ولامست يده نقوداً ولا يمتلك غير ردائه وعصاه ثم يصعر خده
ويلتوى التواء الأفعى إظهاراً لألم الجوع ويده ممدودة وعينه
محملقة ولسانه طلق بالدعاء والشكوى حتى إذا نقدته درهماً أو جيناراً هش وبش ومال على يدك لثما وحلف أنه صار لك عبداً وزوّدك دعوات بلفظ فخم يرتفع لهُ الصدر وينخفض كأنه من قلب مخلص وما ذلّ إلا توسلاً ولا دعا إلا فتحاً لباب العود كلما مست الحاجة. ومن كانت هذه صفته يصرفه عنك الغير بلقمة يزيدها له وثوب يعطيه إياه فإذا زاده ديناراً على أن يقذفك ويهجوك أضحك الناس بما يفتريه عليك وابتدع لك عيوباً ليست فيك ونسب إليك أقوالاً وأفعالاً تدنس المجد وتثلم الشرف. فالعقل من إذا نزلت به النوازل اعتصم بإخوان الوطنية وكان من آراء الغير على حذر ونحن معاشر الشرقيين في حاجة إلى نقد الأفكار وتفتيش الآراء حتى فيما يصدر منا في الشؤُون الأهلية لنبذ الضار والأخذ بالنافع فقد يصدر الرأي من إنسان عن الإخلاص ويكون قد تلوت عليه المطالب فيخرج الرأي فطيراً يضرنا الأخذ به وأن كان صاحبه لم يقصد الضرر ولا ينبغي الاعتماد على ذوي المظاهر العلمية والإدارية قبل أن نعرض أفكارهم على المبادئ والخواتيم فإن الحائز لثقة الناس به كثيراً ما تدعوه العجلة للسقوط في وهدة الارتباك فيقول من غير تروٍ ويعمل بغير تدبير لعلمه بأنه لا يعارض قوله ولا يقبح عمله. وقد درست الأمم الغربية هذه المقدمات وعلمت ما وراء الاقتداء بالنزلاء وأهل الشهرة من الانحطاط فاعتمدت على مجالس شوراها لتستخلص من تضارب الأفكار واختلاف الأحزاب قواعد لا تنقضها الحوادث وقوانين تلائم التابع والمتبوع وتبقى بها دعائم الدولة قائمة على أساس متين ولم تتوصل لهذا المقصد الحسن إلا باعتمادها على من
يخوض لجج المنايا في حفظ وطنه من طامع في امتلاكه أو عادٍ على أهله وبهذا التمحيض نجحت أعمالهم وقويت شوكتهم ونفذت سلطتهم وتخطت سطوتهم أوطانهم إلى غيرها فتحاً واستعماراً بقوتي العلم والعمل وعزيمتي الأمة والحكومة وتوحيد وجهة الفريقين.
وقد توالت الأعوام والجرائد تنقل لنا معاشر الشرقيين أخبار أولئك الفائزين وتشرح لنا من أعمالهم التي حيرت الأفكار وأدهشت العقول ما ساعدهم عليه تمحيض الرأي وتوحيد الكلمة وتمحيض المتشاورين ونحن قعود على قارعة الكسل والتهاون نكتفي بالتفرج على الأمم العاملة ونفرح بما نراه من فوزها ونغضب إذا تأخر فريق منها وقد انصرفنا عن
مصالح أوطاننا وعمينا عن طرق تقدمنا وحيل بيننا وبين مجاراة هؤلاء العقلاء بسور الأنفة من استشارة الفقراء ومفاوضة الضعفاء وإن كانوا قد امتلأُوا علماً وكُسُوا نباهة فإذا عولنا على التشاور يوماً جمعنا أرباب الأموال وأهل الوجاهة من غير تخير العقلاء منهم ولا تمييز الأغبياء من الأذكياء وحشرنا هذا الشتيت في قاعة حبس لا يراهم فاضل ولا يسمعهم خبير فيحيصون حيصة تنجلي عن نكبات تُجلب في صور مضار تدفع أو منافع تصنع وليس وراء هذا التقصير غير التدمير. ولئن قيل أن التجارب دلتنا على أن الشورى لا تنجح في الشرق أو أن الشرقيين غير عقلاء كما يزعم محبو الأثرة والانفراد بالتسلط قلنا إن اتحاد الشرقي مع الغربي في الخلق يرد هذه الدعوى الباطلة وإنما ثابر الغربيون على العمل بالشورى وأخذوا يصححون الأغاليط ويراجعون الخطأ وتبادلون الجدل عن عزائم صادقة حتى تربت الملكات
وتصورت المطالب أمامهم بصُور الواقعيات وما أوصلهم لهذه الغاية إلا اعتمادهم على الفضلاء والأذكياء منهم حتى اضطراب الأغنياء والوجهاء لدراسة العلوم والفنون السياسية التي بها ترشحوا للدخول في أندية الشورى وما زالوا يزاولون العلوم ويبحثون في الأمم والدول حتى قبضوا على أزمة الملك بعصبية قوية ووقفوا أمام ملوكهم حصوناً تقيهم الفتن الداخلية والغوائل الخارجية. فماذا على الشرقيين لو جاروهم في هذا الطريق وهي سهلة لا حزن فيها ولا وعورة ولا يلزم للدخول فيها أكثر من انتخاب العقلاء والفضلاء وانسلاخ أهل الذاتيات من التوجه إلى الوجهة الأجنبية وجمع الكلمة على توحيد السير في مذهب وطني لنخرج من مضيق هذه المصيبة التي أصيب بها بعض نبهاء الشرق من خدمة الأجنبي ولو بيع الوطن إليه. وما وضعهم في هذه النقطة الذميمة إلا التربية الأجنبية من جهة وتغافل الملوك عنهم من جهة أخرى ولكنهم لو تمعنوا الأمر وجمعوا كلمتهم على خدمة ممالكهم لا مكنهم أن يستميلوا الملوك لآرائهم النافعة ويستخدموا العظماء في المصالح التي تهدي إليها الاستشارة وتنقيح الآراء فإن تيار الأفكار والأعمال إذا انصب في أمة ساق المجموع أمامه وشغل كل إنسان عن سواه فتنصرف الأفكار إلى الوجهة التي جرى فيها والغاية التي ينتهي إليها فيكون كلٌ عاملاً مشتغلاً بفرع من فروع الأصل الإصلاحي ولا تسعى الملوك خلف شيء غير إصلاح ممالكها وتقوّي رعاياها على دفع العدو ومنع الخلل وتشييد دعائم المملكة بما يزيدها عظماً وضخامة
ويكسبها ثروة ومدنية وإلا فما حظ الملك منهم من اختلاف آراء الأمم وتخاذل الناس عن نصره والتجائهم إلى الغير يخدمونه
بأضرار ملكهم والسعي في إزالة سلطانهم جرياً خلف الأوهام واغتراراً بخداع الأجنبي وتمويهه وهم قادرون على تربية أبناء بلادهم على حب الوطن والملة والدولة وتدريبهم على الأعمال الإدارية والحربية والصناعة وترقيتهم بقدر استحقاقهم وسد باب الأجنبي أمامهم بإعطائهم الحقوق الوطنية والملكية وتسليهم الأعمال العالية التي ترشحوا لها واستعدوا للقيام بأعبائها. فإنهم أن فعلوا ذلك ملأوا صدور الأمم محبة لهم واستمالوهم إليهم فكانوا أسهل انقياداً إليهم من رجال الاستعباد فإن المستعبد يقاد اضطراراً وهذا يخدم اختياراً وشثان بين الحالتين وسنعود لهذا الموضوع أن شاء الله تعالى معتمدين على الشواهد القرآنية والأعمال النبوية مؤيدين ذلك بما كان أيام الخلفاء الراشدين ليتحقق الشرقي إن السلامة والنجاح في الشورى وأخذ آراء المحنكين العارفين بالأمم وأحوالها فلا يعود للوثوق برأي النازحين ولا للاغترار بأقوال المحتالين ولا يقعد عن السعي خلف هذا المقصد الجليل الذي ما اخطأه قوم الإدار العاقل منهم بين الناس ينادي من حيرته ويقول بمن اقتدي إذا اختلفت الآراء.
هذا ملخص الجواب الذي ورد لنا من صديقنا الماجد أحد أعيان الإسكندرية قال أيده الله تعالى.
رأينا في العدد 25 من جريدتكم الغراء عبارة عن مسجد ليفربول ثم رأينا الرسالة المدرجة باسم الشيخ محمود س فكتبت لكم بما رأيته بعيني وسمعته بإذني وذلك إني دخلت بلاد الإنكليز لأشغالي التجارية فبلغني من أخواني الشاميين المسلمين أنه قد أسلم خمسون رجلاً في ليفربول واتخذوا
لهم مسجداً للصلاة فأخذت أحد أخواني وقمت من مانشستر إلى ليفربول فرأينا المسجد عبارة عن بيت قديم البناء مكتوب عليه (هاوس مسلمان) فطرقنا الباب فخرج لنا خادم وأدخلنا فرأيت في صدر البيت لوحاً عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله وقد جعلوه قبلة لهم فوزنته على بيت الإبرة فوجدته في محلها فسألنا عن عبد الله كليم فقيل أنه يأتي وقت الغروب فتركنا له ورق الزيارة وعدنا إلى مانشستر وقد أعطانا الخادم رسائل صغيرة كتبت للترغيب في الإسلام ثم جاءنا كتاب من كليم بعد ذلك يشكر سعينا ويرجو مقابلتنا فأعلناه باستعدادنا فجاء مانشستر وقابلناه على المحطة مع جميع مسلمي
الشاميين الموجودين هناك وتوجهنا به لمنزل أحد الأخوان ومعه ست من اللاتي أسلمن اسمها فاطمة وبعد تناول الطعام أخذ يشرح لنا قصته وما لاقاه من الصعوبة حتى أسلم معه خمسون رجلاً وأنه زوج أحد المسلمين بعقد شرعي وكل يوم جمعة ويوم أحد يخطب لهم خطب وعظ وترغيب ويبين لهم الصواب وجميع ما يصرف على المسجد هو من جيبه وإن سبب إسلامه أنه كان مسافراً لجبل طارق واجتمع بحجاج مسلمين في الوابور فسألهم عن عقيدتهم فأخبروه بها فأكب على مطالعة الكتب الإسلامية وتعلم من الحجاج بعض سور قرآنية وعقائد إسلامية. ثم حرض المسلمين على فتح مسجد في مانشستر فقاموا في الحال وقمت معهم للتفتيش على محل يليق ثم قر رأيهم على بنائه ثم اشتقنا لرؤية مسجد ليفربول وهم يصلون فيه فتوجهت مع جماعة من إخواني المسلمين وعند مجيء الوقت قام تلميذ هندي وإذن بالعربية ثم قام أحد الإنكليز وأذن بالإنكليزية في بلكون البيت
فاجتمع خلق كثير وحضروا لسماع الخطبة وبعد الفراغ منها قال لهم كليم الآن تقام الصلاة فمن كان مسلماً فليبق ومن أراد الخروج فليخرج وأقيمت صلاة المغرب وصلينا جماعة وأخبرنا الرئيس أنه عزم على جعل محل خاص بالنساء وأنه كتب على أمراء الهند ليرسلوا إليه مرشداً يعرف الإنكليزية وأنه عازم على إنشاء مطبعة لطبع رسائل دينية وجرائد إسلامية ثم ودعناه وانصرفنا راجعين على مانشستر ومن عهد أيام حضرت نسخة من جريدته التي أنشأها وقد كتبت لحضرتكم بحقيقة الأمر تاركاً بواطنهم إلى الله تعالى فليس لنا إلا الظاهر والله يعلم البواطن.
(الأستاذ) معلوم أن إسلام الإنكليز من الممكنات فلا يبعد على الله تعالى أن يشرح صدر بعضهم إلى الإسلام فإنه ممكن ونحن نرضى بما رضي به إخواننا من الظاهر الذي رضيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ابن أبي ابن أبي سلول وإخوانه وننتظر العاقبة فإن انتهت بطرد مسلمي ليفربول على البلاد الإسلامية بدعوى أنهم أفسدوا عقائد العامة رجعنا إلى رأينا الأول وأن استمروا على ما هم عليه أدخلنا إسلامهم في باب الممكنات وما يدعونا لعدم التصديق إلا ما نراه من التضييق على المسلمين الأصليين وهم في بلاد الإسلام فكيف بهم بين أظهر الإنكليز في بلادهم وما نحب أن تعود لهذا الموضوع فإن الأعمال تغني عن الأقوال. وغاية ما نتمناه من جانب الحق سبحانه وتعالى أن يوفق من شاء لما شاء فإن
الأمر مرجعه إليه وهو جل وعلا الفاعل المختار وبه الاعتصام في كل حال.