الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 38
- بتاريخ: 16 - 5 - 1893
دفع اعتراض البشر عن اعتقاد القضاء والقدر
لأحد أفاضل مصر
مضت سنة الله في خلقه بأن يكون للعقائد القلبية سلطان على الأعمال البدنية فما يكون فيها من صلاح أو فساد فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها على ما بينه الشارع ورب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها عقائد ومدركات أخرى ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها في النفس. ورب أصل من أصول الخير والكمال إذا عرض على الأنفس في تعليم أو تبلغ شرع وقع فيه الاشتباه عند السامع فيلتبس عليه بما ليس من قبيلة أو يصادف بعض الصفات الرديئة والعقائد الباطلة فيعلق به عند الاعتقاد فاسدة مبنية على الخطأ في الفهم أو على خبث الاعتقاد فتنشأُ عنها أعمال غير صالحة على غير علم من المعتقد كيف اعتقد هذا ولا كيف يصرفه اعتقادهُ والمغرور
بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن اعتقاد ذلك الأصل ومن مثل هذا الانحراف وقع التحريف والتبديل في بعض أصول الأديان غالباً وهو علة البدع والنحل في كل دين وكثيراً ما كان هذا الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال حتى أفضى بمن ابتلاهم الله تعالى به إلى الهلاك وهذا يحمل بعض من لا خبرة لهم على الطعن في دين من الأديان أو عقيدة من العقائد ألحقة استناداً على أعمال بعض السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة. ومن ذلك عقيدة القضاء والقدر التي تعد من أصول العقائد في الديانة الإسلامية فقد كثر فيها لغط بعض الإفرنج وزعموا أنها ما تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة وحكمت فيهم الضعف والضعة ورموا المسلمين بصفات ونسبوا إليهم أطوارا حصروا علتها في اعتقاد القضاء والقدر وقالوا أن المسلمين في فقر وتأخر في القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم وقد نشأ فيهم الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة وغفلوا عما ينفعهم وما يضرهم وقنعوا بحياة يأكلون ويشربون فيها وينامون ثم لا ينافسوا غيرهم في فضيلة ومتى أمكن أحدهم أتن يضر أخاه لا يقصر في ذلك فجعلوا بأسهم بنهم والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة لقمة وقد رضوا بكل عارض واستعدوا لقبول كل حادث وركنوا إلى السكون في زوايا بيتهم. والأمراء منهم يقطعون أزمنتهم في اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات وعليهم فروض وواجبات تستغرق أعمارهم في
أدائها ولا يؤدون شيئاً منها يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم أسرافاً وتبذيراً ولا ينال ملتهم وأوطانهم منهم شيء. وقد خلطوا المصالح العامة بالمصالح
الذاتية فكم من تنافر بين أميرين أضاع أمة. وكل منهم يخذل صاحبه ويستعدي عليه جاره فيدخل بينهم الأجنبي وقد وجد قوة ضعيفة ونفوساً متخاذلة فيتمكن من بلادهم بغير عدد ولا عدد شملهم الجبن وعمهم الخوف وقعدوا عن الحركة وخالفوا في ذلك كله أوامر دينهم مع رؤيتهم جيرانهم بل بعضه من هم تحت سلطتهم يتقدمون عليهم ويباهونهم بما يكسبون. ولا توجد فيهم جمعيات ملية لا سرية ولا جهرية يكون من مقاصدها أحياء الغيرة وتنبيه الحمية ومساعدة الضعفاء وحفظ الحقوق من تعدي الأقوياء وتسلط الغرباء. هكذا نسبوا هذه الصفات إلى المسلمين وزعموا أن لا منشأ لها إلاّ اعتقادهم القضاء والقدر وإحالة جميع وقائعهم على قدرة الله وحكموا بأن المسلمين إذا داموا على هذه العقيدة لا تقوم لهم قائمة ولا يعود لهم مجد ولا يرجع إليهم حق ولا يؤيدون سلطاناً ولا يحفظون ملكاً ولا يزال الضعف يعمل بهم حتى يفنيهم بالمنازعات وما يسلم من أيدي بعضهم تحصده الأجانب. واعتقد أولئك الناس أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبور في جميع أفعاله وتوهموا أن المسلمين باعتقادهم هذا يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما تميل ومتى رسخ في نفوس قوم أنهم لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا سكون وإنما ذلك بقوة قاهرة تتعطل قواهم ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله تعالى من المدارك والقوى وتمحي من خواطرهم داعية السعي والكسب هكذا ظنت طائفة من الإفرنج أيضاً وذهب مذهبها كثير من ضفعاء العقول في المشرق. وقد أخطاء أصحاب هذا الزعم فإنه لا
يوجد مسلم في هذا الوقت سنياً كان أو شيعياً أو زيديا أو إسماعيلياً أو وهابياً أو خارجياً يرى مذهب الجبر المحض ويعتقد سلب الاختيار من نفسه بالمرة بل كل هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءاً اختيارياً في أعمالهم ويسمى بالكسب وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم وأنهم محاسبون بما وهبهم الله تعالى من هذا الجزء الاختياري ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية والنواهي الربانية وإن هذا النوع من الاختيار هو مدار الكتليف الشرعي وبه تتم الحكمة والعدل. نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبري ذهبت على أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطراراً
لا يشوبه اختيار وزعمت أنه لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل وبين أن يرتعد بشدة البرد. ومذهبه يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة وقد انقرض أرباب هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر هو عين الاعتقاد بالجبر ولا من مقتضياته ما ظنه أولئك الواهمون فإن الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع بل ترشد إليه الفطرة ويسهل على من له فكران يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه ولا يعلم ماضيها إلا الله مبدع نظامها وإن لكل منها مدخلاً ظاهراً فيما بعده بتقدير العزيز العليم. وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة وليست الإرادة إلا أثراً من آثار الإدراك والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس وشعورها بم أودع في الفطرة من الحاجات فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره عاقب وإن مبدأ هذه
الأسباب التي ترى مؤثرة في الظاهر إنما هو بيد الله مبدع الكون الذي خلق الأشياء على وفق حكمته وجعل كل حادث تابعاً لشبهه كأنه جزء له خصوصاً في العالم الإنساني. ولو فرضنا أن جاهلاً ضل عن الاعتراف بوجود آله صانع للعالم وليس في إمكانه أن يتخلص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والحوادث الدهرية في الإرادات البشرية فهل يستطيع أن يخرج بنفسه عن السنة التي سنّها الله تعالى في خلقه. هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق وإن بعضاً من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجأوا إلى الخضوع لسلطة القضاء والقدر وأطالوا البيان في إثباتها ولا حاجة لإثبات آرائهم هنا ثم إننا نعلم أن التاريخ هو العلم الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها ومنا ينشأ عن الحوادث من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار بل في خصائص الإحساس الباطن والوجدان وما يلحق ذلك من نشأة الأمم وتكون الدول واندراس بعض الممالك. وهذا الفن عد من أجل الفنون الأدبية وأعظم فوائده بناء البحث فيه على القضاء والقدر واعتقاد أن قوى البشر في قبضة مدبر الكائنات ومصرف الحادثات وهو الله الفاعل المختار ولو استقلت قدرة البسر بالتأثير ما انحط رفيع ولا ضعف قوي ولا ذهب سلطان والاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر تتبعه صفة الجراءة والإقدام والشجاعة والبسالة ويبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب الأسود ويطبع الأنفس على الثبات
واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال ويحليها بحلية الجود والسخاء بل يحملها على بذلك الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة في سبيل الحق الذي دعاها لاعتقاد هذه العقيدة التي منها اعتقاد
تحديد الأجل والرزق وإن الأشياء بيد الله تعالى يصرفها كيف يشاء. فكيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة ملته والقيام بما فرض الله عليه من ذلك من هذا اعتقاده وكيف يخشى الفقر مما ينفق في سبيل تعزيز الحق وتشييد المجد وتنفيذ الأوامر الإلهية. وقد امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته بقوله. الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. وقد اندفع المسلمون في أول نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها فأدهشوا العقول وحيروا الألباب عندما دوّخوا الدول وقهروا الأمم وامتدت سلطتهم من جبال بيريني الفاصلة بين أسبانيا وفرنسا إلى جدار الصين مع قلة عددهم وعُددهم وعدم تعودهم على الأهواء المختلفة وطبائع الأقطار المتباعدة وقد أرغموا الملوك والقياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة وهذا يعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات. وما ارجفوا قلباً ولا أذلوا ملكاً ولا فتحوا بلداً غلا وقائدهم اعتقاد القضاء والقدر الذي ثبتت به أقدام هذه الجنود القليلة أمام جيوش لا عدد لها فكشفوهم عن مواقعهم وردوهم على أعقابهم وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل إعلاء كلمتهم وامتداد سلطتهم وسهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم إلى ساحات القتال في أقصى بلاد العالم كأنهم سائرون إلى الجدائق والرياض وكأنهم أخذوا لأنفسهم بالتوكل على الله أماناً من كل غادرة وأحاطوها بحصن الاعتماد عليه من كل طارقة. وكان أولادهم ونساؤُهم يخدمون الجنود بلا رهبة
ولا خوف كأنهم في قصور الأمن والدعة وهو الذي رفع قدرهم وأسكن هيبتهم القلوب فكانوا ينصرون بالرعب يقذف به في قلوب أعدائهم. والتاريخ يخبرنا أنه من أول الاجتماع البشري إلى اليوم ما وجد فاتح عظيم ولا محارب شهير نبت في أوسط الطبقات ثم ارتفع بهمة إلى أعلى الدرجات وبلغ من بسطة الملك ما فيه العجب إلا كان معتقداً بالقضاء والقدر. سبحان الله. الإنسان حريص على حياته شحيح بوجوده على مقتضى الفطرة والجبلة فما الذي يهون عليه اقتحام المخاطر وخوض بحار المشاق والمهالك إلا اعتقاده بالقضاء والقدر وركون
قلبه إلى أن المقدر كائن لا محالة وقد أثبت التاريخ أن كورش الفارس (كيخسرو) ما حمله على الأقدام واقتحام غمرات الحروب التي فاز فيها بالنصر إلا اعتقاده بالقضاء والقدر وإن اسكندر الأكبر كان ممن رسخ في نفوسهم اعتقاد القضاء والقدر بل عدو نابليون الأول بونابرت من أشد الناس تمسكاً بعقيدة القضاء وهي التي كانت تدفعه فعسكره القليل على الجماهير الكثيرة. فنعم الاعتقاد الذي يطهر النفوس من الرذائل. ولا ننكر أن هذه العقيدة قد خالطها شوائب من عقيدة الجبر في بعض العامة وربما كان هذا سبباً في أحاطتهم بالمصائب التي أخذتهم بها الحوادث في العصور الأخيرة فرجاؤنا من العلماء العصريين أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع خصوصاً هذا المذهب الفاسد الذي نبه عليه الأستاذ وبين بطلانه فقد انتشر في كثير من بلاد الوجهين القبلي والبحري وفسدت به الأخلاق وتهافت عليه الرعاع والأوباش الفارغون من المعارف اغتراراً بشقشقة لا طائل تحتها
إلا غرس الجبن في الطباع وشق عصا المسلمين وإيقاع العداوة بينهم بتفريق لكلمة وتوزيع الأهواء بكثرة البدع والنحل وعليهم أن يذكروا العامة بسنن السلف الصالح وما كانوا عليه من الاعتقاد والعمل وينشروا بينهم ما أثبته الأئمة الإعلام ووقع عليه إجماع الأمة. وأن يرشدوا الأمة إلى أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في العمل لا في البطالة والكسل وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا وننبذ ما أوجبه علينا بحجة التوكل عليه فإنها حجة الحائدين عن الصراط المستقيم ولا يرتاب أحد من أله الملة الإسلامية في أن الدفاع عنها في هذه الأوقات من الفروض العينية في مقابلة دفاع الأمم عن مللهم وليس في ذلك تعصب كما يقول المفسدون فإن تدافع الأمم في حفظ عقائدهم يقضي علينا بمجاراتهم فيما هم فيه. ومن هنا يعلم أن ما زعمه الإفرنج ومن كان على شاكلتهم من أن تأخر المسلمين منشاؤُه اعتقاد القضاء والقدر لم يصادف الحقيقة بل أن نسبته إليه كنسبة النقيض إلى نقيضه وإنما حدث للمسلمين بعد شأتهم الأولى نشوة من الظفر وثمل من العز فركنوا إلى الرفاهية وأخلدوا إلى الراحة ثم فجاءهم صدمتان صدمة التتار من الشرق وصدمة الحروب الصليبية وتدافع أوروبا بعدها من الغرب ثم تدالوتهم حكومات متنوعة ووسد الأمر فيها إلى غير أهله وولى أمورهم من لا يحسن سياستهم فتمكن الضعف من نفوسهم وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له
الضرر ويلتمس له السوء لفساد الأخلاق وعدم التربة وإهمال الحاكم شأن المعارف واقتصاره على اللذائذ البدنية فانتهى بهم الإهمال إلى ما صاروا إليه. ومع ما آلت إليه الأمة من الضعف فإنها