الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 25
- بتاريخ: 7 - 2 - 1893
مستقبل مصر
مصر الآن موضوعة وضعاً إدارياً بين يدي دولة رياض باشا وقد عهد فيه علو الهمة وله إقدام على العمل بقوة جأش مصحوبة بحكمة وحسن تبصر كما عهد فيه حبه لوطنه وميله لأخوانه المصريين مع عدم التعصب على الأجانب. وله ميل كلي لتأييد الحكومة المصرية والتوفيق بين مصالح المصريين ومصالح الدول المتحابة معهم. ولهذا تعلقت آمال الأمة بإجراء الإصلاح على يده وتقوية الحكومة وتأييدها بوضع الأعمال في يد عمال أكفاء لإدارتها على محور العدل والاستقامة. ولكن البعض يظن أن هذا الإصلاح لا يكون إلا بإبعاد الأجانب عن الخدمة وهو ظن فاتر دعاه إليه ضيق صدره من ضغط الحكام السابقين عليه وتركه في زوايا الإهمال. ولو أنصف نفسه لعلل كل أمر بعلة توجيه صلاحاً أو فساداً. وأولى له أن يقول أن استقلال بعض الرؤساء بالإدارات مما يطلق أيديهم في أعمال لا توافق النظام أو تمس الحقوق الخديوية أو تضر بالهيئة المصرية كما شوهد ذلك في كثير من
الإدارات التي فوضت أعمالها إلى رؤسائها تفويض إطلاق فدخلها من الخلل ما لا يحتاج لبيان. وذلك ناشىء عن تبديد السلطة وكف أيدي العمال الوطنيين عن مداركة الخل بحصر السلطة في الأجانب. وهؤلاء لا علم لهم بأخلاق أهل البلاد وعوائدهم فاشتغلوا بما حسنته له عقولهم وظنوا أنهم ينقلون المصريين إلى ما يرونه دفعة واحدة فعز عليهم الوصول إلى الغاية المقصودة لهم وتعذر عليهم الرجوع لما كان عليه المصريون. وبهذه الحيرة ترددت الأعمال بين داعية النظام وجاذبة الخلل كل هذه المدة ولم تتحصل مصر على طريقة يمكنها أن تعيش بها آمنة من التغيير والتبديل وخلل الإدارات وليس ذلك لضعف جميع القائمين بالتنظيم والتحسين بل لتسليم الأعمال إلى من لم يفهموا مراد الرؤساء. ويستحيل أن يتم النظام على أيدي الناس لا رابطة بينهم وبين المحكومين ولا أمل لهم إلا الاسترزاق أو تمكين سطوتهم ولا نقول أن انكلترا ما أرادت من مصر إلا الفساد والخل وغنما نقول أنا أرادت الإصلاح والانتظام ولكنها لما وضعت بعض الإدارات في أيدي الجاهلين بأحوال البلاد وعضدتهم بجموع مختلفي الجنسية والتابعية وهجمت بهم على الأعمال من غير تأن حصل ارتباك في الأعمال واندهاش للأهالي وتنوع الارتباك بتنوع أفكار القائمين بالأعمال الجاهلين بأحوال الأمة والبلاد إذ لا يلزم من اتساع علم الأجنبي في الحساب أو الترجمة أن يكون ذا خبرة بإدارة أحكام وأمور بلاد يجهل كل ما
فيها ولا يلزم من أول دراسة الأجنبي لأحوال البلاد أن يكون اعلم بها من أهلها فأن تصور ذلك محض تعصب لا يقبله العقل بل أن الرجل من أهل البلاد المدرب على أعمالها أعلم بإدارة أمورها
وتنظيم أحوالها م الأجنبي مهما كانت فروق العالمية بينهما. ولا تعاب انكلترا بهذا بعد أن كانت رغبتها الوحيدة تحسين الإدارة أحسن مما كانت عليه قبل وضع قدمها بمصر ولكنها اعتمدت على غير المصريين ممن لا يهمهم الإصلاح فانعكست عليها الآمال. ولهذا لم تعارض في وزارة دولة رياض باشا لعلمها أنه يقدر على إصلاح ذلك الخلل ومنع الارتباك بوضع الأعمال في أيدي أكفاء مدربين عليها عارفين بأحوال البلاد يهمهم إصلاح بلادهم وانتظام إدارتها تبعثهم إلى ذلك الوطنية والظهور بين يدي الخديوي الأفخم بما يرضيه من الهمة والنشاط وحسن الاستقامة. وهاتان علتان لا توجدان في الأجنبي إذا لاحظ له في الاستخدام إلا ضرورة المعاش بخلاف ابن البلاد.
وأحسن ما قيدت به الأمم إلى طرق الإصلاح وضع مقاليدها بإيدي قوم تحبهم ويحبونها. ولا يلزم من هذا تعصب دولته على الأجانب فإن ذلك مما لا تحبه ولا يرضاه وإنما يلزم وضع مصريين معهم أكفاء يهدونهم الطريق ويعلمونهم ما يوافق الأمة وما به يتم النظام. وهذا الذي ينبغي أن يناط بهمته فإن بقاء الإدارات على ما هي عليه ووجودها في أيدي من لا رابطة لأفكارهم ولا قاعدة لأعمالهم مما يوجب تزايد الخلل الإداري والمالي. فالذي ترجوه الأمة من وزيرها الأكبر التوفيق بين المصريين والأجانب بمزج العمال وتوحيد السير حتى يتعلم الأجنبي مع المحافظة على روابط المحبة التي بيننا وبين طوائف العالم ودول المعاهدات. وليس ذلك ببعيد على رجل درس أحوال مصر وحفظ صور أحكامها وتقلباتها بين الوزارات الوطنية والأجنبية ووقف على الدقائق والخفايا ورأى من تعلق الأمة به ما صيره مسؤولاً عنها بين أمم الدنيا
وبين يدي الله تعالى. وما على الأمة إلا أن تلزم الطوع والخضوع وامتثال الأوامر وأتباع القوانين وأن تبعد عن رجال الفتن وأصحاب الغايات الفاسدة.
وأمة تتخلق بهذه الأخلاق حقيقة بتوجيه العناية إليها وصرف الهمم في مصالحها كيف وعضد الوزير في هذا المقام مولانا الخديوي الأعظم المتوجه بهمته جهة حكومته بما يحفظها ويؤيدها ويجعلها حكومة وطنية حافظة لعهود أوروبا جارية على نسق الممالك
النظامية تتميماً لتأسيس جده الأعلى وتخليداً لهذا الأثر الجميل. فليس أمام وزيرنا ما يحول بينه وبين إصلاح الإدارات اللهم إلا إذا أحدث بعض دول أوروبا مشاكل وعقبات لغرض يفوزون به فيكون له العذر الأكبر والحجة الواضحة أمام العالم إذا ليس في يده قوة يدافع بها إلا قوة إصلاح الإدارات. وعلى هذا فإننا نرجو أخواننا الوطنيين أن يقرؤا هذا الدرس التهذيبي ولا تدفعهم شدة الألم من الغير إلى توسيع الآمال وسعيهم في نقض ما بنى في سنين في يوم واحد. كما نرجوهم أن يجعلوا كلامهم في الاحتلال كلام الحكماء الذين يبحثون في الحقائق بفكر صائب فإن انكلترا دخلت مصر لتأييد المسند الخديوي ووضع حكومة ثابتة كمنشورها الدولي ولم تقل يوماً إنها دخلت بقصد الاستيلاء على بلادنا وعللت الانجلاء بإتمام ما دخلت لأجله وتعهدت به أمام أوروبا وهي إلى الآن ترى الحكومة غير نظامية لكونها وضعت معظم إدارتها في أيدي الأجانب ولم تمكن المصريين من إصلاح بلادهم تحت مراقبتها فلم يقدر الأجانب على ضبط النظام ولا حفظ القانون ولا المشي في طريق بعيد عن الخلل والخطر. وإلا لو كانت الحالة الحاضرة هي المقصودة لها بالذات وهي النظام الذي تريد وضعه بمصر لانجلت بعساكرها وتركت الحكومة
المركبة من الأجانب تدير أحكام البلاد. فبقاء عساكرها دليل على أن تجاربها بالأجانب في العشر سنين الماضية لم تنجح لكونها على يد غير أهل البلاد. ولو أنها استخدمت المصريين القادرين على الأعمال في تلك المدة ورسمت لهم طرق الإصلاح لا فادوها فائدة كبرى وأظهروا لها شرفاً عظيماً أمام أوروبا ولاكتسبت رضا الأهالي عنا وعن أعمالها. فأولى لها أن ترجع لإجراء النظام بأهل البلاد مستعينة على ذلك بوزيرهم الموثوق به المنفذ لآراء خديويهم المحبوب عندهم فإن لين الحكام السابقين وانصياعهم إلى الأوامر الأجنبية وتكثير الأجانب في الإدارات لم يكسب انكلترا إلا فتور السياسة بينها وبين دولتنا العلية ودول أوروبا لكونهم راوا أعمالها تخالف أقوالها فعدولها عن تلك الخطة عين العدل الذي يرضي المصريين ويرضيها. فعليها أن تعتمد على الوزير المدرب على الأعمال وتساعده على تأييد الحكومة لا تأسيسها كما يقال فإننا ما نقول وضع حكومة نظامية في بعض العبارات إلا مجاراة للأجانب وإلا فإن الحكومة المصرية موضوعة على أساس متين مويدة بالنظامات والقوانين قبل احتلال الانكليز ودليلنا على ذلك المعاهدات الدولية واستيطان
جموع من طوائف العالم ببلادنا وارتحال عظماء أوروبا للسياحة في بلادنا وكفالة الحقوق الأجنبية بالمحاكم المختلطة والمجالس القنصلية. فكل هذه نظامات وضعت قبل احتلال انكلترا وما نريد الآن إلا أن يحفظها دولة رياض باشا بوضعها في أيدي أكفاء أمناء تراهم انكلترا خصوصاً وأوروبا عموماً أهلا للقيام بالأعمال ومحلاً لثقتها بهم. وهذا هو الدواء النافع لكل علة من علل مصر. ولسنا وحدنا نقول