الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، أوْجَدَ الخَلْقَ وتَكَفَّلَ بهم، وجَعَلَ لهم عقولًا تَهْدِيهِم إلى دُنْياهُم ووَحيًا يَهْدِيهم إلى دِينِهم، رَبِّ الآخِرَةِ والأُولَى، لا يستَحِقُّ العبادةَ إلا هُو، ولا يستحِقُّ كمالَ الشُّكرِ والحمدِ غيرُهُ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا المصطَفَى بالرسالةِ، خيرِ البَرِيَّةِ وإمامِ الحَنِيفِيَّة، المخصوصِ بالوحيِ المحفوظِ مِن التبديلِ والتحريفِ، كما قالَ تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ نِعمةَ الهدايةِ إلى معرفةِ الله وأوامرِهِ ونواهِيهِ وامتثالِها أعظَمُ النِّعَم؛ إذ لا خَصِيصَةَ فارِقَةٌ بينَ الإنسانِ والحيوانِ إلا بتلكَ النِّعْمَة، ومَن حُرِمَ ذلك استَوَى مع الحَيَوانِ بالاستِمْتَاعِ، ولا فارِقَ بينَهم إلَّا أنَّ كلَّ واحِدٍ يَعْمُرُ دُنياهُ بما يُناسِبُ كمالَ تَلَذُّذِه ومُتْعَتِه فيها، وكُلُّ جِنْسٍ بَصِيرٌ بنَفْسِه، بلْ إنَّ كثيرًا مِنَ الحيوانِ أكثَرُ مُتعةً في الدُّنيا مِن الإنسانِ، قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12]، وامتَازَ الحيوانُ بأنَّه لا يُحاسَبُ على مُتعتِه فقالَ:{وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]، ومِن هذا قولُه تعالى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179].
وأَوْلَى ما يَجِبُ الوقوفُ عندَه مِن القرآنِ: مَعرِفةُ أوامِرِه ونواهِيه وأحكامِه، فمَن عَرَف أحكامَ اللهِ في كتابِه وتأمَّلَ ما فيها مِن إحكام، ودقيقِ انتِظَام، وعَظِيمِ المصالِحِ وجَلِيلِ المَقَاصِد؛ وَجَدَ في قَلْبِه مِن
الإيمانِ باللهِ والتسليمِ والخُضُوعِ والتعظيمِ له أعظَمَ ممَّا يَجِدُه في الآياتِ الكَوْنِيَّةِ المُشاهَدَةِ كالسَّمَواتِ والأَرْضِ والنُّجُومِ والكواكِبِ والسَّحَابِ، وقد سَمَّى الله أحكامَهُ مواعِظَ؛ فقد قال تعالى بعدَمَا ذَكَرَ آياتِ الطَّلَاقِ:{يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 231]، {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} [البقرة: 232]، وقال بعدَ آباتِ الظِّهَارِ:{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3]، وقال بعدَ آياتِ القَذْفِ:{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17]، ولَمَّا ذَكَرَ اللهُ أوامِرَهُ لبَنِي إسرائيلَ قال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]؛ وذلكَ أنَّ الأحكامَ فيها مِنَ المَوْعِظَةِ والعِبْرَةِ وعظيمِ المنفَعَةِ لمَنْ تأَمَّلَها، وإنَّ الفَقِيهَ بأحكامِ القُرآنِ يَجِدُ في قَلْبِه مِنَ الإيمانِ واليَقِينِ بمِقدارِ فِقْهِهِ وبَصَرِه فيها؛ لِمَا يَرَى مِن إِحْكامِ الأَحْكامِ ما لا يُمكِنُ ورودُهُ الا مِن خالِقٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، وقد قال التابعيُّ الحارِثُ بنُ يَعْقُوبَ:"إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ مَن فَقُهَ في القُرآن، وعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَان"(1).
وأَحْكامُ الإسلامِ موجودةٌ في القُرآنِ بالإِجْمالِ، ولكنْ مِنها ما يَظْهَرُ بأَدْنَى نَظَرٍ؛ لِجَلَاءِ النصِّ فيهِ، ومِنها ما يحتاجُ إلى جلاءِ نَظَرٍ؛ لِخَفَاءِ النَّصِّ فيه، وتلكَ مُوازَنةٌ عَكسِيَّةٌ: إذا بَرَزَ الحُكمُ قَلَّتِ الحاجةُ للبَصِيرةِ، وإذا خَفِيَ الحُكمُ عَظُمَتِ الحاجةُ إليها، وإلَّا فالحُكمُ موجودٌ بالنصِّ أو الاستِنباطِ، وهذا مِنَ المُرادِ بقولِه تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
(1) رواه ابن بَطَّةَ في "إبطال الحِيَل"(ص 17)، وابن عبدِ البَرِّ في "جامع بيانِ العلم وفَضْلِه"(2/ 817).
وإذا عَمِيَتِ البَصَائِرُ عن الحُجَجِ كانَ حالُها كحالِ البَصَرِ الأَعْمَى عنِ الطَّرِيق، وإذا أخَذَ الإنسانُ العاقل العارِفُ بلُغَةِ القُرآنِ بأمرَيْنِ؛ فَهِمَ منه ما لا يَفْهَمُه غيرُه، وفَتَحَ اللهُ عليه ما لم يَفْتَحْهُ على غيرِه:
الأَمْرُ الأَوَّلُ: حُسنُ القَصْدِ في طَلَبِ الحَقِّ؛ فإِنَّ اللهَ لم يُنزِلْ كتابَه إلَّا شِفاءً لأمراضِ الصُّدورِ وعِلَلِها، ومَن نَظَرَ في القُرآنِ بالهَوَى فسَبَقَ نَظَرَهُ مَرَضُ قَلْبِه: زَاغَ، فيُبَصَّرُ بما يوافِقُ هَوَاه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، فهُم زاغُوا وبَيَّتُوا الغَيَّ فزادَهُمْ غَيًّا وزَيْغًا.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]، وقال تعالى في هذا المعنَى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، فالرِّجْسُ والمَرَضُ والزَّيْغُ موجودٌ فيهم بعِلْمِهم قبْلَ نَظَرِهم في القُرآن، فزادَهُم نَظَرُهم رِجْسَا ومَرَضًا وغَيًّا، واللهُ لا يَقذِفُ في قلبِ الصادقِ غَيًّا إذا نَظَرَ في القُرآن، فهو شفاءٌ لِمَن حَسُنَ قَصْدُه، ولكنْ مَن لا يُوجَدُ الخيرُ في قَلْبِه تُحْرَمُ بصيرَتُه الفَهْمَ؛ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، ولأَجْلِ هذا السَّبَبِ يَزِيغُ بعضُ مَن يَقرَأُ القُرآنَ ويَعرِفُ الحديثَ؛ انحَرَفَتْ نِيَّتُه فانحَرَفَ فَهْمُه.
الأَمْرُ الثَّانِي: إدامةُ البَصَرِ وإطالةُ التأَمُّلِ في القُرآن؛ فإنَّ مَعانِيَ
القرآنِ وحِكَمَهُ وأدلَّةَ أحكامِهِ لا تُحصِيها عقولٌ ولا تُحيطُ بها فُهُوم، وقد دَعَا اللهُ إلى التَّفَكُّرِ في القُرآنِ وتأَمُّلِ آياتِه وتَدَبُّرِها؛ قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، والتَّدَبُّرُ بابُ القلوبِ، كُلَّمَا اتَّسَعَ الفَتْحُ اتسَعَ الذي يَدْخُلُه مِن المَعَاني؛ ولهذا شَبَّهَ اللهُ تارِكَ التدبُّرِ بمُقْفَلِ القلبِ؛ قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وإذا كان القلبُ مُقفَلًا فلن ينتفِعَ الإنسانُ بالسمعِ والبَصَر.
وقد كانَ السلَفُ يَحُثُّونَ على تدبُّرِ القرآنِ والتأَنِّي في قراءَتِه لاستخراجِ ما فيه، وخاصَّةً أدلَّةَ الأحكام، ويَظُنُّ بعضُ الناسِ أنَّ أدلَّةَ أحكامِ القُرآنِ والقرائنَ عليها أُحْصِيَتْ ودُوِّنَتْ؛ وهذا غَلَطٌ؛ فالثابِتُ والمُحصَى هي أحكامُ الدِّينِ، فلا جَدِيدَ في الدِّينِ بعدَ انقِطاعِ الوَحْيِ، وإنَّما بَقِيَ مِن وُجوهِ الاستدلالِ مِن الوحي قَدْرٌ لا ينقَطِعُ، وقد قالَ ابنُ مسعودٍ في ذلك:"إِذَا أردتُّمُ العِلْمَ فأَثِيرُوا القُرآنَ؛ فإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ"(1)، و"أَثِيرُوا"؛ يعني: نَقِّرُوا عنه، وتَفَكَّرُوا في معانِيهِ وتفسيرِه.
وقد رُوِيَ عنِ الرَّبِيعِ صاحِبِ الشافعيِّ قولُه: "قَلَّمَا كُنتُ أَدْخُلُ على الشافعيِّ رحمه الله إلَّا والمُصْحَفُ بينَ يَدَيْهِ، يَتَتَبَّعُ أحكامَ القُرآنِ"(2).
وقد كانَ الأئمة يَرَوْنَ مِنَ القُصُورِ الاستِدلالَ بما دُونَ القرآنِ إذا كانَ الدليلُ فيه واضحًا، فأَوَّلُ مَن يستحِقُّ اسمَ أهلِ القرآنِ الوارِدَ في
(1) رواه ابنُ المبارَكِ في "الزُّهد"(ص 280).
(2)
رواه البيهقيُّ في مقدِّمةِ جَمْعِه لكتاب "أحكام القرآن" للشافعي (1/ 20).