الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخُطْبةُ الوداعِ هي في معنى الوصيَّةِ مِن الرسولِ صلى الله عليه وسلم لأمَّتِهِ؛ لأنَّها مِن آخِرِ خُطَبِهِ المُشعِرةِ بقُرْبِ أَجَلِه.
وتأتي الوصيَّةُ في القرآنِ والسُّنَّةِ بمعنى التأديبِ والدَّلَالةِ والإرشادِ؛ منها ما يأتي بلفظِ الوصيَّةِ، ومنها ما يأتي بغيرِ هذا اللفظِ:
فمِن لفظِ الوصيَّةِ: قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، وقولُهُ تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، وقولُهُ:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151].
وأمَّا قولُه تعالى: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، فقدَّمَ الوالدَيْنِ في الآيةِ لمنزلتِهما؛ وذلك أنَّ العربَ كانوا في الجاهليَّةِ يقدِّمونَ الأبناءَ في وصيَّتِهم، وكان بعضُ العربِ يُوصِي للأَبْعَدِينَ مفاخَرةً وطلبًا للصِّيتِ بالكرمِ، ويترُكُونَ الأبناءَ؛ ولذا مما يشتهرُ:"العربُ يُوصُونَ للأباعدِ طلبًا للفَخْرْ، ويترُكُونَ الأقرَبِينَ في الفَقْرْ"(1).
حكمُ الوصيَّةِ:
وجعَلَ اللهُ الوصيَّةَ بالمعروفِ: {بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا} ؛ وهو العدلُ، وهو ما ينفي الضَّرَرَ والظُّلْمَ، الذي يجلِبُ التحاسُدَ والتباغُضَ وقطيعةَ الأرحامِ.
وبهذه الآيةِ استدَلَّ مَن قال بوجوبِ الوصيَّةِ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى أوجَبَها بقولِه: {كُتِبَ} ، وأَكَّدَها بقولِه:{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .
(1)"التحرير والتنوير"(2/ 149).
وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ مَن ترَكَها، فقد ترَكَ التقوى، وربَّما وقَعَ فىِ المعصيةِ، وهي ضدُّ التقوى.
واستدَلَّ بما ثبَتَ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا:(مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)(1).
ويُشكِلُ على الاستدلالِ بهذا الحديثِ: أنَّ ابنَ عُمَرَ - راويَ الخبرِ - لم يُوصِ بشيءٍ مِن مالِه، وهو أعلَمُ الناسِ بمَرْوِيِّهِ، وأعرفُ الناسِ بمعنى قولِه صلى الله عليه وسلم في الحقِّ:(مَا حَقُّ امْرِئٍ)، وراوي الحديثِ المرفوعِ وراوي عدَمِ وصيَّةِ ابنِ عمرَ: واحدٌ، وهو نافعٌ مَوْلاهُ.
فقد روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ؛ مِن حديثِ أيوبَ، عن نافعٍ؛ أنَّ ابنَ عمرَ لم يُوصِ، وقال:"أمَّا مالي، فاللهُ أعلَمُ ما كنتُ أصنَعُ فيه في الحياةِ، وأمَّا رِبَاعِي، فما أُحِبُّ أنْ يَشْرَكَ ولدي فيها أحدٌ"(2).
ويظهرُ أنَّ المرادَ بقولِه عليه الصلاة والسلام: (مَا حَقُّ امْرِئٍ): ما حَزْمُهُ وحياطتُهُ؛ وذلك لأنَّها إبراءٌ للذِّمَّةِ، ويؤكِّدُ هذا أنَّ الحديثَ جاء مقيَّدًا بمَنْ يخافُ على ذِمَّتِهِ التَّبِعَةَ وفواتَ حقِّ غيرِه، وجاء في بعضِ ألفاظِ الحديثِ في "الصحيحِ":(وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ)(3)، وفي لفظٍ آخَرَ:(يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ)(4).
فقيَّدَ الوصيَّةَ بمُوجِبِها؛ وهو إرادةُ إبراءِ الذِّمَّةِ، أو وجودُ ما يُوجِبُ الوصيَّةَ، وتعليقُ الأمرِ بإرادةِ الفاعلِ ومشيئتِهِ: ممَّا يَصرِفُ الأمرَ مِن
(1) أخرجه البخاري (2738)(4/ 2)، ومسلم (1627)(3/ 1249).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 133).
(3)
أخرجه أحمد (5513)(2/ 80)، رمسلم (1627)(3/ 1249)، والترمذي (974)(3/ 295).
(4)
أخرجه أحمد (5118)(2/ 50)