الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: إنِّي سقيمٌ لا أستطيعُ الخروجَ، وجعَلَ ينظُرُ إلى السماءِ، فلمَّا خرَجُوا، أقبَلَ علي آلهتِهِمْ فكسَّرَها (1).
ونظرُهُ إلي السماءِ توكُّلٌ وافتقارٌ، وطلبُ إعانةٍ وكفايةٍ.
وقد ذكَرَ اللهُ في هذه الآيةِ: أنَّ سببَ تغييرِ القِبلةِ لنبيِّهِ تقلُّبُ وجهِهِ في السماءِ، وخصَّ اللهُ نبيَّه بأمرِ الاستقبالِ؛ بقولِه تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؛ إكرامًا له، ثمَّ عمَّمَ الخطابَ للأمَّةِ، وإنْ كانتْ داخلةً في أمرِهِ تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .
ولم تتحوَّلِ القِبْلةُ إلا مع طولِ سؤالٍ وتضرُّعٍ وطولِ نَظَرٍ في السماءِ؛ ولذا قال تعالى: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ؛ يعني: رَفْعَهُ وإدارتَهُ مراتٍ ومراتٍ.
تكرارُ الدعاءِ والإلحاحُ به:
وفي هذا: مشروعيةُ تَكْرارِ السؤالِ والإلحاحِ بالدعاءِ، وعدمُ اليأسِ من الإجابةِ، فإذا كان هذا لنبيِّ، فكيف لغيرِه؟ ! فللَّهِ حِكَمٌ وغاياتٌ محمودةٌ بتأجيلِ إجابةِ دعوةِ عبدِه، منها ما يختصُّ بالأمرِ الذي دعا بتحقيقِه؛ فاللهُ يختارُ لعبدِهِ عندَ الإجابةِ أصلَحَ الزمنِ لا أسرعَهُ، ومنها ما يتعلَّقُ بالعبدِ نفسِه؛ فالدعاءُ عظيمٌ وعبادةٌ جليلةٌ، وربَّما احتاجَ إلى التضرُّعِ؛ لِيَعْظُمَ أَجْرُه، ويزولَ كِبْرُه، وتُنَقَّى نفسُه، وتتهذَّبَ سريرتُه بطولِ الانكسارِ؛ فيتحقَّقُ له بذلك أمورٌ عظيمةٌ وهو يُريدُ أمرًا واحدًا، وربَّما كان ذلك سببًا لتعجيلِ خيرٍ آخَرَ يَدْعُو به بنفسٍ مُقْبِلةٍ هذَّبَها دعاؤُها السابقُ.
روى ابنُ جريرٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ؛ في قولِه:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ؛ قال: كان صلى الله عليه وسلم يُقلِّبُ وجهَهُ في السماءِ، يُحِبُّ أنْ
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3220).
يَصْرِفَهُ اللهُ عز وجل إلى الكَعْبةِ، حتى صرَفَهُ اللهُ إليها (1).
وفي قولِه: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} : إشارةٌ إلي أنَّ النبيَّ - صلي الله عليه وسلم - امتثَلَ أمرَ اللهِ، مع أنَّ نَفْسَ النبيِّ تُحِبُّ التوجُّهَ إلي المسجدِ الحرامِ أكثَرَ، وأنَّ رَغْبةَ النفسِ وإنْ كانتْ مِن نبيٍّ ينبَغي ألَّا تصيِّرَه إلى خلافِ ما يريدُهُ اللهُ، وأنَّ التفاضُلَ بينَ الأعمالِ يحكُمُهُ اللهُ وليس النفوسَ، وكثيرًا ما تميلُ النفسُ إلي قولٍ فتلتقِطُ له مؤيِّداتٍ من الدلائلِ والقرائنِ حتى تثقُلَ كِفَّتُه، ولو مالتْ إلي غيرِهِ، لَفَعَلَتْ مِثلَ ذلك، وهكذا يدورُ الدِّينُ والرأيُ في فلَكِ الهَوَى ولا يشعرُ الإنسانُ بذلك.
وقولُهُ تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} : إشارةٌ إلى وجوبِ استقبالِ الجميعِ للقِبْلةِ؛ الإمامِ والمأمومِ والمنفرِدِ، قائمًا وقاعدًا وعلي جنبٍ، حسَبَ الاستطاعةِ والطاقةِ، ويخرُجُ من ذلك النافلةُ في السفرِ؛ لفعلِه عليه الصلاة والسلام.
فيجبُ علي المأمومِ أنْ يستقبِلَ عَيْنَ القِبْلةِ مع الإمامِ عندَ رؤيتِها، ويجبُ علي الجميعِ استقبالُ الجهةِ عندَ البُعْدِ عنها.
وقولُه: {شَطْرَهُ} ؛ يعني: نحوَهُ وجِهَتَهُ؛ ثبَتَ هذا عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ (2)، وابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ (3)؛ رواهُ ابنُ جريرٍ عنهم، وعن آخَرِين (4).
وإنَّما كان النبيُّ يُحِبُّ استقبالَ المسجِدِ الحرامِ؛ لأنَّ اليهودَ فَرِحُوا باستقبالِ النبي لقِبْلَتِهم وَيعْجَبُونَ مِن استقبالِهِ لها، مع أنَّه يُخالِفُهم؛ رُوِيَ هذا عن ابنِ عباسٍ (5)، ومجاهدٍ (6)، وغيرِهما؛ ولذا
(1)"تفسير الطبري"(2/ 656).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 661).
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 660).
(4)
"تفسير الطبري"(2/ 660 - 661).
(5)
"تفسير الطبري"(2/ 450).
(6)
"تفسير الطبري"(2/ 657).
* * *
قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].
الصَّفَا والمَرْوةُ جَبَلانِ متقابِلانِ شرقيَّ الكَعْبةِ، وعلى طرَفَيِ البابِ.
والصَّفَا: جمعُ "صَفَاةٍ"، وهي: الصخرةُ المَلْساءُ (1).
والمَرْوةُ: الحَصَاةُ الصغيرةُ (2).
والشعائرُ: المعالمُ الظاهِرةُ البارِرةُ؛ ولذا يسمَّى الشِّعَارُ شِعارًا؛ لكونِهِ علامةً ورايةً لِمَا يُرادُ إظهارُه.
وقيل: إنَّ المرادَ بالشعائرِ: الأخبارُ؛ مِنْ "أشعَرَ فلانٌ بكذا: إذا أخبَرَ به"؛ يعني: مِن أخبارِ اللهِ التي بَيَّنَها وفَصَّلها لكم؛ ثبَتَ هذا عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ قال: مِن الخَبرِ الذي أخبَرَكُم عنه؛ رواهُ ابنُ جريرٍ، وسندُه صحيحٌ (3).
وقولُهُ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} :
الحجُّ: القصدُ، وكلُّ قاصدٍ للبيتِ حاجٌّ، وغلَبَ هذا الاصطلاحُ علي قاصدِ المسجدِ الحرامِ، وغلَبَ أيضًا على نُسُكِ الحجِّ، لا العمرةِ، وربَّما أطلَقَهُ بعضُ السلفِ علي العُمْرةِ؛ كما جاء عن ابنِ عُمَرَ أنَّه ذكَرَ
(1) ينظر: "تهذيب اللغة"(12/ 175)، و"لسان العرب"(14/ 464).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 709).
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 710).