الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال بعضُ المفسِّرينَ - كالحسَنِ، وأبي العاليةِ، وقتادةَ، والرَّبِيعِ بنِ أنسٍ -:"إنَّ المرادَ بذلك المشرِقُ قِبْلةُ النصارَى، والمغرِبُ قِبْلةُ اليهودِ".
قال أبو العاليةِ: "كانتِ اليهودُ تُقبِلُ قِبَلَ المغرِبِ، وكانتِ النصارَى تُقبِلُ قِبَلَ المشرِقِ"(1).
وروى عبدُ الرزَّاقِ - وعنه ابنُ جريرٍ - عن مَعْمَرٍ، عن قَتَادةَ؛ قال: كانتِ اليهودُ تصلِّي قِبَلَ المغرِبِ، والنصارى تصلِّي قِبَلَ المشرِقِ، فنزَلَتْ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (2).
ونفيُ الِبرِّ عن استقبالِ الجهاتِ كلِّها ومنها الكَعْبةُ، إنَّما هو نفيٌ لاستقبالٍ غيرِ مقترِنٍ بأسبابِ التوجيهِ مِن اللهِ؛ كالإيمانِ باللهِ ورُسُلِهِ، فذاتُ الاستقبالِ متجرِّدًا عن الإيمانِ ليسِ بِرًّا.
وقد جمَعَ اللهُ في هذه الآيةِ جميعَ أنواعِ البِرِّ في العباداتِ: العبادةِ القلبيَّةِ، وهي الإيمانُ: قولُ القلبِ وعملُه، والعبادةِ اللسانِيَّةِ، وهي فعلُ اللسانِ، وهي لازمُ الأولِ، والعبادةِ البدنيَّةِ؛ كالصلاةِ، والعبادةِ الماليةِ، وهي النفقةُ.
مِن ضلالِ الأُممِ جهلُ الأولويَّات:
وإنَّما ضلَّ أهلُ الكتابِ بجهلِهم بالأولويَّاتِ في الدِّينِ، وهكذا تَضِلُّ الأممُ إذا كان لدَيْها دِينٌ أو قانونٌ، فتَضَعُ الأصولَ مكانَ الفروعِ، والعكسَ، وتقدِّمُ وتؤخِّرُ بالهَوَى، والنفسُ إذا أحبَّتْ شيئًا، عظَّمَتْهُ والْتمَسَتْ ما يعضُدُهُ مِن الأدلةِ؛ حتى يتضخَّمَ عملُها في نفسِها فتَرَى أنَّها أدرَكتْ كلَّ الخيرِ، والحقيقةُ أنَّها لم تتجاوَزْ قَدْرَهُ المعتبَرَ إلا وَهْمًا في نفسِها.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 287)
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 75 - 76).
وحينَما تضيِّعُ الأمَّةُ الأصولَ، تتشبَّثُ بالفروعِ؛ تَسْلِيَةً لنفسِها أنَّها باقيةٌ على شأنِها.
ومِن أعظمِ مهمَّاتِ العالِمِ: إعادةُ المراتبِ إلى وضعِها الصحيحِ، وتصحيحُ الخَلْطِ فيها، وقطعُ الطريقِ على شهوةِ السُّلْطانِ وهَوَى النفسِ.
وكثيرٌ مِن الناسِ بجعلونَ مراتبَ الشرائعِ حسَبَ أهوائِهم؛ فما أحبَّتْهُ النفسُ وسَهُلَ عليها تحقيقهُ، رَفَعُوه، وما شَقَّ عليها، بحَثُوا عن أسبابِ تجاهُلِهِ ووضعِهِ عن مرتبتِهِ؛ قال تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 19]؛ قريشٌ تُحِبُّ سقايةَ الحاجِّ وعِمَارةَ المسجدِ الحرامِ؛ لأنَّ لها به جاهًا، ولأنَّه يحفظُ مكانتَها بين الناسِ، فقدَّمَتْهُ وبالَغتْ فيه، وفرَّطَتْ في توحيدِ اللهِ وعبادتِه.
وقولُ اللَّهِ تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} ؛ يعني: أعطَى المالَ وهو مُحِبٌّ له محتاجٌ إليه، وهذا بيانٌ لتمكُّنِ حبِّ المالِ، وكثيرًا ما يأتي في الشرعِ بيانُ منزلةِ الصَّدَقةِ، وأنَّها تتباينُ بحَسَبِ منزلتِها وقيمتِها عندَ صاحِبِها.
ومِثلُ هذه الآيةِ قولُهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} [الإنسان: 8]، وقولُهُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
روى وكيعٌ، عن الأعمشِ؛ وسُفْيانُ الثوريُّ، عن زُبَيْدٍ؛ كلاهما عن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ؛ قال في قوله تعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} : "أنْ تُعْطِيَهُ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ، تأمُلُ العيشَ، وتخشَى الفقرَ"(1).
ورُوِيَ مرفوعًا؛ من حديثِ شُعْبةَ والثوريِّ، عن منصورٍ، عن زُبَيْدٍ، عن مُرَّةَ، به (2)؛ والوقفُ أشبهُ بالصوابِ.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 288).
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(3078)(2/ 272).