الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحرَّماتِ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: (مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)(1)، فجعَلَ السلامةَ مِن الرَّفَثِ والفسوقِ شرطًا لتكفيرِ الذنوبِ؛ فإنَّ المعاصيَ من الرَّفَثِ والفسوقِ تخفِّفُ الحجَّ فلا يَقْوَى على مغالبةِ الذنوبِ وتكفيرِها عندَ الميزانِ.
وفي الآيةِ والحديثِ: إشارةٌ إلى أنَّ الذنوبَ تَنقُصُ الحسناتِ وتَمْحُوها، كما تَنقُصُ الحسناتُ الذنوبَ وتَمْحُوها، وفيها أنَّ الذنوبَ التي تقترنُ بعملٍ صالحٍ أَعظمُ منَ الذنوبِ المجرَّدةِ؛ فالذنوبُ للمُحرِمِ والصائمِ والمجاهِدِ والمرابِطِ أعظمُ مِن غيرِها؛ لاقترانِها بعبادةٍ، فخَصَّ اللهُ الحجَّ بالذِّكْرِ والتأكيدِ؛ لطولِ أيامِه، بخلافِ الصلاةِ وإنْ كانت أعظَمَ إلا أنَّ وقتَها قصيرٌ؛ فلا يقترنُ معها محرَّمٌ غالبًا؛ لحالِها ولقِصَرِ زمانِها.
دَلَالةُ الاقتران:
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنَّ دَلَالةَ الاقترانِ تدُلُّ على الاشتراكِ بأدنى معاني الحُكْمِ، لا بأَقْصَاهُ، فقرَنَ اللهُ الرفَثَ والفسوقَ والجدالَ بنهيٍ واحدٍ مع اختلافِها في مَرْتَبَتِه؛ فدلالةُ الاقترانِ تدُلُّ على اشتراكِ المقروناتِ في أصلِ الحُكْمِ، لا في مقدارِه؛ فضلًا عن لوازمِه؛ كاشتراكِ هذه المنهيَّاتِ في أصلِ الحُكْمِ.
وأمَّا الاستدلالُ بها على الاشتراكِ في الحُكمِ كلِّه، فلا يصحُّ في قولِ جمهورِ العلماءِ، وظواهرُ الأدلةِ تؤيِّدُهُ؛ كما في قولِه تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وقولِه:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].
والاشتراكُ في أصلِ الحكمِ غالبٌ لا مُطَّرِدٌ أيضًا؛ وهذا خلافًا
(1) أخرجه البخاري (1521)(2/ 133)، ومسلم (1350)(2/ 983).
لقولِ المُزَنِيِّ صاحِبِ الشافعيِّ، وأبي يوسفَ صاحِبِ أبي حنبفةَ، وأهلُ اللغةِ يفرِّقون بينَ واوِ العطفِ وواوِ النظمِ.
واستدلالُ بعضِ الفقهاءِ بالاقترانِ في بعضِ المواضعِ: لا يَعني أنَّه يجعلُها قاعدةً؛ فربَّما جعَلَها قرينةً تَقْوَى في موضعٍ، ولا تَقْوَى في موضعٍ آخَرَ، ولا يُلزَمُ فقيهٌ بما لم يَلتَزِمْهُ وينُصَّ عليه.
وفي قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} : تنبيهٌ إلى عمارةِ الوقتِ بالعملِ الصالحِ، وكما نَهَى عن الرَّفَثِ والفسوقِ والجدالِ، فقد أمَرَ بضِدِّهِ؛ ليُعمَرَ وقتُ الحاجِّ؛ فلا يَجِدَهُ خاليًا فيَعْمُرَهُ شيطانُهُ بالوسواسِ المحرَّمِ وخَطَراتِ السوءِ؛ فإنَّ الإثمَ يبدأُ وسواسًا قبلَ أنْ يكونَ عملًا، وكذلك فإنَّ السيئةَ تُزاحَمُ بالحسنةِ.
وفي الآيةِ: تنبيهٌ إلى طلبِ الإخلاصِ واستدعائِهِ؛ قال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ؛ فإنَّ اللهَ أعلَمُ وأشَدُّ اطِّلاعًا على حالِكُمْ، فراقِبُوا عِلمَ اللهِ بعَمَلِكم، لا عِلْمَ غيرِهِ بكم.
ثمَّ أمَرَ اللهُ بالأخذِ بالأسبابِ الماديَّةِ والشرعيَّةِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، تزوَّدُوا بما يُصلِحُ أنفُسَكم ودُنْياكم، وخيرٌ مِن ذلك زادُ الدِّينِ، وهو التَّقْوَى بالعملِ الصالحِ وتَرْكِ المحرَّمِ، وفي الآيةِ: نهيٌ عن التواكُلِ، وإيجابٌ للأخذِ بالأسبابِ؛ فهي مِن صُنْعِ الله وحُسْنِ تدبيرِه في كَوْنِه.
قال عِكْرِمةُ: "كان أناسٌ يَحُجُّونَ بلا زادٍ؛ فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ"(1).
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ أَعْقَلَ الناسِ أكثرُهُمْ عبادةً وتَقْوَى؛ فإنَّ العقولَ تدُلُّ على اللهِ، وتهدي إليه إلا مَن عطَّلَها بالهَوَى والشهواتِ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 495)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 350).