الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمَّا كان الزوجُ في إدبارٍ مِن زوجتِهِ، ولا بابَ لرَجْعَتِهِ مِن موتِه، وأيَّامُها تربُّصٌ لانقضاءِ العِدَّةِ التي تَخُصُّها لا تخصُّ الميتَ؛ فتخبيبُ الزوجةِ على زوجِها لا يجوزُ، ولو كانت في عِدَّةِ رَجْعَتِها؛ كالتعريضِ لها بالرغبةِ في امرأةٍ مِثْلِها، ونحوِ ذلك؛ فقد جاء في "السننِ" و"المسنَدِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا:(لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ)(1)، وفي الآيةِ رفعُ الجُنَاحِ في التعريضِ للمتوفَّى عنها زَوْجُها في العِدَّةِ، وهو دليلٌ على وجودِ الجُناحِ والحَرَجِ في غيرِ حالِها.
التعريضُ في نكاحِ المعتدَّة البائنةِ:
وعلَّةُ الجُنَاحِ والحَرَجِ والنهيِ عنِ التعريضِ أنَّه رُبَّما رَغِبَتْ في الرَّجْعةِ، ففَتَنَها عن عودتِها لزوجِها، وأمَّا في عِدَّةِ الوفاةِ، فقد أَذِنَ اللهُ بالتعريضِ في العِدَّةِ؛ لانتفاءِ المَفسَدةِ، وهذا في عِدَّةِ المطلَّقةِ غيرِ الرجعيَّةِ كذلك، وقد كَرِهَ الشافعيُّ التعريضَ في المطلَّقةِ عمومًا مِن بابِ الاحتياطِ؛ لأنَّ الرُّخْصةَ جاءَتْ في عِدَّةِ الوفاةِ.
والأظهرُ: جوازُ ذلك في المطلَّقةِ المبتوتةِ؛ لاشتِراكِها في الحالِ مع المتوفَّى عنها زَوْجُها، ولِظاهرِ حديثِ فاطمةَ بنتِ قيسٍ في
(1) أخرجه أحمد (9157)(2/ 397)، وأبو داود (2175)(2/ 254)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9170)(8/ 282).
"الصحيحِ"؛ فقد طَلَّقَها زَوْجُها أبو عَمْرِو بنُ حفصٍ البتَّةَ، قالتْ: فلمَّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ معاويةَ وأبا جَهْمٍ خَطَبَانِي (1).
وكذلك البائنُ؛ لانقطاعِ عِصْمَتِها مِن يَدِ زَوْجِها، وهو المعتمَدُ في المذاهبِ الأربعةِ.
والتعريضُ هو ضِدُّ التصريحِ، ويختلِفُ مِن عُرْفٍ إلى عُرْفٍ، ومِن لُغَةٍ إلى أُخرى؛ كقولِ الرَّجُلِ:"إنْ خَرَجْتِ مِن عِدَّتِكِ، فآذِنِيني".
وقد نَهَى اللهُ عنِ التصريحِ؛ لترخيصِهِ في التعريضِ، ولو جاز التصريحُ، لَذَكَرَهُ ورخَّصَ فيه؛ لأَنَّ تجويزَ التصريحِ يدخُلُ فيه التعريضُ، ولا يدخُلُ في التعريضِ التَّرخيصُ في التصريحِ، بل هو علامةٌ على النهيِ عنه.
وقولُهُ: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} ، الأشهَرُ هو أخذُ ميثاقِها سِرًّا في عِدَّتِها ألَّا تتزوَّجَ إلَّا إيَّاه، ولا يُظهِرُ الأمرَ علانيةً؛ وذلك لأنَّه يجلِبُ مَفاسِدَ عليها وعلى مَنْ واعَدَها، فربَّما عرَّض لها بَعْدَهُ أصلَحُ منه فتندَمُ، ويقَعُ في النفوسِ الشَّرُّ.
ولأنَّ التصريحَ في العِدَّةِ والمواعَدةَ سِرًّا يُخرِجُ المرأةَ مِن حُكْمِها في عِدَّتِها وتعظيمِ حقِّ زَوْجِها الميتِ إلى التعرُّضِ للخُطَّابِ، وربَّما دفَعَها ذلك إلى التساهُلِ في التجمُّلِ والتحلِّي بما يُنهَى عنه مِثلُها في عِدَّتِها.
وربَّما دفَعَها ذلك إلى الكَذِبِ بانقضاءِ عِدَّتِها؛ لطمعِ النفسِ في الزوجِ.
وعلى هذا المعنى: حمَلَ جماعةٌ مِن السلفِ المواعَدةَ في الآيةِ
(1) أخرجه مسلم (1480)(2/ 1114).
على أخذِ الميثاقِ سِرًّا؛ وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ ومجاهِدٍ وابنِ جُبَيْرٍ وعِكْرِمةَ (1).
وهو قولُ مالكٍ والشَّعْبيِّ.
والنهيُ عنِ الإسرارِ بذلك لا يعني جوازَها علانيةً، وذكَرَ الإسرارَ؛ لأنَّ غالبَ مَن يقصِدُ مِثْلَها في عِدَّتِها يُسِرُّ لها؛ لأنَّ التصريحَ يُنهَى عنه سِرًّا وعلانيةً، فخَصَّ النهيَ بالسِّرِّ لِغَلَبةِ وقوعِهِ، فالناسُ لا تجرُؤُ على الخِطْبةِ علانيةً، فقولُهُ:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ} دليلٌ على النهيِ عن التصريحِ بكلِّ حالٍ؛ ما دامَتْ في العِدَّةِ.
وقد أجاز داودُ التصريحَ علانيةً؛ لظاهرِ الآيةِ، وخالَفَهُ ابنُ حزمٍ، فنَهَى عنه مطلَقًا.
وقد حمَلَ بعضُ المفسِّرينَ المواعَدةَ سرًّا في الآيةِ على الزِّنَى وكلِّ سوءٍ يَسبِقُهُ مِن خَلْوةٍ ورؤيةٍ ومَسٍّ؛ قاله قتادةُ والحسَنُ والنَّخَعيُّ (2)، ورجَّحَهُ ابنُ جريرٍ (3).
وتفسيرُ ابنِ عبَّاسٍ وأهلِ المدينةِ ومكَّةَ لمعناهُ: أَوْلى مِن تأويلِ أهلِ العراقِ.
والاستثناءُ في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} مِن التعريضِ العَلَنِيِّ الذي لا يُسْتَحْيَا منه، وهو ما رخَّصَ اللهُ فيه.
ومَن حمَلَ المواعَدةَ سِرًّا على الزنى أو أخذِ الميثاقِ بالزواجِ جعَلَ الاستثناءَ منقطِعًا؛ لأنَّ الإسرارَ بأخذِ ميثاقِ الزَّوْجةِ للزَّوَاجِ مِنها أو الزِّنَى بها: محرَّمٌ ولو كان علانيةً، فلا يسمَّى معروفًا حتَّى يُستثنَى منه معروفٌ جِهَارًا.
ومَن خطَبَ امرأةً في عِدَّتِها، وعقَدَ عليها بعدَ خروجِها مِن العِدَّةِ،
(1)"تفسير الطبري"(4/ 275 - 276).
(2)
"تفسير الطبري"(4/ 272 - 275).
(3)
"تفسير الطبري"(4/ 278).