الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمُ القتالِ في الحَرَمِ:
وهذه الآيةُ معطوفةٌ على الأمرِ بقتالِ المشرِكِينَ حيثُ ثَقِفُوهم؛ وذلك أنَّ اللهَ أمَرَ بقَتْلِهم في كلِّ موضعٍ، ولمَّا كان للحَرَمِ منزِلةٌ تختلِفُ عن غيرِه، احتاجَ للاستثناءِ المقيَّدِ بكونِهم يُقاتِلونَ المسلِمينَ عندَهُ، فجعَلَ اللهُ غايةَ النهيِ بقوله:{حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} .
وذلك لِحُرْمةِ المسجدِ الحرامِ، فإذا خرَمَ حُرْمةَ المسجدِ الحرامِ، فهو مستحِقٌّ للعقوبةِ والتأديبِ؛ لكُفْرِهِ إنْ كان كافرًا، ولاستحلالِهِ حُرْمةَ المسجِدِ الحرامِ أيًّا كان؛ مؤمِنًا أو كافرًا.
واللهُ جعلَ المسجدَ الحرامَ حرامًا؛ لنِسْبَتِهِ إليه؛ فهو حرَمُ اللهِ وبيتُهُ، وكلُّ صَدٍّ عن العبادةِ فيه واستحلالٍ للقتالِ على ذلك: إفقادٌ لأصلِ تلك الحُرْمةِ ونزعٌ لها.
وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ من العلماءِ: أنَّ لِمَكَّةَ حُرْمةً لا بدّ أنْ يَلِيَها مُسلِمٌ، ومجرَّدُ وِلِايةِ الكافرِ عليها مُبيحٌ لقتالِهِ، ولو لم يقاتِلْ؛ لأنَّ وجودَهُ فيها محرَّمٌ، ولو لم يَمْنَعِ المسلِمينَ مِن دخولِها حَجًّا وعُمْرةً؛ حكى الإجماعَ القُرْطُبيُّ عنِ ابنِ خُوَيْزِمَنْدَادَ (1).
وقال: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} ؛ أيْ: هذا حُكْمُهم الأصليُّ لو لم يَلُوذُوا بالحرَمِ، ولكنْ لمَّا قاتَلُوكم عندَهُ، كانت هذه الحالُ لاحِقةً بجَزَائِهم الأصليِّ، وهو وجوبُ القتالِ.
ومَن لاذَ بمكَّةَ ممَّن أصابَ حَدًّا، أو كان فارًّا بحقٍّ، أو عدوًّا
(1)"تفسير القرطبي"(3/ 244).
استَجار بها، فيجوزُ قتالُهُ وقَتْلُهُ؛ لِمَا روى أنسُ بنُ مالكٍ:"أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخَلَ مكَّةَ عامَ الفتحِ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ، فلمَّا نزَعَهُ، جاءَ أبو بَرْزَةَ، فقالَ: ابنُ خَطَلٍ متعلِّقٌ بأستارِ الكَعْبةِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اقْتُلُوهُ) (1)، وابنُ خطلٍ هذا هو عبد العُزَّى - أو: عبدُ اللهِ - ابنُ خطلٍ التَّيْمِيُّ كان مُسْلِمًا فارتَدَّ، فأخَذَ في سَبِّ النبيِّ والطَّعْنِ فيه والتنقُّصِ منه، وصَدِّ الناسِ عنه، فأهدَرَ النبيُّ دمَهُ".
وظاهرُ حديثِ أنسٍ: أنَّ النبيَّ قتَلَهُ لمَّا وضَعَ صلى الله عليه وسلم المِغْفَرَ عن رأسِه، وقدِ انقضَتِ الساعةُ التي أَحَلَّ اللهُ له فيها مَكَّةَ، وانتهتِ الحربُ، فكان قتلُه حَدًّا؛ لِردَّتِهِ، لا محارَبةً؛ كما قاتَلَ المشرِكِينَ في قتالِ المواجَهةِ، فحُكْمُهُ كمَن كان في حُكْمِ المسلِمِينَ وارتَدَّ؛ فدَلَّ ذلك على إقامةِ الحدودِ في مَكَّةَ.
وبهذا قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ.
وقد روى ابنُ المُنذِرِ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ؛ في قولِه عز وجل:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]؛ قالَ: "مَنْ قَتَلَ، أَوْ سَرَق فِي الحِلِّ، ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ، فَإِنَّهُ لا يُجَالَسُ، وَلا يُكَلَّمُ، وَلا يُؤْوَى، وَلَكِنَّهُ يُنَاشَدُ حَتَّى يْخْرُجَ، فَيُؤْخَذَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ مَا جَرَّ، فَإِنْ قَتَلَ أَوْ سَرَقَ فِي الحِلِّ، فَأُدْخِلَ الحَرَمَ، فأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ مَا أَصَابَ، أَخْرَجُوهُ مِنَ الحَرَمِ إِلَى الحِلِّ، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَ فِي الحَرَمِ أَوْ سَرَق، أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الحَرَمِ"(2).
وبهذا قال عطاءٌ ومجاهِدٌ وقتادةُ.
وقال مالكٌ: بإقامةِ الحدودِ مطلقًا.
(1) أخرجه البخاري (1846)(3/ 17)، ومسلم (1357)(2/ 989).
(2)
"تفسير ابن المنذر"(1/ 305).
وقال الشافعيُّ: "إذا التجَأَ المجرِمُ المسلِمُ إلى المسجدِ الحرامِ يضيَّقُ عليه حتَّى يخرُجَ، فإن لم يخرُجْ، جازَ قتلُه"(1).
وقال قتادةُ: "إِنْ سَرَقَ فيه أَحَدٌ قُطِعَ، وَإِنْ قَتَلَ فِيهِ أَحَدٌ قُتِلَ، وَلَوْ قُدِرَ عَلَى المُشْرِكِينَ فِيهِ قُتِلُوا"(2).
ومَن رُوِيَ عنه مِن السلفِ عدَمُ إقامةِ الحدِّ في الحرَمِ، فلا يَظهَرُ أنَّ مرادَهُ إسقاطُ الحدودِ على مَنْ لاذَ بمكَّةَ؛ وإنَّما مرادُهُ أنَّ مَن أصابَ حدًّا في غيرِها ولاذَ بِها: يُخرَجُ مِن الحَرَمِ؛ لِيُقَامَ الحدُّ عليهِ في خارجِه.
والقولُ بعدَمِ إقامةِ الحدودِ في الحرَمِ بحالٍ، وتحريمِ اللائِذِ ولو أصابَ حدًّا فلا يُخرَجُ منه ليُقامَ عليه الحَدُّ في غيرِه: قولٌ لا يعوَّلُ عليه؛ لأنَّ الحقوقَ إنَّما هي لحفظِ حُرْمةِ الناسِ ودمائِهم، ودماؤُهم أعظَمُ مِن حُرْمةِ البيتِ؛ فلا يُسقِطُ الأدنى الأعلى.
وقال أبو حنيفةَ: "لا يُقتَلُ الكافرُ إذا التجَأَ إلى الحَرَمِ، إلَّا إذا قاتَلَ فيه"(3).
* * *
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
بعدَ أنْ كانَ قتالُ المشرِكِينَ إنَّما هو إذا خُشِيَ عُدْوانُهم؛ دفعًا لِصَوْلَتِهم، وعند صدِّهم عنِ المسجدِ الحرامِ، بيَّنَ سبحانَهُ أنَّ للمؤمنينَ
(1)"تفسير النيسابوري"(1/ 391 - 392)، و"تفسير الآلوسي"(1/ 378)، و"التحرير والتنوير"(2/ 205).
(2)
"تفسير الطبري"(5/ 601 - 602)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 712).
(3)
"التحرير والتنوير"(2/ 205).