الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولُهُ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} جعَلَ بعضُ المفسِّرينَ النَّهيَ عن الحَلْقِ معطوفًا على قولِهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، لا على قولِهِ تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقَطْ؛ أيْ: لا تتحلَّلُوا ممَّا كان قد حَرُمَ عليكُمْ حتَّى يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ ممَّا كتبَهُ اللهُ أن يُذبَحَ فيه زمانًا ومكانًا.
وقتُ تحلُّلِ الحُجَّاجِ:
أمَّا الزمانُ: فيومُ النَّحْرِ وما بعدَهُ مِن أيَّامِ التشريقِ، وأمَّا المكانُ: ففي مِنًى أو غيرِها مِن الحَرَمِ لِمَنْ قدَرَ على بَعْثِهِ أن يَبْعَثَهُ، ومَن لم يَقدِرْ على بَعْثِهِ هُناك، فَينحَرُهُ في موضعِهِ، كما فعَلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيثُ نَحَرَ هَدْيَهُ بالحديبيةِ؛ لأنَّه أُحصِرَ فيها، ولم يَنتظِرِ النبيُّ يومَ النَّحْرِ؛ لأنَّه لم يَبعَثْ بِهَدْيِهِ إلى مكَّةَ، فسقَطَ عنه انتظارُ الذبحِ يومَ النحرِ؛ وهذا قولُ ابنِ جريرٍ.
وذهَبَ بعضُ المفسِّرينَ إلى أنَّ قولَهُ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} معطوفٌ على قولِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وليس معطوفًا على قولِه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحَرَ هَدْيَهُ في مكانِه، فيجوز نَحْرُ الهَدْيِ في أيِّ موضعٍ للمُحصَرِ؛ وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وغيرِهما.
مكان ذبحِ هدي المحصَرِ:
والذي يَظهَرُ: أنَّ المُحصَرَ الذي ساقَ الهَدْيَ وقدَرَ على بَعْثِهِ إلى مَكَّةَ؛ أنَّه يبعَثُهُ إلى مَن ينحَرُهُ هناك بمِنًى، وفِعْلُ النبيِّ يومَ الحديبيةِ كان لعجزِه عن الوصولِ إلى مِنًى، وقد كان يبعَثُ بِهَدْيِهِ إلى مَكَّةَ وهو غيرُ حرامٍ؛ ليُنحَرَ يومَ النحرِ بِمِنًى، والمُحصَرُ القادِرُ على بَعْثِ هَدْيِهِ مِن بابِ أَولى؛ قال بهذا عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، وابنُ سِيرِينَ، وقتادةُ، ومُقاتِلُ بنُ حَيَّانَ، وحمَّادٌ، وأبو حنيفةَ، وغيرُهم.
روى ابنُ جريرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَمةَ؛ قال: سُئِلَ عليٌّ رضي الله عنه عن قولِ اللهِ عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : "فإذا أُحصِرَ الحاجُّ، بعَثَ بالهَدْيِ، فإذا نحَرَ عنه، حَلَّ، ولا يَحِلُّ حتَّى يَنحَرَ هَدْيَهُ"(1).
وروى إسحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ في "تَفسيرِه"، والبخاريُّ معلَّقًا في "صحيحِهِ"، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَن نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أوْ غَيْرُ ذلك، فَإِنَّهُ يَحِلُّ، وَلَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ، نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإنِ اسْتَطَاعَ أنْ يَبْعَثَ بِهِ، لم يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ"(2).
ومِن العلماءِ مَن قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحَرَ هَدْيَهُ في الحَرَمِ يومَ الحديبيةِ؛ وهو قولُ عَطَاءٍ، ومحمَّدِ بنِ إسحاقَ؛ وفيه نَظرٌ؛ فالحديبيةُ ليست كلُّها مِن الحَرَمِ على الصحيحِ، بل منها مِن الحَرَمِ، ومنها مِن غيرِه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نحَرَ خَارِجَهُ؛ قالَهُ الشافعيُّ، وقريشٌ أرادَتْ صَدَّهُ عن حدودِ الحَرَمِ، وهي تَعرِفُ حدودَهُ، ورُوِيَ في أحاديثَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعَثَ بهَدْيِهِ إلى حدودِ الحَرَمِ، ورُوِيَ أنَّ اللهَ أمَرَ رِيحًا، فأَخَذَتْ شعورَ الهَدْيِ، فأدخلَتْهُ الحرَمَ، وفيها نَظَرٌ، ولو كان ذلك لاشتَهَر.
ولو كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذبَحَ في الحرَمِ مِن الحديبيةِ، ما جعَلَ اللهُ الصَّدَّ صَدًّا عن الحَرَمِ؛ حيثُ قال:{وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، ومَحِلُّ الهَدْيِ الحرَمُ، ولمَّا كانَ في غيرِ مَحِلِّهِ، فهو في غيرِ الحَرَمِ.
ورُوِيَ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عَن مجاهدٍ؛ في قولِه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : "يَمْرَضُ إنسانٌ أو يُكْسَرُ، أو يَحبِسُه أمرٌ، فغلَبَهُ كائنًا ما كان، فَلْيُرْسِلْ بما استيسَرَ مِن الهَدْيِ، ولا يَحلِقْ رأسَهُ، ولا يَحِلَّ، حتَّى يومِ النَّحْرِ"(3).
(1)"تفسير الطبري"(3/ 367).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 9).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 342).