الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قطعُ نيَّةِ الإحرامِ:
ويتوجَّهُ الأمرُ بالإتمامِ في الآيةِ أيضًا إلى تحريمِ قَطْعِ النِّيَّةِ بلا سببٍ إلَّا المانعَ القاهرَ؛ كالإحصارِ بعدوٍّ؛ ولذا قالَ تعالى بعدَ الأمرِ بالإتمامِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ؛ أيْ: طرَأَ ما يَمْنَعُكم من الإتمامِ، جازَ فسخُهُ وعدمُ إتمامِه.
وقد قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلَمَ: "ليستِ العمرةُ واجبةً على أحدٍ مِن الناسِ، قالَ: فقلتُ له: قولُ اللهِ تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؛ قال: ليس مِن الخَلْقِ أحدٌ يَنبغي له إذا دخَلَ في أمرٍ إلَّا أن يُتِمَّهُ، فإذا دخَلَ فيها، لم يَنْبَغِ له أن يُهِلَّ يومًا أو يومَيْنِ ثمَّ يَرجِعَ، كما لو صامَ يومًا، لم يَنبغِ له أن يُفطِرَ في نصفِ النَّهَارِ"(1).
ومِن المفسِّرينَ مَن يحمِلُ الأمرَ هنا على الإيجابِ بفرضِ الحجِّ؛ وهدا مرويٌّ عنِ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ جُبَيْرٍ وغيرِهما.
معنى إحصارِ المحرمِ:
وقولُهُ تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، المرادُ بالإحصارِ: الحبسُ والمنعُ؛ فكلُّ ممنوعٍ مِن إرادتِهِ، فهو مُحصَرٌ، وقيل: إنَّ الإحصارَ هو المنعُ بلا حبسٍ.
وقال أبو عُبَيْدةَ: "ما كان مِن مَرَضٍ أو ذَهَابِ نَفَقةٍ، قيل فيه: أُحْصِرَ، وما كان مِن سَجْنٍ أو حَبْسٍ، قيل فيه: حُصِرَ، فهو محصورٌ"(2).
وبعضُ العلماءِ لم يفرِّقْ بينَ الحَصْرِ والإحصارِ، وأنَّ المَرَدَّ إلى الأصلِ، وهو المنعُ قَهْرًا؛ ولذا قال ابنُ فارسٍ: "والكلامُ في (حَصَرَهُ) و (أَحْصَرَهُ) مُشتبِهٌ عندي غايةَ الاشتباهِ؛ لأنَّ ناسًا يَجمَعونَ بينَهما،
(1)"تفسير الطبري"(3/ 331 - 332).
(2)
"الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري (ص 115).
وآخَرُونَ يَفْرُقُونَ، وليس فَرْقُ مَن فرَقَ بين ذلك ولا جَمْعُ مَن جمَعَ ناقضًا القياسَ الذي ذكَرْنَاه، بل الأمرُ كلُّه دالٌّ على الحبْسِ" (1).
والمرادُ في الآيةِ: إنْ حبَسَكُمْ شيءٌ عنِ الحجِّ والعُمْرةِ، فما تيسَّرَ ووُجِدَ في أَيْدِيكُم مِن الهَدْيِ الذي سُقتُمُوهُ إلى مَكَّةَ، أن يُذبَحَ في الموضعِ الذي تَمَّ الحصرُ فيه.
وقولُه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} ؛ أيْ: وُجِدَ وسَهُلَ على الإنسانِ؛ روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ؛ في قَوْلِهِ:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؛ قال: "كُلٌّ بقَدْرِ يَسَارَتِهِ"(2).
وأدناهُ مِن الغَنَمِ: شَاةٌ أو مَعْزٌ؛ قال بهذا ابنُ عبَّاسٍ ومجاهِدٌ وعطاءٌ والحسَنُ وعَلْقَمةُ (3)، وبهذا فسره أحمد (4).
وفسَّرَهُ ابنُ عُمَرَ بالجَزُورِ أوِ البَقَرةِ؛ وبهذا قال عُرْوةُ بنُ الزُّبَيْرِ وغيرُهُ (5).
ويتَّفِقُ الفقهاءُ مِن السلفِ على أنَّ أولى ما يقَعُ عليه الإحصارُ هو إحصارُ العَدُوِّ، واختَلَفُوا فيما يَحبِسُ الإنسانَ عن الحَرَمِ مِن غيرِ العدوِّ؛ كالمَرَضِ وضياعِ المالِ، والبحثِ عنه، وغيرِ ذلك، ومِن السلفِ مَن رأى كلَّ حابسٍ للإنسانِ يمنعُه مِن الوصولِ إلى الحَرَمِ، فهو إحصارٌ، له أن يتحلَّلَ به؛ وذلك للاشتراكِ في العِلَّةِ، وهي الحَبْسُ، والحُكْمُ يدورُ مع العِلَّةِ وجودًا وعدمًا، ثمَّ إنَّ الوحيَ لم يَربِطِ الإحصارَ بعدوٍّ؛ وإنَّما أطلَقَهُ؛ كما في الآيةِ، فقالَ:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ، ثمَّ إنَّ غالِبَ أحكامِ القرآنِ تُؤخَذُ على عمومِها ما لم تُقيَّدْ.
(1)"مقاييس اللغة"(2/ 72).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 337).
(3)
ينظر: "تفسير الطبري"(3/ 348 - 353)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 336).
(4)
مسائل ابن منصور (1/ 545).
(5)
ينظر: "تفسير الطبري"(3/ 354 - 356)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 336).
وقد روى ابن جريرٍ، عن عليٍّ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؛ يقولُ: "مَنْ أحرَمَ بحَجٍّ أو بعُمْرةٍ، ثمَّ حُبِسَ عن البيتِ بمَرَضٍ يُجْهِدُهُ، أو عُذْرٍ يَحْبِسُهُ، فعليه قضَاؤُها"(1).
وروى عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عَطَاءٍ؛ قال:"الإحصارُ كلُّ شيءٍ يَحْبِسُهُ"(2).
وروى عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ؛ أنَّه كان يقولُ:"الحَصْرُ: الحَبْسُ كلُّه"(3).
وقال به قتادةُ، وعروةُ بنُ الزُّبَيْرِ (4)؛ وهو الصحيحُ.
ويُغنِي عنِ الدليلِ على عمومِ الإحصارِ ما جاء في "المسنَدِ" و"السُّنَنِ"؛ عن عكرمةَ مِن حديثِ الحَجَّاجِ بنِ عَمْرٍو الأَنْصَاريِّ؛ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ، فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى)، قالَ عِكرِمةُ: فَذَكَرْتُ ذلك لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَا: صدَقَ (5).
ورُوِيَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ خلافُ قولِه السابقِ، وأنْ لَا إحصارَ إلَّا إحصارُ العَدُوِّ؛ رواهُ طاوسٌ، وعَمْرُو بنُ دينارٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ (6).
وحمَلَ بعضُ الفقهاءِ قولَ ابنِ عبَّاسٍ هذا على أنه قصَدَ سبَبَ نزولِ الآيةِ؛ يعني: أنَّها لم تنزِلْ في حصرِ مَرَضٍ، ولم يُرِدِ ابنُ عبَّاسٍ حَصْرَ الحُكْمِ؛ وإنَّما أرادَ حَصْرَ سببِ النزولِ؛ والدليلُ على ذلك: أنَّه ثبَتَ عنهُ وعن غَيرِ واحدٍ مِن أصحابِه - العُذْرُ بحَصْرِ غيرِ العَدُوِّ على ما تقَدَّمَ.
وقال بعدَمِ الإحصارِ بغيرِ العدوِّ: ابنُ عُمرَ، وثبَتَ عنه أيضًا
(1)"تفسير الطبري"(3/ 343).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 342 - 343).
(3)
"تفسير الطبري"(3/ 342).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 343).
(5)
أخرجه أحمد (15731)(3/ 450)، وأبو داود (1862)(2/ 173)، والترمذي (940)(3/ 268)، والنسائي (2861)(5/ 198)، وابن ماجه (3077)(2/ 1028).
(6)
"تفسير الطبري"(3/ 345)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 336).
القولُ بالإحصارِ بالمرَضِ؛ فقد روى مالكٌ، عَن سُلَيمانَ بنِ يَسَارٍ:"أنَّ ابنَ عُمْرَ ومَرْوانَ وابنَ الزُّبَيْرِ أفْتَوُا ابنَ حُزَابَةَ المَخْزوميَّ، وقد صُرِعَ ببعضِ طريقِ مَكَّةَ وهو مُحرِمٌ: أنْ يتداوى بما لا بدَّ له منه، ويَفتدِيَ، فإذا صَحَّ، اعتَمَرَ؛ فحَلَّ مِن إحرامِه، وكان عليه أن يحُجَّ عامَ قابلٍ، ويُهدِيَ"(1).
ولعلَّه أرادَ مَنْعَ قَبُولِ الإحصارِ مِن أيِّ مرَضٍ إلَّا المَرَضَ الذي يَحبِسُ الإنسانَ حبسًا يُشابِهُ حَبْسَ العدوِّ؛ فالعدوِّ يُخشى منه الهَلَكةُ، وأمَّا المَرَضُ الذي يستطِيعُ معه المُحرِمُ الوصولَ ولو محمولًا على دَابَّةٍ بلا كُلْفةٍ كبيرةٍ ولا خوفٍ على نَفْسِه، فلا يشابِهُهُ.
وهذا هو الأليقُ بجمعِ الأقوالِ التي ظاهِرُها التعارضُ في هذه المسألةِ عن الصحابةِ.
وفي هذا دفعٌ للتساهُلِ الذي يَعرِضُ للناسِ بِقطعِ النُّسُكِ عندَ كلِّ عارضٍ مِن العوارضِ الصِّحِّيَّةِ أو النفسيَّةِ أو الماليَّةِ.
والهَدْيُ هو ما ساقَهُ أو بعَثَهُ أو قصَدَ الإنسانُ ذَبْحَهُ بمَكَّةَ مِن بهيمةِ الأنعامِ؛ مِن الإبلِ - وهي أعظَمُها - ثمَّ البَقَرِ، ثمَّ الغنَمِ، وكانتِ العربُ تعظِّمُها حتَّى في الجاهليَّةِ، ومِن العرَبِ مَن يُقسِمُ بها مِن دُونِ اللهِ تعظيمًا لها.
قال قيسُ بنُ ذَرِيحٍ:
وَلَوْ تَعْلَمِينَ الغَيْبَ أَيْقَنْتِ أَنَّنِي
…
لَكُمْ وَالهَدَايَا المُشْعَرَاتِ صَدِيقُ
وقال الآخَرُ:
حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالهَدَايَا
…
وَأَيْدِي السَّابحَاتِ غَدَاةَ جَمْعِ
(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(عبد الباقي)(1/ 362).