الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصغيرُ يتعذَّرُ على الناسِ امتثالُهُ على وجهِ التَّمَامِ، والشريعةُ لا تُوجِبُ ما يَشُقُّ أو يتعذَّرُ كدَيْنِ صاعِ البُرِّ والمُدِّ، والدِّرْهمِ والدرهمَيْنِ، أو أَخْذِ السِّكِّينِ والإناءِ والدَّلْوِ والحَبْلِ وديعةً وأمانةً.
وَيرَى عطاءٌ الإشهادَ على البَيْعِ ولو قليلًا حتَّى ثُلُتِ الدِّرْهَمِ.
وقولُهُ: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أيْ: أعدَلُ عندَ اللهِ، واستعمالُ "أَفعَلِ" التفضيلِ قرينةٌ على أنَّ الكتابةَ والشهادةَ لكمالِ القِسْطِ والعَدْلِ، وأنَّ تَرْكَها ليس جَوْرًا وظُلْمًا.
وشهادةُ الشاهدِ على خطِّهِ - أنَّه هو - ليست بشهادةٍ إذا لم يذكُرْ ما شهِدَ عليه؛ لأنَّ اللَّهَ يقول: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} ، فالكتابةُ تقوِّمُ الشهادةَ وتذكِّرُ بها، لا تُثِبتُها بنفسِها؛ وبهذا قال أكثَرُ العلماءِ.
وجوَّز مالكٌ الشهادةَ اعتمادًا على الخَطِّ، وصَحَّ القولُ به عن طاوُسٍ مِن التابِعينَ.
الترخيصُ بتركِ كتابةِ بعضِ العقودِ:
وقولُهُ تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، رخصَ اللهُ في عدمِ كتابةِ التجارةِ الموصوفةِ بوصفَيْنِ:
الأول: {حَاضِرَةً} ؛ أي: يَتِمُّ فيها التقابُضُ مِن المتبايِعَيْنِ، وفي معنى الحاضِرةِ: التجارةُ في سُوقِ البَلَدِ الواحدِ الذي يحضُرُ فيهِ المتبايِعانِ ويتجاوَرانِ في السُّوقِ كلَّ صباحٍ للبَيْعِ والشِّرَاءِ، وليست غائبةً عن أَعْيُنِهما في بلدٍ بعيدٍ يُرتَحَلُ إليه؛ فالتِّجَارةُ الغائبةُ مَظِنَّةُ التأخُّرِ والغيابِ والخطورةِ والنِّسْيانِ؛ فتضيعُ الحقوقُ.
وأهلُ السوقِ الحاضرِ يختلِفُونَ عن أهلِ السوقِ الغائبِ؛ فأهلُ التجارةِ المتجاوِرُونَ يأنَسُ بعضُهُم لبعضٍ، وَيعرِفُ بعضُهم بَعْضًا، ونفعُ
بعضِهم لبعضٍ كثيرٌ، وحاجتُهُمْ دائمةٌ بينَهُم، فجحودُ الحقِّ ونُكْرَانُهُ ضعيفٌ، والكتابةُ شاقَّةٌ على القليلِ والكثيرِ بينهم.
الثاني: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} ، الدائرةُ التي يتعامَلُ بها أهلُ السوقِ في يومِهِم وليلتِهِم، فيكثُرُ أخذُهُم فيما بينَهم وإعطاؤُهم، فيكثُرُ بينَهُمُ المالُ في الذِّمَّةِ، ويتعذَّرُ كتابةُ كلِّ ذلك لصعوبتِه وكثْرَتِهِ.
فخَفَّفَ اللهُ في أمرِ الكتابةِ، وحثَّ على الإشهادِ في التجارةِ الحاضِرةِ الدائِرةِ؛ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ؛ لأنَّ الكتابةَ شاقَّةٌ بمثلِ هذه التجارةِ، وأمَرَ بالإشهادِ لسهولتِهِ؛ حفظًا للحقوقِ، ودفعًا للخصوماتِ؛ فإنَّ أكثَرَ الخصوماتِ هي بسببِ التساهُلِ في البيِّناتِ عند العقودِ.
الضررُ محرَّمٌ مِن الشهودِ والكاتبِ والمُمْلِي، وهم أمَناءُ على الحقوقِ؛ فَلا يجوزُ للكاتِبِ أن يزيدَ وينقُصَ فيما يُمْلَى عليه، ولا للشاهدِ كذلك فيما يَسْمَعُ وَيرَى.
وكان عمرُ وابنُ مسعودٍ يقرآنِ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (1) - يُضارَرْ: بالمَبنيِّ للمجهولِ - أيْ: لا يَضُرَّ أصحابُ الحقوقِ الكاتِبَ والشهيدَ عندَ طلبِهِمُ الكتابةَ والشهادةَ، ويُلِحُّوا عليهِم ويُلْزْمُوهُمْ، فيُعطِّلُوا مَصَالِحَهُمْ وراءَهُمْ فتَضِيعَ؛ وبهذا قال ابن عبَّاسٍ ومجاهِدٌ وغيرُهُما (2).
والفسوقُ في الآيةِ: الإثمُ المترتِّبُ على الخروجِ عن أمرِ اللهِ وامتثالِ طاعتِهِ.
(1)"تفسير الطبري"(5/ 114).
(2)
"تفسير الطبري"(5/ 115 - 116).