الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لاختلافِها عنِ الشمسِ، فالشمسُ تطلُعُ وتغيبُ على صفةٍ واحدةٍ بلا نقصانٍ ولا زيادةٍ، وأمَّا الأهِلَّةُ، فتبدُو دقيقةً، ثمَّ تكبَرُ حتى تستديرَ بَدْرًا، فبيَّنَ اللهُ لنبيِّهِ وللناسِ الحِكْمةَ من ذلِك؛ أنَّ أعمالَ الناسِ لا بُدَّ لانضباطِها مِن زمَنٍ تدورُ عليهِ؛ سواءٌ كان ذلك في أمورِ العباداتِ، أو المُعامَلاتِ، أو العاداتِ، فضَبَطَ مواعيدَ الناسِ في العملِ، والبيعِ والشراءِ، والمأكلِ والمَشْرَبِ، والنكاحِ والطلاقِ، والعِدَّةِ والحَمْلِ، والإيلاءِ والنذورِ، وغيرِ ذلك؛ ولذلك قالَ تعالى:{مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} .
الحكمةُ مِن اختلافِ الأهلَّة:
وهذا المعنى في القرآنِ في مواضِعَ؛ كقولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5].
وقولِه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء: 12].
والمعروفُ: أنَّ إحصاءَ الأهِلَّةِ أيسَرُ مِن إحصاءِ أيامِ الشهرِ؛ لأنَّ الأيامَ تُنسَى ما لم تُضبَطْ بِالكتابةِ والوثائقِ، فيُعرَفُ منزِلةُ اليومِ من الشهرِ، فإذا اختَلَّ حسابُ الأيامِ، جاءَ هلالُ الشهرِ الآتي، وصحَّح على الناسِ وهَمَهُمْ في حسابِ الأيامِ السابقةِ، وهكذا كلَّما نَسُوا، جاءتِ الأهلةُ ضابطةً.
وقد جعَلَ اللهُ الأهلَّةَ على صفاتٍ متعدِّدةٍ منضبطةٍ، تدورُ عليها بلا خَلَلٍ ولا اضطِرابٍ، وتقوِّمُ الناسَ بضبطِ ما تُحدِثُهُ وتصنعُهُ من ضوابطَ زمنيَّةٍ؛ كالسَّاعاتِ على الأفلاكِ، كالشمسِ والقمرِ طلوعًا وغروبًا ونقصانًا، وتختلُّ آلاتُهم ويُعيدونَ ضبطَها على ما خلَقَهُ اللهُ، وأتقَنَ ضَبْطَه.
هذا هو الإنسانُ يَضبِطُ ساعتَهُ الزمنيَّةَ وساعتَهُ الآليَّةَ كلَّما اختَلَّتْ على ضبطِ اللهِ لسَيْرِ الشمسِ والقمرِ المنضبِطِ منذُ أوَّلِ الخَلْقِ، ثمَّ هو يُفاخِرُ ويتكبَّرُ على اللهِ بدقتِهِ:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
وأولُ الإنسانِ لا يَعرِفُ معنى الأهِلَّةِ، والحِكْمةَ مِن إيجادِها وتنوُّعِها، وآخِرُهُ يُفاخِرُ ويُكابِرُ على الله بدقَّتِه:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15].
روى ابنُ جريرٍ؛ مِن حديثِ سعيدٍ، عن قَتَادةَ؛ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ؛ قال قَتَادةُ: "سألُوا نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ: لِمَ جُعِلَتْ هذه الأَهِلَّةُ؟ فأنزَلَ اللهُ فيها ما تَسْمَعُونَ: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}، فجعَلَها لِصَوْمِ المسلِمِينَ ولإفطارِهِم، ولِمَناسكِهم وحجِّهم، ولِعِدَّةِ نسائِهم، ومَحَلِّ دَيْنِهم، في أشياءَ، واللهُ أعلمُ بما يُصلِحُ خَلْقَه"(1).
ورواه عنِ العَوْفِيِّ عنِ ابنِ عبَّاسٍ (2).
وعباداتُ الخَلْقِ مركَّبةٌ مِن فِعْلٍ وزمَنٍ؛ ولهذا جاءتِ الشرائِعُ بِضبطِ الفعلِ بصفةٍ، وتحديدِ الزَّمَنِ بوقتٍ منه.
واللهُ إنَّما أعلَمَ الناسَ بما يحتاجُونَ إليه في ظاهرِ الأمرِ مِن الأهِلَّةِ، ويُبْصِرونَ حكمتَهُ لو تأمَّلُوا بأدنى تأمُّلٍ، وترَكَ ما دون ذلك ممَّا دَقَّ مِن منافعِ الأهِلَّةِ الذي ربَّما لا تُدرِكُهُ عقولُهم حينَها، ويستعصِي عليهم فهمُه، وربَّما شكَّكُوا في صدقِه.
وبهذا المَنهَجِ يتأسَّى العالِمُ في تعليمِ الناسِ ونفعِهم؛ يُزِيلُ الإشكالَ، ويَغرِسُ الإيمانَ، ولا يخوضُ فيما يتسبَّبُ في عكسِ مقصودِهِ من غرسِ الشكِّ والجحودِ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 280).
(2)
"تفسير الطبري"(3/ 282)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 322).
وفي الآيةِ: دليلٌ على قيمةِ الزمنِ، وأنَّ اللهَ خلَقَ النَّيِّرَيْنِ الشمسَ والقمرَ، وهما أعظَمُ أجرامِ المَجَرَّةِ نفعًا؛ جعَلَهُما لمنافِعَ، مِن أهمِّها ضبطُ الوقتِ، ولمَّا خلَقَهُما اللهُ لأَجْلِ زمنِ الناس، دلَّ على إِكرامِ الله لِبني آدمَ، وأنَّه فضَّلَهم على المخلوقاتِ؛ بأنْ سخَّر المخلوقاتِ لهم، ولَم يسخِّرْهُمْ للمخلوقاتِ كالشمسِ والقمرِ، وإنَّما سخَّرَ اللهُ الناسَ له وحدَهُ، فأوجَبَ عبادتَهُ عليهم، ولكنَّ الإنسانَ كفورٌ مبينٌ.
وكلَّما كان الإنسانُ لِزَمَنِهِ أضبَطَ، كان لعَمَلِهِ أتقَنَ، وأضيَعُ الناسِ لحسابِ زمنِهِ أضيعُهُمْ لعَمَلِهِ؛ لأنَّ أفضلَ الأعمالِ وأجوَدَها ما انضبَطَ بالزمنِ، وأقلَّها ما أُنجِزَ على التراخِي.
وفي الآيةِ: دليلٌ على وجوبِ معرِفةِ الآجالِ للبيعِ والمساقاةِ والمؤاجَرةِ عند عامَّةِ العلماءِ.
ثمَّ ذكَرَ اللهُ الحجَّ بِقولِه: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ؛ وهذا مِن بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتمامِ به؛ وذلك لبيانِ أنَّ الأهِلَّةَ مواقيتُ للناسِ في سائرِ أعمالِهِم، ولضبطِ مواقيتِ الحجِّ.
وهذا لا يعنِي تقديمَ الحجِّ على ما يَسبِقُهُ مِن أركانِ الإِسلامِ؛ كما في حديثِ ابنِ عُمَرَ في "الصحيحَيْنِ": (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ. . .)؛ الحديثَ (1)، وما في حديثِ أبِي هريرةَ في قصةِ جبريلَ حينَما سُئِلَ عن الإِسلامِ، قَالَ:"الإسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ. . ."؛ الحديثَ (2)؛ وذلك لأنَّ الصلاةَ إنَّما تُعرَفُ مواقيتُها بالشمسِ، لا بالأَهِلَّةِ، ثمَّ إنَّ الاهتمامَ بالحجِّ لكونِهِ يحتاجُ إلى ضبطٍ وتحرٍّ؛ فالناسُ يَجْهَلونَ أَمْرَهُ أكثرَ مِن غيرِهِ كالصيامِ والزكاةِ التي تدورُ
(1) أخرجه البخاري (8)(1/ 11)، ومسلم (16)(1/ 45).
(2)
أخرجه مسلم (8)(1/ 36).