الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فآيةُ البقرةِ نَصَّتْ وما خَصَّتْ، والنصُّ يكون لمزيدِ اهتمام؛ فالمطلَّقةُ بلا دخولٍ ولا فرضٍ يَغلِبُ على الظَّنِّ إسقاطُ حقِّها، وأَنَّ النفوسَ تَرَى أنْ لا حَقَّ لأحدِ الزوجَيْنِ على الآخَرِ، فأَرَادَتِ الآيةُ التنصيصَ عليها بالمُتْعةِ.
والشريعةُ تَنُصُّ على بعضِ المسائلِ بالذِّكْرِ لأمرَيْنِ:
أوَّلًا: لأهميَّتِها وفضلِها على غيرِها بنوعِ فَضْلٍ، أو خَصُوصِيَّةٍ بحُكْمٍ.
ثانيًا: أنَّ مِثْلَها يَغلِبُ تفويتُهُ، فأرادَتِ التأكيدَ عليه، ولا يعني هذا فضلَ المذكورِ على غيرِه.
ولذا نَصَّتْ آيةُ البقرةِ على المطلَّقةِ المفوّضَةِ بلا مَسٍّ ولم تخصِّصْها.
والقولُ الثالثُ: أنَّ المتعةَ خاصَّةٌ بالمطلَّقةِ غيرِ المدخولِ بها ولم يُفرَضْ لها صَداقٌ؛ لظاهرِ آيةِ البابِ؛ وبهذا يقولُ ابنُ عُمرَ ومجاهِدٌ وجماعةٌ؛ كأحمدَ وغيرِه.
والقولُ الرابعُ: أنَّ المُتْعةَ مستحَبَّةٌ لكلِّ مطلَّقةٍ، وليست واجبةً، ويُحمَلُ قولُهُ تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] على الاستحبابِ، لا على الوجوبِ؛ وهذا قولُ مالكٍ وشُرَيْحٍ واللَّيْثِ.
وقرينةُ الاستحبابِ عنْدَهم: أنَّ آكَدَ المُتْعةِ متعةُ المفوَّضةِ؛ فلا مَهْرَ ولا دخولَ، وهي المذكورةُ في الآيةِ، ومع ذلك قال تعالى:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ؛ فجعَل اللهُ ذلك على أهلِ الإحسانِ، والإحسانُ فضلٌ؛ فاللهُ يَقولُ:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91].
متعةُ المفوَّضةِ ومهرُهَا:
ومِنَ العلماءِ: مَن جعَلَ المتعةَ واجبةً في المفوَّضةِ بلا دخولٍ، وأمَّا
غيرُها مِن المطلَّقاتِ، فمُتْعَتُها مستحَبَّةٌ؛ وذلك أنَّ الزوجةَ المطلَّقةَ قبلَ المَسيسِ والفَرْضِ تُشابِهُ المطلَّقةَ قبلَ المَسيسِ وقد فُرِصَ لها، فجعَلَ اللهُ لها نِصْفَ المفروضِ، ولا اختلافَ بينَهما إلَّا في عدَمِ تسميةِ المهرِ، وتسامُحُ الزوجَيْنِ في عدَمِ تسميةِ المهرِ لا يُسقِطُ حقَّها، ولكنْ يُتَسامَحُ فيه فيُجعَلُ متعةً مفروضةً، كما جُعِلَ للأُخرى نصفٌ مفروضٌ؛ وهذا أقربُ إلى الصوابِ وإحكامِ الشارعِ.
ووجوبُ المُتْعةِ أَوْلى ما تدخُلُ فيه المفوَّضةُ؛ للآيةِ التي خَصَّتْها، وبقيَّةُ الآياتِ عَمَّمَتْ، ولأنَّها أحوَجُ مِن غيرِها، وتستحِقُّ شيئًا مَثيلًا لِمَن شابَهَها، وهي مَن طُلِّقَتْ بلا دخولٍ مع مَهْرٍ، ففرَضَ اللهُ لها النصفَ، وجعَلَ اللهُ حقَّ المفوَّضةِ المُتْعةَ؛ وذلك أنَّ المهرَ حقٌّ لها، فجعَل اللهُ حقَّها منه المُتْعةَ؛ لأنَّ مَهْرَها مفوَّضٌ، ورَضِيَتْ بعَدَمِ تسميتِهِ وتسامَحَتْ، فلها متعةٌ، لا فَرْضُ نصفِ مَهْرِ المِثْلِ.
وإنَّما يسَّر اللهُ فيها ولم يشدِّدْ، وجعَلَ مُتْعةَ المفوَّضةِ على وُسْعِ المقتدِرِ والمقتِرِ؛ لأنَّ عدَمَ تسميةِ المهرِ أمارةٌ على التسامُحِ بين الزوجَيْنِ، والنفوسُ التي تَبدَأُ متسامِحةً خروجُهَا متسامِحةً أقرَبُ، وتركُ الحقِّ المفروضِ ابتداءً بلا تسميةٍ شبيهٌ بإعذارِ الزوجِ وعَدَمِ التشديدِ عليه؛ ولذا كان السلفُ لا يُعاقِبونَ على تَرْكِه، ويَكِلُونَهُ إلى المروءةِ، ولم يَكُنِ القُضاةُ يَحبِسُونَ تاركَ مُتْعةِ النكاحِ؛ فقد روى ابنُ أبي حاتِمٍ؛ مِن حديثِ أبي إسحاقَ، عنِ الشَّعْبيِّ؛ قال: ذكَرُوا له المُتْعةَ؛ أيُحبَسُ فيها؟ فقرَأَ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ؛ قال الشَّعْبيُّ: "واللهِ، ما رأيتُ أحدًا حبَسَ فيها، واللهِ، لو كانت واجبةً، لَحَبَسَ فيها القُضَاةُ"(1).
ولهذا؛ فالفقهاءُ لا يَضرِبونَ للمطلَّقةِ المفوَّضةِ بلا دخولٍ سَهْمًا مع
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 443).