الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكَرِهَها قومٌ؛ لقولِه: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، وشَرِبها قومٌ، لقوله:{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ، حتَّى نزَلَتْ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، قال: فكانُوا يَدَعُونها في حِينِ الصلاةِ، ويَشرَبونَها في غيرِ حينِ الصلاةِ، حتَّى نزلَتْ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، فقال عمرُ: ضَيْعَةً لَكِ! اليومَ قُرِنْتِ بالميسِرِ! " (1)
والخمرُ ممَّا وقَعَ الخلافُ في تحريمِ الشرائعِ السابِقةِ لها، والكتُبُ السابقةُ فيها ما يُشِيرُ إلى هذا وهذا، واللهُ أعلَمُ.
وقولُه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} .
المرادُ بالعفوِ: ما زادَ وفضَلَ عن حاجةِ النَّفْسِ والزَّوْجةِ والوَلَدِ؛ روى مِقسَمٌ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال:"العفوُ: ما فضَلَ عن أهلِك".
وقال بهذا عطاءٌ وقتادةُ وغيرُهما (2).
التوسُّطُ في النفقةِ:
وفيه: الحَثُّ على التوسُّطِ في النَّفَقةِ، وعدَمِ السَّرَفِ، والسَّرَفُ بالنفقةِ: أنْ يُنفِقَ الإنسانُ نفقةً تَضُرُّ مَن تجبُ عليه كِفَايَتُهم؛ كوالِدَيْهِ وأولادِه وزَوْجِه؛ فهو يقدِّمُ مستحَبًّا على واجبٍ.
وأمَّا تقديمُ أبي بكرٍ لمالِهِ كلِّه ولم يُبْقِ لهم إلَّا اللهَ ورسولَهُ، فذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استَنْفَقَ الناسَ، وهو في حُكْمِ النَّفِيرِ، ثمَّ إنَّ أبا بكرٍ لم يجرِّدْ أهلَهُ مِن المالِ الذي يقومُونَ به مِن مَلْبَسِهم ومَرْكَبِهم ومَسْكَنِهم القائِمِينَ عليه، فهو لم يَبِعْ بيتًا ولا بِسَاطًا ولا مَرْكَبًا؛ وإنَّما أنفَقَ مالَهُ ممَّا زاد عى ذلك من نَقْدٍ وعَيْنٍ.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 681).
(2)
"تفسير ابن حاتم"(2/ 393).
وفي الحثِّ على النفقةِ بفضلِ المالِ: إشارةٌ إلى النهيِ عنِ الخمرِ والميسرِ بلا تصريحٍ؛ فاللهُ نَهَى عنِ الإنفاقِ للهِ بإسرافٍ مع كونِهِ قُرْبةً، فكيف بما يفعَلُهُ الناسُ مِن إهدارِ المالِ لغيرِ اللهِ؟ !
وفي ذلك: أنَّ اللهَ لمَّا حَرَّمَ عليهِم إهدارَ المالِ في الخمرِ والميسِرِ، أرشَدَهُم إلى إنفاقِه؛ وذلك أنَّ بعضَ النفوسِ تميلُ إلى الميسِرِ؛ لفَضْلِ مالٍ عِنْدَهُ وزيادةٍ فيه، فالنفقةُ في ذلك خيرٌ وأَبْقَى مِن الميسِرِ.
وفيه امتحانٌ للنفوسِ؛ فما تُنْفِقُهُ في حرامٍ بحُجَّةِ رضا النفسِ وطِيبِها به، فما تفعلُ فيما يجبُ عليها ويُستحَبُّ؟ ! هل تَطِيبُ النفسُ به وتَدْفَعُهُ فيه كذلك، أم تَشُحُّ وتُمسِكُ؟ !
وفي ذلك: إشارةٌ إلى أنَّ المالَ إذا صُرِفَ في حرامٍ، تعطَّلَتْ مصالِحُ النفقةِ الواجبةِ والمستحَبَّةِ فيه.
وقيلَ: المرادُ بالعفوِ: أفضلُ المالِ وأطيَبُهُ؛ قاله الربيعُ وقتادةُ (1).
وقولُه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ إعمالَ الفِكْرِ والعَقْلِ لا يَنتَهِي بالإنسانِ إلَّا إلى مرادِ اللهِ؛ وإنَّما العَيْبُ في قصورِ الفِكْرِ وضَعْفِ النَّظَرِ.
واللهُ يبيِّنُ للناسِ الغاياتِ، ويختصِرُ لهم توضيحَ النهاياتِ؛ ليَصِلُوا بعقولِهِم إليها بإدنى تأمُّلٍ، وأقربِ تفكُّرٍ.
وإنَّما ذكَرَ اللهُ {الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كما في الآيةِ التالية [البقرة: 220]؛ لأنَّ التفكُّرَ فيهما والتوازُنَ بينهما هو طريقُ الوصولِ إلى النتائجِ الحَقَّةِ؛ فالتفكُّرُ في المادِّيَّاتِ - وهي الدُّنيا - مجرَّدًا عن أمرِ الآخِرةِ: يُورِثُ جَهَالةً في الدِّينِ، والتفكُّرُ في أمرِ الآخِرةِ وتعطيلُ التفكُّرِ في منافعِ الدُّنيا: يُورِثُ تعطيلًا للدُّنيا.
(1)"تفسير الطبري"(3/ 689)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 393).
وأكثرُ الخَلَلِ في نتاتجِ تفكُّرِ العقولِ، أنَّها تضعُفُ في تأمُّلِ الحقيقةِ؛ إمَّا في الدُّنيا أوِ الآخِرةِ؛ فتضطَرِبُ نتائجُها، فمَن لا يُؤمِنُ بجَدْوَى حُكْمِ اللهِ، فهو تفكَّرَ فيما يَراهُ مِن دُنْياهُ، لا فيما يراهُ مِن عاقبتِهِ ممَّا غاب عنه في الدُّنيا والآخِرةِ.
* * *
كانتِ العربُ تتوسَّعُ في مالِ الأيتامِ، ومالُهُمْ في غالبِهِ يحتاجُ إلى إدارةٍ وتصرُّفٍ؛ لأنَّه لا يُنتفَعُ به إلَّا بذلك؛ فغالِبُ مالِ العربِ إمَّا زَرْعٌ وغَرْسٌ أو ماشِيَةٌ، والنَّقْدانِ فيهم قليلٌ، والزَّرْعُ والغَرْسُ والماشيةُ تحتاجُ إلى رعايةٍ حتَّى تُخرِجَ وتُدِرَّ وتُنتِجَ، فكان لا بُدَّ مِن عائلٍ لها، وربَّما تَساهَلَ أقوامٌ بأَخْذِ أموالِ اليتامى، وزادُوا في أخذِ حقِّهم، وترخَّصوا بالزِّيَادةِ على ما يَستحِقُّونَ، وربَّما جعَلُوها خُلْطةً مع مالِهم بلا تمييزٍ، وغلَبَ تقديرُهُمْ لحظِّ أنفُسِهِمْ على أيتامِهم؛ فأنزَلَ اللهُ على نبيِّهِ قولَهُ:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ، فخاف كثيرٌ منهم لإيمانِهِ، وتورَّعَ عن قربِ مالِ اليتيمِ، وتردَّدَ كثيرٌ، حتَّى زهِدَ الناسُ في رعايةِ الأيتامِ وتنميةِ مالِهم.
روى ابنُ المنذِرِ، وابنُ جريرٍ، عن عَلِيٍّ، عن ابنِ عَبَّاسٍ؛ فِي قولِهِ عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قَالَ: ذلك أَنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَزَّ - لمَّا أَنْزَلَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآيةَ [النساء: 10] ، كَرِهَ المُسْلِمونَ أَنْ يَضُمُّوا الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ، وَتَحَرَّجُوا أَنْ يُخَالِطُوهُمْ فِي شَيْءٍ، وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - جَلَّ وَعَزَّ -: