الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوِّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ.
وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ في غيرِ وِلَايتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌّ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما لا يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه.
وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحتَ رايةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال:(مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ)(1)، ولم يطلُبْ هو مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه.
شروطُ جهاد الدفعِ:
وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلِها الدفعُ عن حِمَاهُم؛ كلٌّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالًا أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ.
وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفعٍ، كما في قولِه:{وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} ؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِنْ أَرْضِهم، فلم
(1) أخرجه البخاري (2731)(3/ 197)، وانظر: ابن هشام في "السيرة"(2/ 324).
يتمكَّنوا مِن الدفعِ، فاجتمَعُوا في غيرِ أرضِهم بعدَ إخراجِهِمْ، فأرادُوا القتالَ بإمامٍ لتمكُّنِهِمْ مِن تحقيقِ ذلك.
وإذا تمكَّنَ أهلُ البلدِ مِن الاجتماعِ على إمامٍ يقاتِلُونَ معه عن أرضِهِمْ وعِرْضِهِمْ ودَمِهِمْ، وجَبَ عليهم ذلك ولو كان جهادَ دفعٍ، وإنَّما سقَطَ وجوبُ الإمامِ عن جهادِ الدفعِ؛ لأنَّ الغالِبَ العجزُ عن تحقُّقِهِ والتمكُّنِ منه، وإذا اتَّسَعَتِ البلدُ، وعجَزُوا عن الاجتماعِ على إمامٍ واحدٍ، فيجتمِعونَ جماعاتٍ ما أمكَنَهُمْ، وإذا مُكِّنُوا اجتمَعُوا على جماعةٍ واحدةٍ.
المسألةُ الثانيةُ: سُمِّيَ القتالَ في الآيةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ، مع كونِهِم يقاتِلُونَ بسببِ إِخراجِهم مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ، لا لإعلاءِ كلمةِ اللهِ وإقامةِ حُكْمِه؛ وذلك لأنَّ جِهادَ الدفعِ عنِ النفسِ والعِرْضِ والمالِ لا تُشْترَطُ له نِيَّةٌ، لما جاءَ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: قالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)(1)، وفي "السننِ"؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ مرفوعًا:(مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ)(2).
* * *
(1) أخرجه البخاري (2480)(3/ 136)، ومسلم (141)(1/ 124).
(2)
أخرجه أبو داود (4772)(4/ 246)، والترمذي (1421)(4/ 30)، والنسائي (4095)(7/ 116).
جعَلَ اللهُ لبني إِسرائيلَ طَالُوتَ مَلِكًا يقاتِلُ بهم، ويقاتِلُونَ معه، وذكَرَ اللهُ نزاعَهُم بعد طلبِهم منه الملِكَ، فرَأَوْا أنَّهم أحَقُّ منه بالوِلَايةِ؛ وذلك لأنَّهم رأَوْا مِن أمرِ دنياه ما لا يستحسِنُونَهُ بنفوسِهِم، فاستنقَصُوهُ نَسَبًا؛ فكانَ مِن سِبْطِ بِنْيامِينَ، ولم يَكُنْ بهم مَمْلَكةٌ ولا نُبُوَّةٌ؛ قالَهُ قتادةُ وغيرُه (1).
وروى عمرُو بنُ دِينَارٍ، عن عِكْرِمةَ؛ قال:"كان طالوتُ سَقَّاءً يَبِيعُ الماءَ"؛ أخرجَهُ ابنُ جريرٍ (2)؛ ولذا قالُوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} .
وهذه المآخِذُ ليست محلَّ تفضيلِهِ عليهم في القتالِ؛ ولذا قالَ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ، وشروطُ الوِلَاياتِ تختلِفُ بحَسَبِ منازلِها؛ فوِلَايةُ الجهادِ تختلِفُ عن ولايةِ الإمامِ في الصلاةِ، ووِلَايةِ المالِ، وولايةِ القضاءِ والحدودِ، وولايةِ الأيتامِ والأعراضِ.
والمقصودُ بالعلمِ هنا هو: العِلْمُ بالقتالِ والحربِ، والكَرِّ والفَرِّ، وأَحكامِ العدوِّ رجالًا ونساءً وشيوخًا، وأحكامِ المهادَنةِ والمسالَمةِ؛ حتَّى لا يقَعَ الظلمُ.
قال وهبُ بنُ منبِّهٍ وغيرُهُ في عِلْمِ طالوتَ: "هو العِلْمُ بالحربِ"(3).
(1)"تفسير الطبري"(4/ 450، 453).
(2)
"تفسير الطبري"(4/ 450).
(3)
"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 466).