الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفضلُ مِنَ الصلاةِ في المسجدِ الأقدَمِ والأكبَرِ حجمًا إذا كانتْ فيه الجماعةُ أقلَّ؛ لظاهرِ النصوصِ، ولأنَّ الشريعةَ حَثَّتْ على الاجتماعِ أكثَرَ من تحديدِ مكانِهِ، إلا المساجدَ الثلاثةَ.
وقولُهُ: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} إنَّما تَتِمُّ المعيَّةُ وتتحقَّقُ؛ باكتمالِ الموافَقةِ بدنًا واعتقادًا:
فما يُمكِنُ فيه الاجتماعُ وشُرِعَ ذلك جماعةً، فالمعيةُ أكملُ بتحقُّقِهما، كالصلاةِ جماعةً ونحوِ ذلك؛ ولذا لمَّا أمَرَ اللهُ إبليسَ بالسجودِ مع الملائكةِ لآدمَ، ولم يسجُدْ، وتخلَّفَ عن موافقتِهم جماعةً، جعَلَ ذلك مخالَفةً لأمرِهِ، فقال:{قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 32]، وذكَرَ حالَهُ:{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 31].
وما شُرِعَ فيه العملُ منفردًا ولم يُؤمَرْ به جماعةً، وجاء الأمرُ به بقولِهِ:{مَعَ} ؛ كقولِهِ تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فيفعلُهُ الرجلُ في خاصَّتِهِ مع جماعةِ الناسِ الذين يُشارِكونَهُ هذا الوصفَ؛ فيكونُ مع الصادِقينَ بتَقْواهُ هو، وبالإسرارِ في مواضعِ الإسرارِ، والعلانيَةِ في موضعِ العلانيَةِ.
وجوبُ صلاة الجماعةِ:
واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على وجوب صلاةِ الجماعةِ؛ ويؤيِّدُ ذلك ما جاء في "الصحيحينِ"، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا، لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ)(1).
(1) أخرجه البخاري (2420)(3/ 122)، ومسلم (651)(1/ 451).
ونقَلَ غيرُ واحدٍ إجماعَ الصحابةِ على ذلك؛ حكاهُ ابنُ تيميَّةَ؛ وهو كذلك (1).
وحكى الكاسانيُّ - مِن الحنفيَّةِ - العملَ عليها جيلًا بعدَ جيلٍ، وأنَّ ذلك أَمَارَةٌ على وجوبِها (2).
ويُنقَلُ في كلامِ فقهاءِ الحنفيَّةِ: أنَّ الجماعةَ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ؛ ومُرادُهم بذلك الوجوبُ؛ ويفهمُهُ بعضُ الفقهاءِ على أنَّ المرادَ بذلك: ما يُخالِفُ التأكيدَ بالوجوبِ؛ وفي هذا نظرٌ؛ قال علاءُ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيُّ في "تُحْفةِ الفقهاءِ": "إنَّ الجماعةَ واجبةٌ، وقد سمَّاها بعضُ أصحابِنا: سُنَّةً مؤكَّدةً؛ وكلاهُما واحدٌ"(3).
وبنحوِه قال الكاسانيُّ وغيرُه (4).
والشافعيُّ ينصُّ على الوجوبِ في كتابِه "الأمِّ"؛ قال: "فلا أرخِّصُ لِمَن قَدَرَ على صلاةِ الجماعةِ في تركِ إتيانِها، إلا مِن عذرٍ"(5).
وقال النوويُّ: "وهذا قولُ اثنَيْنِ مِن كبارِ أصحابِنا المتمكِّنِينَ في الفقهِ والحديثِ؛ وهما: أبو بكرِ بنُ خُزَيْمةَ، وابنُ المُنْذِرِ. . .". (6).
وجماهيرُ أصحابِ أحمدَ على الوجوبِ، وهو المشهورُ عنه، وعنه روايةٌ أُخرى بالسُّنِّيَّةِ (7)؛ وفيها نظرٌ.
ويظهَرُ لي: أنَّه يرَى سُنِّيَّةَ الجماعةِ في المسجدِ إذا لم تعطَّلْ، فتعطيلُها فيها حرامٌ، وأصلُ الجماعةِ واجبٌ عندَهُ؛ إذا لم تتحقَّقْ في البيتِ، ففي المسجدِ.
(1) ينظر: "الفتاوى الكبرى"(2/ 270).
(2)
ينظر: "بدائع الصنائع"(1/ 155).
(3)
"تحفة الفقهاء"(1/ 227).
(4)
ينظر: "بدائع الصنائع"(1/ 155).
(5)
"الأم" للشافعي (1/ 180).
(6)
"المجموع"(4/ 184).
(7)
ينظر: "المغني"(2/ 130)، و"الكافي"(1/ 287)، و"الإنصاف"(2/ 210).
وفي "الصحيحِ": قال ابنُ مسعودٍ: "وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، لَضَلَلْتُمْ"(1).
وكثيرٌ مِن فقهاءِ المتأخِّرينَ مِن الحنفيَّةِ والشافعيَّةِ والمالكيَّةِ، يرَوْنَ استحبابَ صلاةِ الجماعةِ في المسجدِ (2).
ومذهبُهُمْ - وإنْ كان لهم سلفٌ فيه - إلا أنَّه يخالِفُ مذهبَ أئمَّتِهم وظواهرَ الأدلَّةِ، ولبعضِهم كلامٌ في عدمِ إيجابِ الصلاةِ في المسجدِ لمَن يَجِدُ الجماعةَ في غيرِه، ويظُنُّ بعضُ النقَلَةِ له: أنَّه لا يرَى وجوبَ الصلاةِ في الجماعةِ مطلَقًا؛ حيثُ لا يفرِّقونَ بينَ المسألتينِ: بينَ وجوبِ إجابةِ النداءِ في المسجدِ للجماعةِ فيه، وبينَ وجوبِ الجماعةِ بعينِها.
* * *
كتَبَ اللهُ على بني إسرائيلَ مِن أصحابِ موسى قَتْلَ أنفسِهم؛ عقابًا لهم على اتِّخاذِ العجلِ مِن دونِ اللهِ معبودًا، وهو الظُّلْمُ المقصودُ في الآيةِ:{ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، والشِّركُ أعظمُ الظلمِ؛ كما في قولِه تعالى:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
(1) أخرجه مسلم (654)(1/ 453).
(2)
ينظر: "اللُّباب، في الجمع بين السُّنَّة والكتاب"(1/ 252)، و"العناية، شرح الهداية"(2/ 324)، و"جامع الأمهات"(1/ 107)، و"مختصر خليل"(1/ 40)، و"روضة الطالبين"(1/ 339)، و"نهاية المحتاج"(2/ 133).